عبد الرحيم محمود: فارس الوطن.. فارس القصيدة

تمهيد:


هل ثمة شاعر يمكن أن يكتب قصيدة فائقة الجمال تخلّد نضال ثورة من ثورات الشعوب؟
وهل ثمة مناضل يمكن أن يختزل القصائد كلها في دمٍ أراقه على مذبح هذه الثورة؟


إذا وُجد مثل هذا الشاعر، وقد وُجد في ثورتنا الفلسطينية، فإنه يمثل أنبل ما يمكن أن ينجزه المبدِع الذي يعيش قضيته.
وإذا وُجد مثل هذا المناضل، وقد وُجد في ثورتنا الفلسطينية، فإنّه يبلغ من الخلود غايته النبيلة، ومن المجد ذروته السامقة.
ولكن!
ماذا يمكن أن يقول الخلود؟ وكيف يمكن أن يصف المجد رجلاً جمع الأمرين معاً، إذ كتب قصيدة الثورة بدمه، وسقى تراب فلسطين أعذب القصائد؟
إنّه عبد الرحيم محمود، ذلك الشاعر الذي حفظنا، منذ نعومة أظفارنا، بيتيه الشهيرين:


سأحمل روحي على راحتي / وألقي بها في مهاوي الردى
فإمّا حياة تسرُّ الصـديقَ / وإمّا ممـاتٌ يغيظ العدى


ترى: بم يعلل أصحاب علم النفس الأدبي والاجتماعي هذه الظاهرة: أن يحفظ جيل كامل من الأطفال بيتين من شعر الثورة، دون قسرٍ من أحد، قبل أن يعرفوا كنه الشعر؟ وقبل أن يدركوا حقيقة الثورة؟


حين يقرأ المرء عن فكرة الالتزام في الأدب تقفز إلى خاطره نماذج كثيرة في الأدب، وحين يبحث عن شعراء جسّدوا قصائدهم فكرة والتزاماً تقلُّ هذه النماذج، غير أني الآن أستحضر حكاية مقتل المتنبي الذي قتله بيت شعره المشهور:


الخيلُ والليـل والبيـداء تعرفني والسيف والرمحُ والقرطاسُ والقلمُ


أستحضر هذه الحكاية التي تعني، إنْ صحَّت، أنَّ المرء يمكن أن يموت في سبيل كلمة قالها، من أجل أن يحقق كيانه الفردي، وهذا ما فعله شاعرنا الشهيد عبد الرحيم محمود الذي لم يكتفِ بالوفاء لبيت قاله، بل بقي وفياً لقصائد كان يبحث عن تجسيدها عبر الشهادة، من أجل تحقيق ذوبان الذات في تحقيق الإرادة الجمعية للشعب العربي المكافح، ونجح في ذلك نجاحاً باهراً، بعد أن بحث عن تحقيق هذا الحلم، من خلال تنقله بين فلسطين والعراق، ومن خلال تدرُّبه في الشام على السلاح، ومن خلال سقوطه في ساحة الوغى عام 1948 قبل أن تسقط البلاد في أسر الاحتلال الصهيوني.


أولاً ـ من الميلاد إلى الشهادة:


ولد عبد الرحيم محمود في قرية عنبتا التابعة لقضاء طولكرم عام 1913م، لأسرة مناضلة، عُرف فيها أبوه الشيخ محمود بغزارة علمه، وبوقوفه المستمرّ في وجه المحتلين والطامعين، وبمواجهة الظلم الاجتماعي بأشكاله كافة، حتى توفّي عام 1919، تاركاً خلفه الطفل عبد الرحيم، ذا السنوات الست، الذي درس الابتدائية في مدرسة قرية عنبتا، ثم التحق بمدرسة طولكرم المتوسطة، ليتربّى من ثمَّ على قيم حبّ الوطن، والاستعداد للجهاد والاستشهاد في سبيله، على يد عدد من المدرسين في مدرسة النجاح الوطنية في نابلس (جامعة النجاح حالياً) الذين كان أبرزهم الشاعر إبراهيم طوقان ود.محمد فروخ، وأنيس الخولي، وقدري طوقان، فتشرَّب منهم حب المعرفة، والاعتزاز بالنفس والوطن، والثورة ضدَّ الظلم، ومقاومة المحتل البريطاني والصهيوني. وإذ تخرج عبد الرحيم في هذه المدرسة عام 1931عمل فيها مدرساً للغة العربية، وحمل الراية في بث روح الجهاد في طلابه، إلى أن تركها عام 1936 ليلتحق بالثورة الفلسطنينة الكبرى التي انطلقت عام 1936.


ويجمع دارسو الشاعر الشهيد على أنه كان نابغة في اللغة العربية، وعلوم الدين والتاريخ، ويعرف المتخصصون في لغة الشعر قوة السبك الشعري عند هذا الشاعر ومتانة التراكيب وجزالة الألفاظ التي تحيل على مرجعيات تراثية دينية وثقافية مختلفة. وقد كان في أثناء تدريسه في مدرسة النجاح مخلصاً للغة العربية أيّما إخلاص، إذ كان يحاضر، بعد انتهاء الدرس المقرّر، في مزايا خصائص اللغة العربية الفصحى، ويرغّب فيها طلابه، ويقلي عليهم عيون القصائد من الشعر القديم (مثل قصائد المتنبي) ومن الشعر المعاصر (مثل قصائد إبراهيم طوقان وأبي سلمى)، كما كان يحفزهم على حفظ الشعر العربي وإلقائه، متحسّراً على ما آلت إليه العربية الفصحى قائلاً:


لهفي على الفصحى رماها معشرٌ من أهـلها شُلَّتْ يمينُ الرامي


مع اندلاع ثورة 1936 التحق عبد الرحيم محمود بالثوار في نابلس تحت قيادة القائد عبد الرحيم الحاج محمد الذي استشهد عام 1939 ورثاه الشاعر في قصيدة طويلة منها:


أإذا أنشدتُ يوفيك نشيدي حقك الواجـبَ يا خير شهيدِ
أيّ لفظٍ يسـعُ المعنى الذي منكَ أستوحيه يا وحيَ قصيدي
لا يحيط الشعر فيما فيك مِن خُلُقٍ زاكٍ ومن عـزمٍ شـديدِ
كملت فيك المـروءاتُ فلم تُبقِ فيـها زائـداً للمسـتزيدِ


وإثر إجهاض الثورة ببطش الأعداء، ومؤامرات الأصدقاء والإخوان، طاردت حكومة الانتداب البريطاني المناضلين، وضيّقت عليهم، فهاجر شاعرنا إلى العراق حيث أمضى ثلاث سنوات، ودرّس اللغة العربية بادئ الأمر، وكانت له هناك مساجلات مع الرصافي والجواهري، وفقاً لما تقوله أحلام يحيى في كتابها صبّ الغمام ، وقد كتب في تلك المرحلة قصيدته التي تصور شوقه وحنينه إلى

فلسطين، بلغة عشقٍ رومانسية دافقة، ومنها:


تلك أوطـاني وهـذا رسمها في سـويداء فـؤادي محتفرْ
يتـراءى لي عـلى بهجـتها حيثما قلّـبتُ في الكونِ النَّظرْ
في ضياء الشمس في نور القمر في النسيم العذب في ثغر الزهَرْ
في خرير الجدول الصافي وفي صخَب النهـر وأمواج البَحَرْ
في هتون الدمع من هول النوى في لهيب الشوق في قلبي استعَرْ
دقة الناقوس معـنى لاسمـها واسمها ملء تسـابيح السحَرْ


وإذ أتيحت له الفرصة، التحق بالكلية الحربية في بغداد، وتخرّج فيها ضابطاً برتبة ملازم، وشارك في ثورة رشيد علي الكيلاني، ثم عاد إلى فلسطين عام 1942 بعد إخفاق هذه الثورة، وتابع التدريس في مدرسة النجاح في نابلس.
وإثر صدور قرار تقسيم فلسطين عام 1947 عادت ثورة الشعب العربي الفلسطيني إلى التفجُّر، وانطلق الشاعر عبد الرحيم محمود إلى بيروت في مطلع عام 1948، ثم غادرها إلى دمشق من أجل تلقي التدريبات العسكرية التي انضم بعدها إلى جيش الإنقاذ. وقد جعلت كلُّ هذه التنقلات التي قام بها الشاعر بحثاً عن حلم ضائع منه مناضلاً مغامراً، على حدّ تعبير الأستاذ خالد علي مصطفى، الذي أشار إلى اشتراكه بالثورات في الأماكن التي وُجِد فيها .
وينقل الأستاذ محمد أبو عزة عن عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى) ذكرياته الأخيرة مع عبد الرحيم، إذ يقول أبو سلمى: “في حوالي منتصف عام 1948 لم يعد يسمع في فلسطين إلا صدى طلقات متفرقة في لواء الجيل، كنت ماراً بجانب نهر بردى في دمشق فإذا بالشاعر الفارس عبد الرحيم محمود أمامي، وقفنا وتحدثنا طويلاً ثم افترقنا وأنا معجب بهذه الفتوة العارمة، وهذه الثورة التي لا يزال يطل وهجها من عينيه، ثم عدت وسألت عن عبد الرحيم في الفندق فقالوا: لقد ذهب إلى فلسطين، لقد عز عليه أن تخمد النار، كما لو كان استمرار اشتعالها أمراً يخصه هو بالذات قبل أي شخص آخر، وقبل أي اعتبار، فإذا هو يحمل بندقيته وينطلق ليقاتل مع من بقي من المقاتلين في جبال الجليل” .
استشهاده:


عاد عبد الرحيم محمود، إذاً، إلى فلسطين مرة أخرى، واشترك في معركة (بيار العدس) مع سرية من فوج حطين، وفي معركة (راس العين)، وفي المعارك التي شهدتها الناصرة، ثم خفَّ مع رفاقه من جيش الإنقاذ لنجدة أهالي قرية الشجرة، على طريق طبريا، تلك القرية التي سقطت في يد المحتلّ، وتمّكن الثوار من تحريرها بعد معارك استمرت خمسة أيام بلياليها (8-13 تموز/ يوليو)، بعد أن قدّموا 300 شهيد، على الرغم من أن الصهاينة استخدموا الطائرات الحربية، وفي اليوم الأخير من هذه المعركة ارتقى الشاعر الشهيد عبد الرحيم محمود إلى العُلا على سُلَّم الشهادة، إذ أن أصابته شظية من مدفع، عندما كان على رأس مجموعة من رفاقه، فسقط جريحاً، وحاول رفاقه نقله في سيارة جيب إلى مشفى الناصرة، بينما كانوا يرددون على مسامعه هذه الأبيات :


لعمرك هذا ممات الرجال فمن رام موتاً شـريفاً فذا
فقلبي حديد وناري لظى بقلبي سأرمي وجوه العدى


غير أن القدر لم يمهله حتى يصل إلى الناصرة حيّاً، فوصلها شهيداً، ودفن فيها في الثالث عشر من تموز (يوليو) 1948 مُخَلِّفًا وراءه زوجته وابنيه (الطيب وطلال) وابنته (رقيَّة)، وأعمارهم بين أربعة الأعوام والعام الواحد.
هكذا ‌‏عاش عبد الرحيم محمود: كانت حياته تتنقّل بين جهاد العلم والأدب وبين جهاد البندقية، فانتمى إلى الزمن الذي عاشه بين عامي 1913 ـ 1948، وهو زمن مثقل بالأحداث السياسية، إذ سقطت فيه الخلافة العثمانية، واحتلّ البريطانيون والفرنسيون سورية ولبنان وفلسطين، وصدر وعد بلفور المشؤوم، وفُرض الانتداب على فلسطين، وقامت الثورة الفلسطينية الكبرى، وسلّم البريطانيون فلسطين لليهود، معتقدين أنها ستكون لقمة سائغة..
ويستطيع قارئ عبد الرحيم محمود أن يطالع صور هذه الأحداث الكبيرة التي مرت بها القضية العربية في خلال حياته، عبر أبيات شعره التي تمّ جمعُها في ديوان، طبع عدة مرات، في أماكن مختلفة من الوطن العربي. غير أن أفضل طبعات ديوانه كانت تلك التي حققها وقدم لها الأستاذ عز الدين المناصرة، وصدرت في دمشق عن دار الجليل، عام 1988.


ثانياً ـ الشعر الوطني:


على الرغم من أنَّ الشاعر الشهيد عبد الرحيم محمود عرف، أكثر ما عرف، بالشعر الوطني، وعلى وجه الخصوص بقصيدتيه عن الشهيد، وعن زيارة الملك سعود للمسجد الأقصى، فإنَّ المتتبع لشعره يجد أغراضاً لا تقلُّ أهمية عن الغرض الوطني؛ ولا سيّما في طبعة دار الجليل التي أشرف عليها الأستاذ عز الدين المناصرة، لأنها أضافت على سابقاتها كثيراً من القصائد التي فتحت الآفاق على رؤية أكثر شمولاً للشاعر الذي قدّم نفسه شاعراً وطنياً وقومياً وإنسانياً، ينتمي لمجتمعه، ويدافع عن طبقاته المسحوقة، مثلما يدافع عن قيمه الدينية، وتقاليده الاجتماعية.

فقد رافق عبد الرحيم محمود تطورات القضية الفلسطينية، وعبّر عن المراحل التي مرت بها في قصائده المختلفة، وطرح خلالها موقفاً واضحاً، ينحاز لمشروع المقاومة، ويواجه عسف الطغاة والمحتلين، بدءاً من مجابهته ذلك الوعد المشؤوم الذي أعطاه آرثر بلفور لليهود عام 1917، إذ كان يكتب عنه في المناسبات المختلفة، ويذكّر الإنكليز بغدرهم وخسّتهم، ومن ذلك ما قاله في قصيدة حملت عنوان “وعد بلفور” قالها في نابلس عام 1936، ويذكر فيها كيف استنصر الإنكليزُ العرب، وكيف تدافع العرب لنصرتهم:


وأتى الحليفُ وقام في أعتابنــا متحيراً إنّا هُــدى المتحيـِّـرِ
واستنـصر العـرب الكرام وإنهم غـوث الطريد ونصرة المستنصرِ
وإذا عتاق العرب توري في الدجى قدحاً وتصهل تحت كل غضنفر
ثم يشير الشاعر إلى غدر هذا الحليف، مهدِّداً إياه بأنَّ السُّيوف التي أنقذته سترتدُّ على كل غادر لئيم، فيقول:
غدرَ الحليف، وأيّ وعد صانه؟ يوماً وأيّـة ذمــة لم يخفــرِ؟
لما قضى وطـراً بفضل سيوفنا نسـي اليد البيضــا ولم يتذكرِ
يا ذا الحليف: سيوفنا ورماحنا لم تنثلم فاعلــم ولم تتكسَّــرِ
بالأمس أبلت في عداك وفي غد في كل قلـب غادرٍ متحجــرِ


وثمة قصيدة أخرى تتناول هذا الوعد المشؤوم، ألقاها الشاعر في فندق فلسطين عام 1947، وكان قد أعطاها عنوان “أحاجي في ذكرى وعد بلفور”، وفيها يغمز من قناة الإنكليز واليهود، ويعرّض بالزعماء الفاسدين، ومنها الأحجية التي تقصد الإنكليز، وفيها يسأل الشاعر عن ذلك البخيل الذي لم يعطِ الفقراء شيئاً مما يملك، غير أنه يجود للشحّاذ اليهودي مما ليس يملكه، فيقول ساخراً:


زعَمُوا أنّ بخيلاً لم يَــجُدْ في حيــاة لفـقـير بنـقيرِ
عاش في الناس غصوباً حقَّهم ورماهم بخـــراب وثـبورِ
جاءه الشحـاذ يوماً سائـلاً بعض ما يملك من مـال وفـيرِ
وهب الشـحاذ ما ليـسَ له يا لطيب النفس والقلب الكبيرِ !


ويشير معظم الدارسين إلى سمة مهمة من سمات شعر الشاعر الشهيد، بالإضافة غلى نضجه الفني، وهي صفاء حدسه الذي دفعه إلى استيعاب الخطر الذي يحيق بفلسطين في سنّ مبكّرة، وها هوذا يقف في الثانية والعشرين من عمره بين يدي الأمير سعود بن عبد العزيز الذي جاء يزور الأقصى، ليقول قصيدته الشهيرة التي منها:


يا ذا الأميرُ أمـامَ عينك شاعرٌ‌‏ ضُمَّت على الشكوى المريرة أضلعُهْ‌‏ ‏
المسجد الأقصـى أجئتَ تزورُه‌‏ أم جـئت من قَبْلِ الضياع تودِّعُهْ‌‏؟
حُرَمٌ تُبَاحُ لكلّ أوكـعَ آبِـقٍ ولكـل أفّـاقٍ شـريدٍ أرْبُعُـهْ‌‏ ‏
وغَدًا، وما أدناه، لا يَبقى سوى دمعٍ لنا يهمي وسِــنٍّ نَقْـرَعُهْ


ويبيّن الشاعر الشهيد موقفه من المجلس التشريعي الذي عاد المندوب السامي “آرثر اكهوب” يحمل مشروعه من لندن عام 1936، فيشير إلى أنّ هذا المندوب يحمل فُتاتاً، لا يسمن ولا يغني، سوى أولئك الذين يبحثون عن الكراسي، فيقول:


في جيبه لُعَـبُ الهوى يلهو به الصب اللعوب
لكَ في حقيبته نصيبٌ فاخـرٌ بئس النصيب


وتظهر في قصائد الشاعر المبكرة تلك الروح النَـزّاعة للشهادة، تلك الروح التي حملها على راحته، وقدّمها على مذبح الوطن، ليبدو مشروع شهيدٍ، منذ كان في الرابعة والعشرين، إذ كان يطرب لسماع دويّ القنابل، وأصوات المدافع، وتدفّق الدماء، ما دام كل ذلك يتم دفاعاً عن الوطن المقدّس:


سأحمـل روحـي على راحتي وألقـي بها في مهاوي الردى
فإمـا حيـاةٌ تسـر الصـديق وإما ممـات يغيـظ العـدا
أرى مصرعي دون حقي السليب ودون بلادي هـو المُبتـغى
لَعَمْرُكَ هـذا ممـات الرجـال ومن رَامَ موتـًا شـريفًا فَذَا


وتظهر في قصائد الشاعر فكرة مهمة جداً، وقد جسّدها شعراً وتطبيقاً، وهي أنّ تقريع المقصّرين، وتأنيب المتقاعسين، يسبقه استعداد ذاتي، بل فطري، للتضحية، فهو يقول في واحدة من قصائده:


دعَا الوطنُ الذبيـحُ إلى الجهادِ فَطار لِفَرْطِ فَرْحَتِه فؤادي
وَسابَقْتُ الريـاحَ، ولا افتخارٌ أَلَيْسَ عليّ أن أَفْدِي بِلادِي
حَمَلْتُ عَلَى يَدِيْ رُوحي وقلبي وما حَمَّلتُها إلا عَـتادي


وهو إذ يفصح عن هذا الاستعداد للتضحية، وقد عبّر باستشهاده عن التزامه بأبلغ تعبير، فإنه ينتقل إلى موقع الهجوم على الفاسدين والمتقاعسين والجبناء، وهو يأوي إلى ركن شديد، يجعله في مقدمة الذين يدعوهم إلى السير في طريق النضال، وها هو ذا يقول:


وقلتُ لمن يخاف من المنايا: أتَفْرَقُ من مجـابهة العوادي؟
أتقعدُ والحمى يرجوك عوناً وتجبن عن مصاولة الأعادي؟
فدونَك خدر أمّك فاقتعده وحسبُك خسّة هذا التهادي


ويلاحظ قارئ شعر عبد الرحيم محمود تكراراً لافتاً لكلمة الشعب، إذ يبدو “الشعب” جزء من نسيجه الشعري، وهو عنده مسكين بحاجة إلى توعية، ولكنه إذ يعي ما يجري حوله يتحوّل بركاناً ثائراً في وجه الطغاة، إنه – على الرغم من سذاجته في بعض الأحيان- معقد أمل الشاعر في معركة التحرير.
غير أنَّ الأخطاء التي “يرتكبها الشعب” في شعره لا تصل حدود الخيانة والتقصير، وعدم الاستعداد للتضحية، بل تقف عند حدّ تسليم رقابه للحكام غير المؤهلين لحمل راية المقاومة:


يا شعبُ يا مسكينُ لم تُنكَبْ بنكبتك الشـعوبُ
قلّدتَ أمـركَ من بهم لا يرجـع الحقّ الغصيبُ
لهفي عليـك ألا ترى يا شعب حولك ما يريبُ


أما خارج حدود “تسليم الرقاب للحكام” فإنَّ الشعب يبدو في شعر عبد الرحيم محمود رافضاً للذل والمهانة، قادراً على تحقيق المعجزات، فهو يقول في قصيدة أخرى:


شعبٌ تمرّسَ في الصِّعاب ولم تنل منه الصعابْ
متمـرّدٌ لم يـرض يوماً أن يقرَّ عـلى عذابْ
نحنُ الألى هـابَ الوجودُ وليس فينا من يهابْ
إنْ تجهلِ العجبَ العجابَ فإننا العجبُ العجابْ


إنَّ استخدام الضمير “نحن” في السياق السابق يشير إلى انتماء الشاعر إلى الشعب العربي الفلسطيني، فهو واحد من المتمردين على القهر والعذاب، وهو واحد من الذين عرفوا الطريق إلى استقلال الوطن؛ فالاستقلال لا يتم إلا بمقارعة العدو، والحقّ لا يعود لأصحابه إلا بالنار والحديد:


عرف الطـريقَ لحقّـه ومشى له الجُدَدَ الصوابْ
الحـقُّ ليـس براجـعٍ لذويـه إلا بـالحـرابْ
والصرخة النكراء تجدي لا التلطـف والعتـابْ
والنار تضمن والحديدُ لمن تسـاءل أن يُجـابْ
حكّمهـما فيـما تريد ففيهما فصـلُ الخطابْ


وفي المقابل أبرز الشاعر صورة القيادة الفاسدة التي لم تكن مؤهلة لخوض معركة الأمة، وميّز بين القيادات التي تبحث عن “الكراسي”، وبين القيادات العسكرية التي قدّمت الروح رخيصة في سبيل الوطن. وقد كان حديثه عن القادة السياسيين مليئاً بالحدّة والسخرية والمرارة، ومن ذلك قوله:


رأيتُ يـوماً للخِطا باتِ زعيماً قـائما
قد جمـع الناس لكي يسمعهم شـتائما
وصبَّ في آذانـهم من عنده مزاعـما
ولم يُبـالِ إن يمـو توا كي يظلّ سالما
وأن يغوصوا في الرزايا، ويظـلّ عائما


ثالثاً ـ الشعر القومي والديني:


امتزج مفهوما العروبة والإسلام في وجدان الكثيرين، ذلك أنَّ الإسلام اعتمد في معظم فتوحاته على العنصر العربي، وأن القرآن الكريم نزل بلسان عربي مبين، مما جعل الفصل بين العروبة والإسلام يبدو تعسفيّاً.
لذلك كان طبيعياً أن يحتفي الشاعر مع المحتفين بإحياء معركة القادسية، وأن يلقي قصيدة “أنشودة التحرير” في حيفا 1946في المهرجان الشعري الذي أقيم بتلك المناسبة، وأن يستخدم ضمير المتكلم الجمعي في تلك القصيدة، مبيّناً سبب النصر فيها، وسبب تراجع الأمة في العصر الحديث:


لم تكُ القادسـية الشـهيرة إلا أسـطراً من سـفرِ عزٍّ شهيرِ
هي لغز الألغاز كيف يكون الـ ـقَلُّ نصراً على العديد الوفيرِ
عـبرةٌ ليتـنا قد قبـسنا النُّـ ـور منها في مـدلهمّ الأمورِ
حين صرنا إلى الخلاف فقُـدْنا سربَنا ضِلَّة لسـوء المصـيرِ


وقد تجلّى ذلك الامتزاج تجلّياً واضحاً في شعره الذي أراد من خلال شعره أن يجعل ما جرى في فلسطين جزءاً من أرق الإنسان العربي والمسلم، لذلك كان كثير من قصائده يخاطب العرب والمسلمين عامة، والفلسطينيين خاصة، ومن ذلك قصيدته الشهيرة التي نختار منها هذه الأبيات:


‌‏قل: لا، وأتبِعْها الفِعَالَ ولا تُرَعْ‌‏ وانظر هنالك كيف تُحنى الهامُ‌‏ ‏
اصهر بنارك غُلَّ عُنْقِكَ ينصهر‌‏ وعلى الجماجم تُرْكَز الأعـلامُ‌‏ ‏
وأقم على الأشلاء صرحك إنما‌‏ من فوقه تُبنى العُـلا وتُـقـامُ‌‏ ‏
وخذ الحقوق إليك لا تَسْتَجْدِها‌‏ إن الألى سـلبوا الحقـوق لئامُ‌‏ ‏
هذي طريقك للحياة، فلا تَزُغْ‌‏ قد سارها مِنْ قـبلك القَسَّـامُ ‌‏


لقد كان هذا الشاعر يصرُّ في شعره على انتمائه العربي والإسلامي، وثمة قصائد كثيرة تجسّد هذا الانتماء، ومن ذلك ما قاله منكِراً على المثمثّلين بالغرب هذا التمثل المريض الذي يقوم على الانبهار والخضوع:


إن يرفعوا ما انقضَّ من بنيانهم فالضّـاد أوّلُ حائطٍ ودعامِ

إن يزهُ شرقي بغير العرب مَن أجـدادِه الأتـراك والأروامِ
فأنا الفخور بأنني لا ينتـمي للعُجْم أخوالي ولا أعمـامي
إن تسألوا عني: إلى من أنتمي فإلى رعـاة النُّـوق والأنعامِ
أبغير مجد بني نـزار ويـعرب يزهى عراقي ويفخر شامي ؟


وانطلاقاً من هذا الموقف القومي فإنَّ الشاعر يهتمُّ بما يجري في الدول الشقيقة، ويساند ما تشهده من الثورات الشعبية، ضد المحتلّ الغاصب، ومن ذلك القصيدة التي عبّر فيها عن مساندته للثورة السورية الباسلة ضدّ المحتلين الفرنسيين، ومنها هذه الأبيات:


أبتْ رقّاً، وحطَّمَت الصِّفادا وسارت فوق أمجـادٍ تهادى
سعت سوريةٌ، وسعى بنوها لأمر أحسـنوا فيه الجِـلادا
تملَّكَ حبُّ الاستقلال منهم قـلوباً قد عشـقنَ له الجهادا
تعاندهم فرنسا في رغـابٍ لهم وهمُ [الألى] خلقوا العنادا


وإذ يسمع الشاعر عن الطوفان الكبير في سورية عام 1937 يصف الشاعر هذه الكارثة، ويقف إلى جانب الشعب السوري الذي عاني عقابيل هذا الطوفان، معبّراً من خلال شعره عن موقفه القومي والإنساني في آنٍ معاً:


بنفسي الصغارُ حسانُ الوجوه كأنهـمُ زهـراتُ الـربا
وثغرٌ هشيمٌ كما الأقحـوان وخدٌّ كـورد الروابي ذوى
ومـا سمـع المـاء آهـاتهم ولا رحـم الماء فيهم بُكا
وزين البدور، حواكي البدور ذوات العفاف، ذوات التقى
ينادين: أين حماة الضـعاف وأين الرجال، أسـود الحمى
وضاع النداء، فما من مجيب يجيب نداهنَّ إلا الصـدى


ويشير الشاعر إلى الشعب العربي في مصر، مقدّراً مواقفه القومية، وحرصه على الجهاد في سبيل عروبته وإسلامه، مما يجعل الجهاد سطراً في كتاب ثوراته الخالدة، فيقول:


شعبٌ عيون النيل ترْ مُقُهُ وتعشقُهُ قـلوبُهْ
بَعَثَ الحماسَ بشاطئيه فشبَّ بالعزمات شيبُهْ
من وحيه آيُ الجهاد وبعض معنـاها لهيبُه


مثل هذا الارتباط بين الانتماء القومي والإسلامي يبدو من خلال إصرار الشاعر في كثير من الأحيان على تجسيد المعاني الدينية التي تتناول أثر القرآن الكريم في تربية نفوس العرب، وميلاد النبي الكريم عليه الصلاة والسلام، وهجرته إلى يثرب وغير ذلك من الموضوعات. فقد قال واصفاً أثر القرآن الكريم في تغيير نفس الإنسان العربي:


كتابٌ أضاء دياجي الظُّلَمْ ودلَّ الأنام لأهـدى أممْ
أشاعَ الجمال بقبح الحياةِ وأفشى الحياة ببالي الرّممْ
وسلَّ السخائمَ من أكبُدٍ غلاظٍ وبيّضَ منها السَّخَمْ
وقاد الرعـاة رعاة الشياهِ فصار الرعاةُ رعاةَ الأُمَمْ


ويشير مستدركاً إلى أنّ هذا الكتاب العظيم لم يقبل عليه الناس في العصر الحديث إقبالاً كافياً مُخلِصاً، وهذا ما أدى إلى ضياع الهوية، وضياع الإنسان، وفتح شاهية الطامعين على اقتناص مجد الأمة، وهدر كرامتها، واستباحة دماء أهلها:


كتابٌ تركناهُ، وا حسرتا فصرنا نعـضُّ بنان الندمْ
وهُنّا على الناس من بعده فعرضٌ أبيحَ، وأُهْرِيقَ دمْ
ويشير الشاعر في قصيدة “ليلة ذات فجرين” إلى المولد النبوي الشريف، موضحاً أن النبي العربي محمد عليه الصلاة والسلام جاء ليخلّص الحيارى من حيرتهم، ويحملَ لليتامى والأيامى بشرى السلام والعدالة والهناءة، فهو يقول:
ليلةٌ هبّت بها ريحُ الخزامى فسرت راحاً بأرواح اليتامى
نقلت بشـرى بفجرٍ طالما قد تمنّته الديـاجير القدامى
كم تمنّاه الحيارى في الدجى وتمنّـاه ضـعاف ويتـامى
راقَبـوا الصحراء تأتيهم به بلسمَ الجرح، شفاءً وسلاما


وهو يرى في الهجرة النبوية مفصلاً تاريخياً نقل الأمة العربية من حياة “الشاء والجِمال” إلى حياة “الحقّ والجَمَال”، مصّراً على إبراز البعد الاجتماعي والإنساني للدعوة الإسلامية، فهو يقول في إطار الحديث عن الهجرة النبوية الشريفة:


هاجرَ كي يرجع في جيوشٍ مشحوذةِ النفوس والنِّصالِ
إنَّ رعاة الشَّـاء والجِمال أضحوا رعاة الحقّ والجَمالِ


رابعاً- الشاعر والمجتمع: الشعر الاجتماعي والغزلي والإنساني:


ثمة جوانب لم يتم الالتفات إليها كثيراً في شعر عبد الرحيم محمود، إذ تمّ التركيز على الموضوعات ذات الصلة بالموضوع الوطني، على حساب موضوعات لا تقلّ أهميّة من مثل الشعر الاجتماعي الذي يهتمُّ بترسيخ قيم المجتمع والحثّ على تحقيق العدالة الاجتماعية، إضافة إلى الشعر الغزلي والإنساني والتأملي الذي يجنح بالشاعر نحو الرومانسية.
يوجد لدى الشاعر عبد الرحيم محمود أرق اجتماعي، فهو يعطي في شعره أهمية كبرى للعمال، ويدافع عن قضاياهم، ويعدُّ نفسه جزءاً من حركتهم الدائبة، ويمدح ابتعادهم عن أولئك الذين يقولون ما لا يفعلون، فهو يقول مثلاً:

نحن المصـادر والمـوارد وسلاحنا فتل السواعدْ
إن اسمنا العمـال لا نلهـ ـو بلغـوٍ عن مقاصدْ
لسنا كمن يهذي على الـ أعواد بالخطب الرواعدْ


وكان يكرّر فكرة مفادها أنّ العامل يكدُّ ويعرق، في حين أنّ الآخرين يجنون جهده، ويجمعون ثرواتهم من استغلاله، لذلك يذكّر العامل دائماً بالمفارقات الناتجة عن المقارنة بين جهده وحياته الشقية، فيقول في واحدة من قصائده:


هذي القصور وأنتَ را فعُ سمكِها، هل هُـنَّ لَكْ؟
والدوح أنتِ زرعـتهُ من حـولها، هـل ظلّلكْ؟
والنورُ من يدِكَ الصّنا عِ، فما حياتك في الحلَكْ ؟


ويقول في قصيدة أخرى:


عصيرهمُ من جنى راحتيكَ وخمرُكَ من بؤسك الدائمِ
وتعجنُ خبزهمُ بالدمـوعِ وتأكلُ مـن فضلةِ الآدِمِ
وتنسجُ ما يلبَس المترفـون ولستَ بذي ملبسٍ ناعمِ


وربما يستبدّ الغضب بالشاعر من جرّاء استمرار صور هذه المفارقة، فيدعو العامل إلى الثورة بمن يحرمه حقه في الحياة الرغيدة التي يستحقها، فيقول:


اُُحصُدْ بمنجـلك الرقابَ إذا حـرمْنَكَ مـن مرادكْ
واطرق بمطرقك الرؤوسَ إذا تمـادتْ في عـنـادِكْ
أنتَ الذي زرعَ الحيـاةَ فمن شريكُكَ في حصادِكْ ؟


إنّ مثل هذا التصوّر الذي ينطلق فيما نعتقد من إخلاص الشاعر لموقعه الطبقي، يجعله ينظر إلى الأرزاق التي يدعي غاصبوها بأنها قسمة الله نظرة تعيد الأمور إلى نصابها، وتكشف ما فعله الباغون بأرزراق الناس، فهو يقول:


بغى في قسمة الأرزاق ناسٌ وقالوا هكذا قسم الإلهُ
لقد وصفوا الإله بشرّ ظلمٍ بما كذبوا، تنزّه في علاهُ


مثل هذا الفهم لطبيعة العلاقة بين المستغِلين والمستغَلين يجعله واحداً من شعراء الأدب الاجتماعي الثوري الذي قام في مواجهة الأدب الإصلاحي الذي كان أحمد شوقي أبرز أعلامه، إذ كان يطلب من العمال أن يستقيموا، وأن يطلبوا حقوقهم برفق، حتى تبقى أبواب الرزق مفتوحة أمامهم، يقول شوقي:


أيّها العُمَّال أفنوا العُمـر كدّاً واكتسـابا
واعمُروا الأرض فلولا سعيكم أمست يبابا
اُطلبوا الحقَّ برفقٍ واجعـلوا الواجـب دابا
واستقيمـوا يفتـحِ اللهُ لكـم بـاباً فبابا


إنَّ سمة التمرّد التي بدت في شعر الشاعر الوطني والاجتماعي تتسرّب أيضاً إلى شعره الغزلي، إذ قلّما يقتصر غزله على الإعجاب بالجمال، والمعاني التقليدية، من مثل قوله:


يا غزالاً صدّني، ما أجملَكْ مبدعُ الأكوان ربّي عدّلَكْ
فيك معنى كلّ حُسنٍ رائعٍ عرَف الجنّة من قَد قبَّلَكْ


إذ تبدو قصيدة الغزل عنده مثل ثورة صغيرة تقوم في قلبه، وتضجر من تلك المعشوقة التي تظنُّ أنَّها الوحيدة التي تتربع على عرش قلوب الرجال، فهو يقول مثلاً:


خالتنيَ الميّـت مِـن صـدّها والعائـش الدَّهـرَ مُعنَّى عليلْ
قالت: قتيلي أنت، قلت: اعلمي أن قد صحا الساهي وحيَّ القتيلْ
ملت إلى غـيري، وإني امـرؤ إن مالت الروح فعنـها أميـلْ
قالت: فسحري لم يزل فاعـلاً قُـلت: فهاتي عليـه الدليـلْ
مخلوقـة أنت.. فلا تـكـبري مثـلك بين الناس ألفـا مثيـلْ


من هنا فإنَّ ردّه على الأنثى المترددة، أو الأنثى المغترة بجمالها، يكون في استصغار شأنها، وفي البحث عن حبّ جديد، يعيد له إحساسه بكبريائه، كأن يقول:


اغضضي أو صعّري خدّك لي وخذي غـيريَ عشّـاقاً جِدادا
واهجريني.. وابعدي عنّي فلا أرهبُ الفجر، ولا أخشى البعادا
وتناسي كيف شـدنا عُشَّنا قد هدمنا ما بنى الحبُّ وشـادا


وهو عاشق متمرد، مثلما هو ثائر متمرد، لذلك يرفض استغفار المعشوقة الغادرة، التي جاءت لتنكأ جرحاً قديماً في قلبه، لأنها تستدعي باستغفارها آلام الجراح التي تركتها في قلبه ذات يوم. وها هو ذا يخاطبها قائلاً:

دعيني فقد أيقظتِ ما بي من الأسى وهيّجتِ جرح الحبّ في قلبيَ الدامي
غـدرتِ، وجئت الآن تستغفرينني لنقضـك عهد الحبِّ من بعد إبرامِ
لقد ضـلَّ عقلي فيك حيناً وها أنا عرفتُ سبيل الحبّ من بعد تهيامي


وقد أبدعَ الشاعر الشهيد أيّما إبداع في تناول الموضوعات الإنسانية، وقد أعطى هذه الموضوعات التي تقوم على التأمل أبعاداً فلسفية ورومانسية، ومن ذلك رثاؤه الفريد للحمال الأعمى الذي وجده ميتاً على أحد أرصفة حيفا وبجانبه سلّه وحبله، فهو ضحية للاستغلال الذي لم يرحمه في حياته وفي مماته:


قد عشتَ في الناس غريباً وها قد متَّ بين الناس موت الغريب
والناس، مذ كانوا، ذوو قسوة وليـس للبائـس فيهم نصيب
لو كنت في حبلك شـنّاقهم لولولوا حزناً وشقّوا الجيـوب


مثل هذا الاستغلال الذي جعل الحمال يعيش غريباً ويموت غريباً مكّن الشاعر من أن يفهم خيار أبي العلاء باعتزال الناس الذي لم يكتفِ بمحبسه القسري: العمى، بل جاوز ذلك إلى محبس اختياري يأمن فيه مشاهد البؤس والظلم. يقول عبد الرحيم في قصيدة بعنوان رهين المحبسين:


أعمى وشاهدَ في الوجو د مشـاهـداً هـزّت يقينَهْ
ما المَلْكُ يستلبُ الضعافَ لآلـئاً زانـتْ جـبينـَهْ
والزوجُ يغدُرُ زوجَـهُ والخِـدنُ لا يرعـى خـدينَهْ
أوليسَ في هذا لذي الـ ـوجدان ما يُشجي شُجونَهْ ؟


هذا الاغتراب الذي لمسه الشاعر في حياة ذوي الوجدان قاده إلى الحديث عن هذا الإحساس الفريد الذي يعاني وطأته، في قصيدة لم يلتفت إليها الكثيرون على الرغم من أنها تعدّ من عيون الشعر العربي، تلك القصيدة التي تقدّم فلسفة الشاعر بهية ناصعة في مواجهة عالَمٍ ظلوم غشوم، فيقول:

هل غير سيل من دم دافقِ يروي غليل الساخط الحانق
أم غير لألاء الظُّبا والقنا يزيل من قلبي دجى الغاسقِ؟
كرهتُ ذا العالم هل مأبقٌ في عـالم آخـر للآبـقِ؟
ضاقت بي الدنيا، وإني بها أضِيقُ، يا لي من فتى ضائقِ
روحي عبء مثقل عاتقي أيّانَ ألقي العبء عن عاتقي
تغلو على الناس ولـكنني أبيعـها للنّـاس بالدانـقِ


فالشاعر بعد أن يقاسي ظلم هذا العالَم الآبق يبحث عن خلاصه الفردي الفلسفي، مثلما بحث عن خلاصه الجماعي في قصائده الوطنية، فينتظر الموت انتظار المشتاق، حتى لا يرى الفاسق، وقد اعتلى بين قومه، والكاذب، وقد نال في الحياة مشتهاه:


متى أراني بتُّ طـيَّ الثرى يسحقني بالكلكل الساحقِ؟
واغمض العينين عن عالمٍ لا يعتلي فيـه سوى الفاسق
يحظى به الكذّاب بالمشتهى والتعسُ للمخلص والصادقِ


ويطلق الشاعر أمنية كانت محتَبسة في صدره، متمنياً أن يتغيّر منطق الحياة الذي يفرضه الظامون على المظلومين، وينتفي فيه العدل، حالماً بأن يأتي يوم يحقُّ فيه الحقّ، فيسمو ذوو الأخلاق بأخلاقهم، ويهوي أصحاب الباطل في أسفل سافلين:


يا منطقاً لم يُرْوَ عن عاقلٍ العَيُّ خـير منـه للناطـقِ
قد مُحِقَ العدلُ فلا عادلٌ أما لهذي الناس من ماحقِ؟
متى أرى الحقَّ وأصحابه يعلـون من أدنى إلى شاهقِ؟
وأبصر البُطْلَ وأربـابه يهوون من أعلى إلى ساحقِ


فإذا عاد الحقّ إلى أهله، وإذا تحققت العدالة، وإذا صهر العبيد قيود ذلهم، فإنَّ ذلك هو العيد الحقيقي لدى الشاعر الذي امتزجت معاناته بمعاناة الناس جميعاً، فها هو ذا يقول:


إذا رقَّ إحساسنا في الوجودِ وفاضت نفوسٌ لنا شاعره
إذا ما صـهرنا قيود العبيد بنار من القوة القـاهـره
إذا ما نعـمنا بلقيـا المنى وقـوتِ رغـائبنا الحائره
إذا كـان هـذا فثمة عيدٌ وتلك مظـاهره الساحره


كلمة أخيرة:


لقد استطاع الشاعر الشهيد، من خلال حياة قصيرة، امتدت نحو خمسة وثلاثين عاماً أن يقدّم للقارئ العربي ديواناً شعرياً متميّزاً، يجد فيه قصائد تحيل على أعظم شعراء العربية ، وقصائد أخرى تقترب من لغة الناس اقتراباً مثيراً ، مستخدماً الأوزان الفخمة الجليلة، والأوزان الخفيفة الراقصة، فكان بذلك شاعراً شديد الغنى والتنوع، وإن اختصار استشهاده، وشعره ببيتين مشهورين (سأحمل روحي….) فيه ظلم شديد للشاعر وللأدب العربي، على حدّ سواء.

د. يوسف حطيني

د. يوسف حطيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *