علم البيان بين التراث والحداثة

البيان والتبيين:

ما هو علم البيان؟حاولنا في هذه المقالة الإجابة على هذا السؤال بشكل وافٍ ومختصر،بهدف تقديم مادّة تفسيريّة مترابطة النقاط، واضحة الدلالة والإسناد. لذلك عملنا على قراءة مصادر مأخوذة عن كتب التراث، وأخرى معاصرة، وجمعنا من بعض فقراتها ما يرسم صورة واضحة عن معنى البيان في اللغة العربية.

فللبيان: قواعد يُعرفُ بها إيرادُ المعنى الواحد بطرقٍ مختلفةٍ في وضوحِ الدلالةِ،وفائدته: الإقتدار على التعبير عن المعنى الواحد بطرق مختلفة، وفهم القرآن والسنّة. فعلم البيان يعلّمك أنواع الأساليب المتعدّدة التي كان البلغاء من العرب يستعملونها في كلامهم للتعبير عمّا في نفوسهم.ثم إنّ أفصحَ كلام وأبلغه هو كلام الله عزَّ وجلَّ ،ثمّ كلام رسوله صلّى الله عليه وسلَّم، ومعرفة هذا العلم تُعين على الفهم السليم للنصوص من الكتاب الكريم والسُنّة النّبويّة الشّريفة.

إنّ البيان وفق توصيف عمرو بن بحر الملّقب بالجاحظ،”هو ترجمان العلم ويحتاج – كما جاء في كتابه

“البيان والتبيين”-إلى تمييز وسياسة وإلى ترتيب ورياضة وإلى تمام الآلة وإحكام الصنعة وإلى سهولة المخرج وجهارة المنطق وتكميل الحروف وإقامة الوزن. فإنّ حاجة المنطق إلى الطلاوة كحاجته إلى الفخامة.”

لقد وضع الجاحظ كتاب “البيان والتبيين” دفاعًا عن البيان العربي في مختلف مظاهره، ولذلك نراه يبدأ الكلام في قضية من القضايا ثم يدعها في أثناء ذلك ليدخلَ في قضية أخرى، ثم يعود إلى قضيته الأولى، وقد كانت هذه طريقة علماء عصر. فالجاحظ يتناول في حديثه الألفاظ، فيتكلّم على شروط صحّتها وفصاحتها ومخارج حروفها وعجز الناس عن النطق بها، على الوجه الصحيح وما يعتريها من لكنة على ألسنة الأعاجم ومجاوريهم من العرب، والفرق بين ألفاظ البدو والحضَر وأسباب اختلاف اللّهجات بين الأمصار. ويخوض في حديث البيان والبلاغة فيبحث في الأفكار ووسائل التعبير عنها،وعلاقة مظهر المتكلّم ببيانه،وأثر البيئة والصناعة فيه،وضرورة التناسُب بين اللفظ والمعنى. ويذكر تعريف البلاغة عند الفرس والروم والهند والأعراب وأعلام البلغاء كالعتابي وسهل بن هارون وابن المقفّع،ولم يتعرّض لمسائل البلاغة التي عُرفت فيما بعد،إلا ما قدَّم من كلامٍ في تنافُر الحروف وائتلافها. ويقول الجاحظ في كتابه في باب البيان:وعلى قدر وضوح الدلالة وصواب الإشارة وحُسن الإختصار ودقّة المدخل يكون إظهار المعنى. وكلّما كانت الدلالة أوضح وأفصح وكانت الإشارة أبْيَن وأنور كان أنفع وأنجع. والدلالة الظاهرة على المعنى الخفيّ هو البيان الذي مدحه الله تبارك وتعالى وحثّ عليه في القرآن الكريم، وبذلك تفاخرت العرب وتفاضلت أصناف الأعجام. “

وفي تحديد الباحث اللغويّ المعاصر حسيب عبد الساتر،فإنّ البيان هو “الوضوح في فنّ التنسيق الأدبي الجاذب،ويكون باعتماد المأنوس من الكلام الذي يميّز كاتبًا عن سواه.” وهو علم يتضمّن ثلاثة علوم هي:

1:علم الفصاحة: ومعنى الفصيح هو أنْ يكون الكلام سليمًا من الخطأ والعاميّة معًا.يُقال: عَصَاي. ولا يُقال: عصَاتي.

2 علم البلاغة:ومعنى البليغ،أنْ يكون الكلام صحيح التركيب،وأن تكون العبارات صحيحة في مناسباتها. إذْ يُعتَمدُ الخفيف من الكلام للخفيف من المعاني. والثقيل للثقيل.

3 علم المعاني: وهو علم متمّم لقواعد النحو والصرف،ويساعد على معرفة المعاني المستخدمة من الأبواب، زيادةً على المعنى الأصليّ المقصود.

فالبيان هو علم معرفة الطرق المختلفة التي يمكن أن يورد بها المعنى الواحد في وضوح الدلالة عليه.

ففي قولنا: رجل حليم- رجل رحب الصدر- رجل كناسك

أو في قولنا:رجل كريم-رجل منبسط الكف- رجل كحاتم.

نورد معنييّ التروّي والكرم لجماليّة التنوّع والتمييز في ثلاثة وجوه: وصف وكناية وتشبيه.

وأمّا إبن المُعتزّ (أواسط القرن الثالث للهجرة) فقد كان له مفهومه الخاصّ للبيان العربي،واستطاع في كتابه “البديع” وفق ما ورد في كتاب “مدار الكلمة” للدكتور أمين ألبرت الريحاني،أن يستنبط محسّناته الكلامية البديعية من صميم التراث العربي،مُبتعدًا عن الأمثلة اليونانية وتأثير أرسطو قدر المستطاع.خصوصًا أنّه أخذ في كتابه عن الأصمعيّ والخليل بن أحمد والجاحظ، مستعرضًا في كتابه ثمانية عشر وجهًا من وجوه البلاغة،خصّ الخمسة الأولى منها بإسم “البديع” وحدّدها على النحو الآتي:الإستعارة والتجنيس والمطابقة،وردّ اعجاز الكلام على ما تقدّمها والمذهب الكلاميّ. وقد خاض إبن المعتز في بديع التراث والقرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة وكلام الصحابة وأشعار المتقدّمين،شارحًا الأمثلة،كما خاض في النقد الأدبي وفي تقويم القصائد المختارة قياسًا إلى شروط البديعية. من هنا أضاف إبن المعتزّ في تعريفه للبلاغة فكرة المنطق إلى جانب الفهم والإيجاز. حيث جاء ” المذهب الكلاميّ” عندهُ صورة تعّبر عن الوجه الآخر من الفنون الكلاميّة عند الجاحظ.

إلاّ أنّ كتاب “نهج البلاغة” الذي جمعه ووضعه الشريف الرضيّ،يشكّل النبع الغزير والمحيط لعجائب البلاغة وغرائب الفصاحة. إذْ يقول الشريف الرضيّ في تقديم الكتاب:”هو كتاب جامع لجواهر العربية وثواقب الكلِم الدينيّة والدنيويّة ما لا يوجد مجتمعًا في كلام. فقد كان أمير المؤمنين مشرّع الفصاحة وموردها ومنشأ البلاغة ومُولدها. ومنه عليه السلام ظهر مكنونها،وعنه أخذت قوانينها، وعلى أمثلته حذا كلّ قائل خطيب وبكلامه إستعان كلّ واعظ بليغ. ومع ذلك فقد سبق وتأخّروا. وأمّا كلامه فهو من البحر الذي لا يُساجَل، وأردتُ-يضيف الشريف-أنْ يُسوّغ لي التمثُّل في الإفتخار به عليه السلام بقول الفرزدق:

“أولئك آبائي فجئْني بمثلهم إذا جمعتْنا يا جريرَ المجامِعُ”

يقول المفكّر إبن خلدون في “مقدمته” الشهيرة محدّدًا جوهر علم البيان: “هذا العلم حادث في الملّة بعد علم العربية واللغة،وهو من العلوم اللسانيّة،لأنه متعلّق بالألفاظ وما تفيده. ويُقصَد بها الدلالة عليه من المعاني. فاشتمل هذا العلم المُسمّى بالبيان على البحث عن الدلالات التي هي للهيآت والأحوال والمقامات. وجُعِل على ثلاثة أصناف:الصنف الأوّل يبحث فيه عن الهيآت والأحوال،التي تطابق باللفظ جميع مقتضيات الحال،ويُسمّى علم البلاغة. والصنف الثاني يبحث فيه عن الدلالة على اللازم اللفظيّ وملزومه وهي الإستعارة والكناية. والصنف الثالث هو النظر في تزيين الكلام وتحسينه بنوع من التنميق، إما بسجع يفصله،أو تجنيس يُشابِهُ بين ألفاظه،أو ترصيع يقطع أوزانه،أو تورية عن المعنى المقصود بإيهام. وهذا يُسمّى علم البديع. وقد أُطلِق على الأصناف الثلاثة عند المُحدثين إسم البيان،وهو إسم الصنف الثاني،لأنّ الأقدمين أوّل ما تكلّموا فيه،ثم تلاحقت مسائل الفن،واحدة بعد أخرى. وقدكتب فيها جعفر بن يحيى والجاحظ وقُدامة وأمثالهم إملاءات غير وافية فيها.” ورأى إبن خلدون في هذا السياق،”أنّ مسائل الفن لم تزل تُكمَل شيئًا فشيئًا إلى أنْ مخضَ السكاكيّ زُبدته وهذّب مسائله ورتّب أبوابه وألفّ كتابة المُسمّى بالمفتاح في النحو والتصريف والبيان، وأخذ المتأخّرون من كتابه،ولخّصوا منه أمّهات هي المتداولة لهذا العهد.

وقد ضرب إبن خلدون في مقدّمته مثالاً عن بلاغة اللّغة العربية في بيانها ومراميها فذكر موقفًا حدث مع عيسى بن عُمَر إذْ قال له بعض النحاة:” إني أجد في كلم العرب تكرارًا في قولهم:زيد قائم، وإنّ زيدًا قائم، وإنّ زيدًا لقائم والمعنى واحد” فقال له: إنّ معانيها مختلفة، فالأوّل: لإفادة الخالي الذهن من قيام زيد. والثاني: لمن سمعه فتردد فيه.والثالث: لمن عُرف بالإصرار على إنكاره، فاختلفت الدلالة باختلاف الأحوال”.

وفي المضمار ذاته، ركّز إبن خلدون على مفهوم لفظة الذوق وعلاقتم بالبيان،فقال: إعلمْ أنّ لفظة الذوق يتداولها المعنيّون بفنون البيان،ومعناها حصول ملكة البلاغة للّسان، والبلاغة هي مطابقة الكلام للمعنى من جميع وجوهه،بخواص تقع للتراكيب في إفادة ذلك. فالمتكلّم بلسان العرب والبليغ فيه يتحرّى الهيئة المفيدة لذلك،على أساليب العرب وأنحاء مخاطباتهم، وينظم الكلام على ذلك الوجه جهده.”

والجدير ذكره في معرض مقالتنا هذه،أنّ إبن خلدون أفرد في مقدّمته فصلًا عن علوم اللسان العربيّ، معتبرًا أنّ أركانه أربعة هي: اللغة والنحو والبيان والأدب. ومعرفة هذه العلوم ضروريّة على أهل الشريعة،إذ إنّ مأخذ الأحكام الشرعيّة كلّها من الكتاب والسنّة، وهي بلغة العرب، ونقلتُها من الصحابة والتابعين هم عرب،وشرْح مشكلاتها من لغتهم، فلا بدّ من معرفة العلوم المتعلّقة بهذا اللسان لمن أراد علم الشريعة”.

وأكّد إبن خلدون في مقدّمته كما سمع من الشيوخ في مجالس التعليم: أنّ أصول الأدب وأركانه أربعة دواوين هي:أدب الكاتب لإبن قتيبة. وكتاب ” الكامل” للمبرد. وكتاب” البيان والتبنين” للجاحظ. وكتاب

“النوادر” لأبي علي القالي. وما سوى هذه الأربعة،فتوابع وفروع عنه.”

بين الجرجاني وأرسطو:

وبالوقوف على دراسات لغويّة معاصرة ،يشير الدكتور ألبرت أمين الريحاني في كتابه “مدار الكلمة” إلى دور العالم اللغويّ قُدامة بن جعفر في تقسيم علم البيان وتوزيع الوجوه البيانيّة فيه إلى أربعةٍ هي: بيان الأشياء بذواتها،بيان حاصل في القلب،نطقٌ باللسان،والبيان بالكتاب.

وأبرز هذه الأنواع،هو البيان الثالث الذي يبحث فيه عن العبارة وأشكالها من المقابلة والرمز والإستعارة. وعلى خطّ مماثل، يضيء الدكتور الريحاني على دور الإمام عبد القادر عبد الرحمن الجرجانيّ،عالِم النحو الذي خطا بالبيان العربي خطوة ثابتة إلى الأمام،حيث وفّق بين قواعد النحو وبين آراء الفيلسوف أرسطو في الجملة والأسلوب والفصول.سيّما أنّ كتابات أرسطو في مفهوم البديع أثرّت بوضوح في البيان العربي.

وقد أطلق الجرجانيّ موقفًا مناهضًا لموقف الجاحظ حول أسرار البلاغة،جاء فيه:” تفاصيل الأقوال واستحسانها،ليس بمجرد اللفظ. فكيف والألفاظ لا تفيدحتى تؤلّفَ ضربًا خاصًا من التأليف يُعمَد بها إلى وجه دون وجه في التركيب؟

فلو أنّك عمدتَ إلى بيت شعر أو فصل نثر فعددْت كلماته عدًّا،كيف جاء واتّفق وأبطلت نضَده ونظامَه الذي بُني عليه،أخرجْته من كمال البيان إلى محال الهذيان.”

ولا يفوق دور الجرجاني أهمية إلا دور أبو يعقوب السكاكيّ، في كتابه” مفتاح العلوم”. وعن هذا الدور ذكر الدكتور أمين ألبرت الريحاني في كتابه” مدار الكلمة” كيفية تحديد السكاكيّ علمَ البيان. فقد حدّده في ثلاثة أصول هي: التشبيه،والمجاز،والكناية. جاعلًا البديع على نوعين أساسيْين. منه ما يرجع إلى المعنى، ومنه ما يرجع إلى اللفظ. فالبديع المعنويّ عند السكاكيّ هو: المطابقة والمقابلة والمشاركة ومراعاة النظير والمزاوجة واللفّ والنشر والجمع والتفريق والتقسيم والإيهام والتوجيه والإعتراض والإستتباع،وتقليل اللفظ ولا تقليله. أمّا البديع اللفظيّ فهو التجْنيس وردّ العجز إلى الصدر والقلب والإسجاع والترصيع. من هنا رأى علماء اللغة العربية أنّ علم البيان وصل مع الجرجانيّ إلى مرحلة التفسير النقديّ المُعوّل على المعنى واثره النفسي. ثم عاد لينحى مع السكاكيّ منحى التفسير العقليّ الجافّ المُعِّول على القاعدة وضبطها وتحديدها وتوضيحها وتمييزها عن سواها. حيث تحولَّ علم المعانيّ مقارنة مع إبن المُعتزّ من الطبع إلى التطبيع،ومن الذوق إلى القاعدة،ومن الحسّ الجماليّ إلى المذهب القاعديّ الذي يربط علم البيان بعلميّ الصرف والنحو من جهة،وبعلم الإستدلال من جهة ثانية.

الخطاب وبيانه:

وبمتابعتنا للدراسات المعاصرة نشير إلى ما ذهب إليه الباحث اللغوي الدكتور عبد الواسع الحميري في تحديد الخطاب البياني وتوصيفه. فقد رأى “أنه بالإمكان النظر إلى الخطاب الأدبي بوصفه” إستراتيجيّة التلّفظ”،أو بوصفه نظامًا مركّبًا من عدد من الأنظمة التوجيهيّة والتركيبيّة والدلاليّة والوظيفيّة( النفعية)التي تتوازى وتتقاطع جزئيّا أو كليًّا في ما بينها،وهذا يقتضي أنّ الخطاب البياني هو نظام مركب من ثلاثة أنظمة رئيسية على الأقل هي:

1-نظام التوجيه البيانيّ الخاضع لمعيار علم البلاغة القديمة.

2-نظام التركيب الخاضع لمعيار علوم النحو والمعاني.

3-نظام الدلالة( الإبانة البيانيّة) أو الإيعاز بالمعنى المراد،والخاضع لمعيار علم البيان (التقليديّ) بوصفه نظام علاقة إحتواء وتطابُق بين الكلمات والأشياء،أو بين الدال ومدلولاته،أو بين عالم القول ولغة القول.”

وعليه -يضيف الحميري-” فتشريح (بنية) التخاطب في ملفوظ الخطاب البيانيّ، يتطلّب البحث في مدى إلتزام الكينونة المتلّفظة تلك الأنظمة، خلال عملية التلفّظ.”

وهنا يعتبر الحميري أنّ التشكيلات الخطابيّة للعبارة أو النصّ أو القصيدة هي عبارة عن الأفق المحدّد الذي لولاه ما أمكن لموضوعات العبارة أن تعرفَ طريقَها للظهور،ولا لهذا الموضع أو ذاك أن يحتلّ مكانه في العبارة ذاتها.ويميّز الباحث ههنا بين الخطاب البيانيّ والخطاب الأدبيّ والشعريّ، واصفًا الخطاب الأدبيّ أيّْ النّص بأنّه الملفوظ الإنجازيّ الناجم عن عمليّة التلفّظ أو المتمخّض عنها،فهو عبارة عن نظام مُركّب من عدد كبير من الأنظمة التوجيهيّة والتركيبيّة والدلاليّة والنفعيّة،بينما الخطاب البيانيّ هو نظام أُحاديّ مغلق على ذاته كونه يتألّف من ثلاثة أنظمة فقط.

بالمقابل أضاء الدكتور عبد الواسع الحميري على مرحلة تراثيّة تخلّلها جملة من المعايير التي اعتمد عليها نقّاد البيان في الماضي، لجهة الحكم على بيانيّة المبين/ شاعرية الشاعر. ضاربًا مثال الشاعر سديف بن ميمون الذي قال عنه نقّاد البيان:لم يكن في زمانه أشعر منه، ولا أطبع،ولا أقْدر على ما يريده من الشعر.

وهنا يخصّ الحميري بابًا لمفهوم المقام في الوعي البياني،مشيرًا إلى أنّه جمع لعملية التواصل الإنساني،أو بوصفه ما يستعدي عملية التلفّظ، ويملي شروط الملفوظ. لذلك وجدنا البلاغيّين –يقول عبد الواسع- ينظرون إليه باعتبار أنّه قد يكون مقام تكلّم أو مقام خطاب،هذا من جهة، ومن جهة أخرى،فإنّ من شأن المقام أن يكون مقام إثبات أو مقام نفي أو مقام إستفهام أو مقام تحضيض وتحريض، إلخ.

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ أوّل مَنْ أشار إلى المقام،وبيّن أهميّة مراعاته خلال عمليّة التلفّظ هو بشر بن المعتمر الذي نقل عنه الجاحظ قوله في هذا السياق: المعنى ليس يشرف بأن يكون من المعاني الخاصّة، وكذلك ليس يتّضح بأن يكون من معاني العامّة، وإنّما مدار الشّرف على الصواب وإحراز المنفعة مع موافقة الحال،وما لكل مقام من المقال.

وفي السياق ذاته،كان للباحث اللغويّ خليل اليازجي وقفة عند أسباب نجاح اللغة العربية وغناها في بيانها وبلاغتها،لاسيّما البلاغة التي هي علم رئيسيّ متفرع من علم البيان.

فالبلاغة يقول اليازجي:هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال، والمراد بها حال المخاطب على اختلاف منزلته في الذكاء والبلادة أو العلم والجهل إلى غير ذلك، فيخاطب كلّ بحسب حاله، ويجعل لكل مقام مقال. فالبلاغة هي ما فهمته العامّة ورضيت به الخاصّة. علمًا بما عليه اللغة العربية من السعة في وجوه التعبير وكثرة المترادفات على اختلاف في الوضوح والخفاء،حتىّ أنّ الكاتب ليجدَ للمعنى الواحد صنوفًا في التعبير تمكّنه من تبليغ المعنى الذي يقصده إلى أبلغ الخاصّة وأجهل العامّة بدون أن يُخَّل منه بشيء”.

بناء على ما تقدّم، يمكننا القول إنّنا قاربنا علم البيان مقاربة تجمع بين كتب التراث والمعاصرة،وتأخذ باتّفاق أهل العلم واللغة على تحديد معرفيّ يكاد يكون موحدًّا لولا بعض الفروقات في الدلالة والتصنيف والأمثلة.

ونعتقد أنّ هذه المقالة لا تدّعي شمولية في الإحاطة بعلم البيان، بل هي تُسهم في الإضاءة بشكل عام على تاريخ اللّغة الحافل بعبقريّات علمائنا الذّين استندوا إلى بيان علم الكلام والفقه والأحاديث النبويّة الشريفة والحِكَم والأمثال البليغة.

الكاتبة الصحفية غادة كلش

مصادر البحث:

1-كتاب “منهل البلاغة”:الكاتب حبيب عبدالساتر/صادرعن دارالكتاب اللبناني/بيروت1979.

2-كتاب “نجاح الأمة العربية في لغتها الأصلية”/إعداد وتحقيق يوسف قزما خوري/صادر عن دار الحمراء بيروت1991.

3- كتاب “ما الخطاب وكيف نحلّله” الكاتب الدكتور عبد الواسع الحميري/صادر عن دار المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر( مجد) بيروت2009.

4-كتاب “مدار الكلمة” الكاتب أمين ألبرت الريحاني/صادر عن دار الكتاب اللبناني-ودار الكتاب المصري 1980.

5-كتاب “مقدمة إبن خلدون”/ طبعة صادرة عن دار الكتاب اللبناني بيروت 1967.

6- كتاب” الإبداع الأدبي العربي” الكاتب عبد المجيد زراقط/صادر عن دار الغدير بيروت2003.

7- كتاب “صبح الأعشى في كتاب الإنشا”/السِفر الأول/ تحقيق عبد القادر زكّار/صادر عن وزارة الثقافة والإرشاد القومي في دمشق 1981

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *