كل شيء في مكانه… دقائق قليلة تفصل الرسام عن افتتاح معرضه.
هناك من يشرف على اللمسات الأخيرة، بينما يُلقي هو نظرات فاحصة على لوحاته.
يتأملها تارة برضى وإعجاب، وتارة أخرى بعين الحسرة…
وكأنها أم تودع صغيرها الروضة لأول مرة.
توقف لحظة أمام لوحة في الزاوية، همس لها:
“هذا المكان يليق بكِ كثيرًا، لأنكِ أسوأ إنجازاتي.”
أجابت العيون الباكية بصوتها الأخرس:
“يالَكَ من وغد حقير! أما كان لك أن ترسم لي يدًا تجفف دموعي بدل هذا السخط؟”
بدأ الزوار يتوافدون… يختلفون بأزيائهم وربطات عنقهم التي يهتمون بألوانها أكثر من ألوان اللوحات نفسها.
توالى المشاهدون، مهتمون وناقدون، بعضهم يعجب برونق اللوحات حد الثمالة،
والبعض الآخر لا يسكره إلا الكأس التي يرتشف منها.
شتان بين بائعٍ للورد وعاشقٍ له، بين ساقيه وقاطفه.
وكما في قانون التجارة، أضحت اللوحات سلعًا تُباع وتُشترى،
تتباين أثمانها وقيمتها حسب مقتنيها:
هذا عاشق للفن والجمال، وذاك يجمّل فضاءاته، وآخر…
لا يكترث إلا بالخربشة أسفل الإطار.
افترقت اللوحات كالأخوات،
وتعددت وجهاتها… إلا العيون الباكية.
ظلّت في مكانها…
محكومة بذلك مع سبق الإصرار.
تجرعت خيبتها في صمت وأذعنت للهزيمة،
مقادَة بلا مقاومة نحو صندوق مغبر.
وحيدة، يتيمة، لاحول لها ولا قوة.
في حركة ازدراء، قذفها الرسام بعقب سيجارته، ثم قال:
“ربما تصلحين لحائطٍ في دار للأيتام…
لا، بالطبع لا. كيف سينظر لكَ طفل بريء لا ذنب له؟
أعتقد أن مكانك الأنسب هو مأوى للمسنين، أولئك المصابون بالخرف.
قد يرونكِ ضاحكة مستبشرة!”
انفجر بداخل اللوحة بركان غضب.
تمنت لو كان لها حق طلب النجدة من سجنها الأبدي،
أو سهمًا تصيب به عين الرسام،
بل سكينا تبتر به أنامله…
الأنامل التي جعلتها مجرد عيون باكية دامعة،
تُدار لها ظهور الجميع، منبوذة كأنها نذير شؤم.
تمتمت اللوحة في حسرة:
“هكذا هم أصحاب الحظ العاثر، يُوضعون في الزوايا،
ليس حماية لهم، بل ليكونوا مكبًا للهزائم والخسارات.
كلنا نُخطئ، لكن البعض يُلقي سقمه في حضن الآخر،
ليحوّله إلى مزرعة للسموم والعفن.
هي ثنائية ابتدعتها البشرية، فآمنت بها واتخذتها دستورًا مقدسًا.”
تلك كانت قصة المقل الباكية.
إذا صادفتموها يومًا على جدارٍ ما، أو حتى في القمامة،
احتضنوها، امسحوا عنها غبار الهامش والزاوية…
من يدري؟ لعلها تجفف دموعها…
وترسم البسمة لتشارككم إياها.
الكاتبة فاطمة وجى