عندما تنزف القصيدة عارنا قراءة في قصيدة هنا غزة للدكتور طارق أبو حطب(إن لم تكن حسنة من حسناتي فلتكن مغفرة لزلاتي)

بين يدي العنوان:


“هنا”: اسم إشارة للقريب، “هنا” حيث تسكن في القلب، في الوجدان، في الوعي، في الضمير.
“غزة”: علم على بقعة عربية وإسلامية، لا تزال تنزف إلى يومنا هذا. فالعنوان يشي بحقيقة الصراع العربي الإسرائيلي.
“هنا غزة” يقولها أهل غزة، يقولها أهل مصر، يقولها أهالينا في الأوطان العربية، يرددها إخواننا في الأوطان الإسلامية. فغزة موطن لكل أولئك الذين يدافعون عن حمى أقصانا الأسير.
تُذكر غزةُ، فتنزف دماء المسلمين، وتعلو صرخات الموجوعين من الثكالى والأرامل واليتامى والجرحى وأولئك الأسرى.
غزةُ: نبض العروبة، قلب الإسلام. والأقصى: مسكنه في القلب قصرًا.

الولوج إلى مطلع القصيدة:


من عتبة العنوان نصعد الدرج إلى المطلع، حيث يمهد الشاعر لحديثه بمقدمة طويلة موجعة مبكية يسوقها على لسان “غزة”، فهي الشخصية الناطقة في النص من مبدئه لمنتهاه، جاعلًا من أنسنة المكان حضورًا للمكان زمانًا، وحضورًا للزمان مكانًا:
(أتيت إليكم اليوم
وقد سنحت لي الفرصة)
أية فرصة تلك، وأي يوم تقصد؟ إن القصيدة تسجيل آني لأحداث ما يسمى بـ”طوفان الأقصى”، وهي عملية عسكرية ممتدة شنتها فصائل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة وعلى رأسها حركة حماس عبر ذراعها العسكري كتائب عز الدين القسام، والتي بدأت في السابع من أكتوبر عام 2023م ردًّا على الانتهاكات الإسرائيلية في باحات المسجد الأقصى المبارك واعتداء المستوطنين الإسرائليين على المواطنين الفلسطينيين في القدس والضفة والداخل المحتل.
وهنا نتساءل: ألم يكن قبل اليوم فرصةٌ للبوح وللكلام؟ إن القاطرة البخارية لا تتحرك إلا إذا حميت النار وغلى الماء فيدفع البخار تلك القاطرة. كان لابد من الغليان؛ لتتحرك الأقلام، لتستأسد الأشبال وتزأر.
بل لابد من صرخات وبكاء وعويل وهدم؛ ليستشعر ذلك الجسد العربي الميت أن بضعة فيه تتألم.
إن الفرصة التي سنحت لغزة للإعلان عن نفسها هي تلك المجازر التي ارتكبت فيها، هي تلك البنايات التي تهدمت على سكانها، هي تلك الأجساد التي مزقتها وحشية الغاصب المحتل والتي انتهكت براءة الأطفال، وطهر الفتيات، ومستقبل الشباب، ووأدت أحلام الجميع حين انهال عليهم الحطام إثر القذائف وطلقات النيران.
إن غزة التي تتحدث إلينا هي جسد ينزف، هي روح ممزقة، وكيان محطم، وأنفاس لاهثة منهكة. وحديثها، نعي للعُرب وللمسلمين في تقاعسهم وتخاذلهم وتقهقرهم.
إن الفرصة قد سنحت للبوح وللنوح وللكلام:
(أقص عليكم الدرس
بإيماني
ونيراني
أزف إليكم البشري
وأبدأ تلكم الحصة
وأنعي فيكم الهمة
وأهدي للدنا همما
ويحكي الغصن للغصن
حكايا ضيعة الأمة)
إنه ليس درسًا بالمعنى التقليدي المتبادر إلى الذهن من الوهلة الأولى، ولكنه تعرية للزيف، كشف للواقع المخزي، تعريض بأولئك الذين:
(أجادوا الشجب والإنكار والتقتيل
والتمثيل والتطبيع
والتهويد والتعريض
في شمم)
لأولئك الذين:
(باعوا العرض
والأنساب في خسة)
من هذه المقدمة ندرك أن ثمة فريقان: فريق كالآساد، وفريق كالجرذان، فريق اشترى بروحه ما باعه الآخر بأزهد الأثمان.

بين يدي النص:


ويبدأ الدرس بهذه الجملة
(أنا غزة)
إنه الحضور التام لغزة روحًا وجسدًا، تاريخًا ومجدًا، واقعًا وحدثًا:
(أنا غزة
أنا الأمجاد والإلهام والتاريخ
والأحداث والقصة)
وهذا الضمير الذي افتتح به الحديث عن غزة بلسان غزة، يمثل رجع الصدى في القصيدة كلها، فهو يتكرر اثنتان وثلاثين مرة، منها أربعة بذات الجملة (أنا غزة)، وهي نفس الجملة التي ختمت بها القصيدة؛ لتجعل منها أنشودة تتكرر، ونغمة لا تتوقف.
ماذا حكت عن نفسها “غزة”؟
إن كل جملة وصفت نفسها بها، أو موقفًا ذكرته مر بها، أو شيئًا عنها عرضته، لبمثابة التعريض والتنديد بالموقف العربي والإسلامي تجاه قضية فلسطين والأقصى، إنها ترميهم بنقيض ما وصفت نفسها به.
حيث تدور رحى القصيدة بين الإيجاب والسلب. سجال بين غزة الناطقة الفصيحة وبين العرب الذي أصابه العي والغرس والوهن والضعف. إن القصيدة تزف إلينا نعي العروبة:

(أنا الآساد إذ تزأر
أنا المقدام إذ يثأر
أنا الصلوات والمسرى)

(أنا بالله لم أكفر
أنا الطوفان والإيمان والآذان
والتثبيت والعزة)
إن قضية فلسطين هي قضية عقائدية في المقام الأول.
في المقطع الثالث، يبدع الشاعر في تجسيد “غزة” فهي كما ينطق عن لسانها:
(أنا غزة
أصوغ الحزن أغنية وأمنية)
إن الحزن يتردد في الأسماع كما تتردد الأغنية، وإن الحزن حين يتحول إلى أغنية فلابد أن تتقاطر الكلمات دمًا وتنساب الأنغام شجىً، ولكن هذه الأغنية تحمل فيما تحمل أمنية وأملًا وأنوارًا. إنه حزن يقود إلى الصمود:
(وأمسح دمعتي عزا
وتصميما
إذ الأبصار قد عميت)
ثم تحكي في المقطوعة التالية ذلك الصراع الدائم بين أصحاب الأرض والغاصب المحتل:
(جيوش الشر في صلف
تحوم في الفضا بومًا
يحيل سمائي الزرقاء أحزانا)
إن كلمة (أحزانًا) تحمل أكثر من سبب لتلك الأحزان، وتغني بمفردها عن سرد المآسي والأهوال التي يعانيها ـ ولا يزال ـ الشعب الفلسطيني الأعزل.
إن قضية فلسطين ليست قضية أرض وفقط، وإنما هي قضية دين وعقيدة والحرب الدائرة تحاول طمس الهوية والتاريخ والتضاريس:

(أنا الأسفار والإصحاح والأحزاب
والتوراة
والإنجيل
والفرقان والآيات
والسنة)

(أنا الأرض التي نبتت بها الأطفال أزهارا
وصبارا
وأحجارا
وأنهارا من العلقم)
إنها فلسطين حين تلد، فإنها تلد الأبطال:

(أنا الأحرار والثوار
والزهراء والحرة)

(أنا الدرة)
ولذا لا تبالي إذا ما العُرب قد خذلوها:
(أنا الأشجار شامخة
إذا ما الكل قد خضعوا
إذا ما العرب قد وهنوا)
وفي مقابل الصورة المخزية للعرب، نجد صورة مشرقة لغزة، فتعلن في عزة:
(فلن أخضع
ولن أقبل
ولن أرضى ولن أركع
بأن أشقى
وأن أحيا
ككل العرب
مبتزة)
وهذا ليس أمرًا طارئًا، أو عرضًا عابرًا، وإنما العزة والنخوة والصمود سجية متأصلة فيها:
(وتلك طبيعتي الفذة)
إنها غزة.

جماليات النص:


القصيدة حبلى بالصور الشعرية التي ساعدت في إبراز الهوة بين العرب وبين غزة، واستطاع الشاعر بالكلمات تجسيد غزة واقعًا وحاضرًا وتاريخًا، مما أمكننا أن نرسم ملامح غزة:

  • فهي الأمجاد والتاريخ وهي التمكين والتحرير.
  • وهي الصلوات والمسرى وهي موطن الأديان.
  • وهي موطن الشجعان، هي الدرة، هي الأشجار شامخةً.
  • وهي النجوة وهي الأبطال ولزلزال والهزة. هي غزة.
    لقد حشد الشاعر كل تلك الصور؛ ليتمكن من رسم تضاريس غزة بأبعادها التاريخية والدينية، ورسم شخصيتها الإنسانية والنفسية للتأكيد على حضورها في ذاكرة الوعي العربي والإسلامي.
    وفي مقابل تلك الصورة الناصعة لغزة، نجد العروبة في ثوب الخزي والعار وهي تحكي:
    (حكايا ضيعة الأمة)
    فالعُرب رهط:
    (أجادوا الشجب والإنكار والتقتيل
    والتمثيل والتطبيع
    والتهويد والتعريض)
    وهم قد:
    (باعوا العرض
    والأنساب في خسة)
    ويعقد الشاعر مقارنة بين غزة وبين العروبة؛ فالعُرب قد خضعوا وقد وهنوا وفي غياب النخوة لم ينالوا النصر. بينما غزة على النقيض من ذلك كله:
    (فلن أخضع
    ولن أقبل
    ولن أرضى ولن أركع
    بأن أشقى
    وأن أحيا
    ككل العرب
    مبتزة)
    كما اتكأ الشاعر على المفارقة اللفظية في صنع صوره:
    (جيوش الشر في صلف
    تحوم في الفضا بومًا
    يحيل سمائي الزرقاء أحزانا
    تصير الشمس بارودا
    هنا الأقمار لا تلمع
    هنا الأطفال لا تلعب
    هنا الموت الذي نشرب)
    فقد احتشدت كل تلك الصور لرسم لوحة قاتمة مفزعة.
    كما استخدم الجناس في وصفه لغزة:
    (أنا الأعراب والإعراب)
    والفارق بينهما همزة مفتوحة في الأولى ومكسورة في الثانية، والأعراب هم سكان الخيام والمقيمون في البادية، والإعراب هو الإفصاح والإبانة والتكلم. والعلاقة بين الأعراب والإعراب جلية، فأهل البوادي هم أهل الفصاحة والبيان.
    كما يتكئ على أسلوب النفي في نفي الصفة والكناية بها عن نقيضها:
    (هنا الأقمار لا تلمع
    هنا الأطفال لا تلعب)
    فالأقمار المنيرة خبا نورها، والأطفال قد صرفهم عن اللعب هول ما شاهدوا وما عانوا. وعندها يكون الموت هو:
    (الأملُ الذي نرغب).
    ومن الصور التي بناها على التناص قوله:
    (أنا مريم
    إذا ما العهر قد غطى بقاع الأرض بالغبرة)
    فاستدعاء “مريم” الصديقة باسمها العلم، جعلها رمزًا للطهر والذي وصف به غزة، وجعله في مقابل العهر الذي:
    (غطى بقاع الأرض بالغبرة)
    ومثله قوله:
    (أنا الدرة)
    مستعيدًا من خلال هذا الاستدعاء قصة الشهيد محمد الدرة، مستغنيًا بتلك الإشارة الموجزة عن سرد الحدث والذي يسكن في ذاكرة العالم بأسره.
    وتأتي الكناية في قوله:
    (أنا غصن من الزيتون
    عانقه
    حمام السلم في عزة)
    متكئة على التناص في قصة سفينة نوح عليه السلام، ومتكئة كذلك على رمزية السلام، والذي يشير إليه غصن الزيتون. إنه سلام عن عزة وليس عن ضعف. موسيقا النص:
    نزف الشاعر قصيدته على نغمة بحر الوافر الأثير لديه. وفي بدء التفعيلة بالوتد المجموع زيادة في قوة النص، فاختيار التفعيلة مناسب للجو العام للنص والذي يحمل نبرة الانفعال والحدة في الخطاب.
    كما كثر العصب وهو تسكين الخامس؛ ليزيد من مساحة السكون؛ كي يلتقط أنفاسه اللاهثة، ويتخفف من تلك الحدة التي صاحبت النبر من مطلع القصيدة إلى نهايتها. كما يلاحظ غلبة الأصوات الانفجارية والتي تزيد من قوة القصيدة وارتفاع نبرها، كقوله:
    (أنا الأرض التي نبتت بها الأطفال أزهارا
    وصبارا
    وأحجارا
    وأنهارا من العلقم)
    إن تفجر الحوار من تلك الأصوات مجتمعة، والتي أحالت النص إلى ضجيج، لهو جزء ضئيل جدًا من ذلك الانفجار الذي تصدعت له جوانب النفس وانفطرت له القلوب.
    وبعد، فقد أجاد الشاعر في نقل حديث غزة عن نفسها، هي قالت بلسان الحال، والشاعر نقل الحديث بكل ما يحمل من أنات وآهات وأوجاع وأتراح، مبرزًا ما تنماز به غزة من العزة والشجاعة والصمود.
    كانت غزة صادقة في الحديث عن مجدها، وكان الشاعر موفقًا في حمل الكلمات بكل تلك المشاعر والأحاسيس المفعمة، التي جعلتنا نرى غزة في شموخ النخيل وصلابة الحجر، وطهر مريم، رأينا غزة ياقوتًا وألماسًا، ترتيلًا وذكرًا، سماحة وسلامًا وعزًّا. كما أمكننا من أن نسمع لصوتها زئير الأسد وصيحة الثوار. بيد أن القصيدة تنزف دمًا يسربل العَرب في تخاذلهم بكساء الخزي والعار ناعية فيهم الهمة.

د. سعيد محمد المنزلاوي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *