عودة من الجنوب إلى الشمال (غزة نموذجًا) للكاتب عبدالسلام اضريف

ليس هناك في قاموس أبجديات الحضارة، التي يُقال عنها مدنية ومعاصرة، أي آليات قادرة على إيجاد تفسير منطقي أو تبرير مشروع لمشهد معاناة نواة الإرادة الفلسطينية التي لا تُقهر، في رحلتها من الجنوب إلى الشمال. إنها رحلة العذاب والمعاناة، لكنها أيضًا رحلة العشق للتراب، للهوية، لعبق التاريخ، وللارتباط المقدس بين الإنسان الفلسطيني وأرضه، بينه وبين الشجر والحجر والمطر.

إنه ذلك العشق المتجذر في النفوس، المتداخل مع المحيط، عشق الكينونة الفلسطينية كما وصفها أفلاطون بـ”حركة النفس الفارغة”، أو كما عرّفه ابن سينا بأنه “شيء كامن في النفوس يحركها ويلهمها”.

رحلة الجنوب إلى الشمال ليست كما يتخيلها البعض رحلة VIP أو عبر وسائل نقل متطورة، بل هي مسيرة وسط الدمار والخراب، حيث يستقبلهم الركام بترحيب حزين، وكأنه يحتضنهم ويمسح جراحهم، يمد ظلال جناحيه فوق خطاهم المتعبة، بينما البشرية من حولهم قد فرّغت فؤادها من الرحمة، وتسلحت بالكراهية، وأدمنت مشهد الألم والذبح كفرجة مسلّية على مسرح الموت، وسط عالم فقد إحساسه بقيمة الإنسان.

رحلة يُقبّل فيها الدمار أقدام العائدين، كأنه يهنئهم على النجاة من موت محقق. دمار يتحاور مع الزمن والتاريخ، يستنكر قسوة البشر الذين لم يستطيعوا كسر علاقة العاشق بمعشوقه، خاصةً حين يكون العشق مرتبطًا بأرض اسمها فلسطين.

في هذه الرحلة، يسير الأحياء جنبًا إلى جنب مع الجثث التي لم تُدفن بعد، تشكو قلة حيلتها وهوانها على الناس، تشير إلى الضمير الإنساني الذي توقفت نبضاته، وكأن القدر حكم عليها أن تعاين العذاب قبل الموت وبعده.

يا لغرابة هذا الزمن!

يا أيها الأموات تحت الثرى، قوموا، فإن الأحياء فوق الأرض قد ماتوا!
زمن أصبح فيه الأحياء يحسدون الأموات، زمن انقلبت فيه الأدوار، وشاخ العتاب، ولم يعد للنورس صوتٌ يغني، ولم تعد أوتار الحياة قادرة على العزف.

إنها شواطئ غطاها السحاب والضباب، وغاب عنها الصفاء والحب والعشق والحنان.

الكاتب عبدالسلام اضريف

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *