صافحتني السماء بشوق اعتدته منها كل صباح..، تشعرني بأهمية أن أكون واحدًا ضمن الملايين الذين يلهثون تحتها.
الجو مشرق، أشعة شمس فبراير الهادئة الحالمة تداعب الشعيرات الفضية في فودي؛ لتزيدها بريقًا وتوهجًا.. لا بأس من السفر اليوم في إجازة قصيرة.. قميص وبلوفر خفيف وكتب وقلمي المفضل وهاتف مغلق وبعض أغنيات لفيروز ونجاة، وتذكرة ذهاب وعودة.
وفى النهاية بحر ينتظر..
هو البحر بكل عمقه واتساعه وحيويته، بكل هذه الحرية التي تجعلك تغلق عينيك وتتخيل ما تشاء.
المكان: نقطة متناهية الصغر على شاطئ البحر الأحمر أراها من زاوية مقعدي في الطائرة… فندق صغير تطل جميع نوافذه على البحر، الجميع هنا يعرفونني فأنا من عشاق هذا الركن القصي في العالم.
قال لي عامل الفندق ذات مرة:
– سيدي لماذا لا تجرب أن تقضي العمر كله هنا…؟! ماذا وراءك في المدينة غير الهم والتعب والزحام…؟! امكث معنا وكُفَّ عن السفر والترحال.
من قال إننا نستطيع أن ننقل ما نحب إلى حيث ما نريد أو نحتفظ بما نرغب للوقت الذي نتمنى…؟!
هذه أحلام مستحيلة مهما راودنا البحر عن أنفسنا وصور لنا من الخيال أوهاما لذيذة..
الليلة الأولى.. عشاء على أضواء الشموع الخافتة.. قمر مكتمل تمامًا يطل من النوافذ.
ابتسم الجميع في وجوه الجميع، وحين بدأ عازف الكمان يأخذنا إلى موسيقاه الرقيقة انتبهت أن هناك مائدة ناقصة وشخصًا غائبًا عن هذا العشاء..، من يكون هذا المحروم من هذه السعادة الغامرة؟ وأين يقضي ليلته إذا كان القمر حاضرًا معنا…!!
أتكونين أنت سيدتي البعيدة كمنارة في عُرض البحر…؟! القريبة كوشم في الصدر..
أيكون هذا المقعد الخالي في هذه الليلة المقمرة لك وحدك دون النساء…؟!
يتهاوى صوت الكمان حزينًا خافتًا موجعًا في القلب كيوم فراقك…
أرفع عيني على إيقاع شخص تائه مثلي على أوتار اللحن ينشد حروفًا من قصيدة محرمة.. هل هو مثلي ضاعت حبيبته فأخذ يبحث عنها في عتمة الليل وارتعاشات المساء…؟
لا جدوى من الذكرى..
وهل آتى كل عام في نفس الموعد إلا للذكرى واسترجاع دقات القلب الأولى وخفقانه…؟!
والكلمات المهترئة على شفاه ذابت شوقًا وحنينًا.
أنا هنا سيدتي كي أراك في صفحة الماء وزرقة السماء..
علني أشفى بعد سقم وأبرأ من علتك الأبدية في قلبي..
يوم اخترتِ الهجر وأعلنتِ الرحيل كنت معي هنا تبدين في غاية التأنق والوداعة تتعطرين بعطرك المفضل..، وترتدين ثيابا تعلمين أنها تزيدك فتنة وبهاء.. أنا وحدي هنا أتجرع الذكرى بينما أنت هناك مع ذاك الأحمق الذي أقنعك بالزواج منه والسفر معه بعيدًا.. كنتِ في هذا الصباح جميلة كما العادة عيناك تبرقان مرحًا وسعادة.. أما أنا فبحبي جرح يتعذر أن يطلق نفيره في السراء والضراء.. بي لوعة ذبيحة تجأر.. لا قدرة لي على احتمالها…!!
وجاء عيد الحب إذن…
فيا عيدي وفجيعتي وحبي وكراهيتي ونسياني وذاكرتي كل عيد وأنت كل هذا..
للحب إذن عيد يحتفل به المحبون والعشاق ويتبادلون فيه الورود والبطاقات والأشواق، فأين عيد النسيان سيدتي؟؟
ما دام الفراق هو الوجه الآخر للحب، والخيبة هي الوجه الآخر للعشق، فلماذا لا يكون هناك عيد للنسيان تتوقف فيه الخطوط الهاتفية، وتُمنع فيه الإذاعات من بث الأغاني العاطفية، ونكف فيه عن كتابة شعر الحب وقصص الغرام…؟!
الكاتبة سوسن محفوظ