“غابت”ل د. سعيد محمد المنزلاوي

غابت، ولم أعد أراها. تسربت في غفلة من عيون الرقباء، ضاعت ملامحها كـمــا تضيع الذكريات الجميلة، درست معالمها كرسم عبثت به مخالب الرياح العاتية، وطمسته الأعاصير العارمة. مضت كحلم الكرى، لم يبق منها غير ظلال بسمة شاحبة، ووهج ضحكة خجلى لم تلبث حتى وئدت. أين غابت؟ لا أحد يدري، لم يتبعها أحد، لم يشعر بأنفاسها الهاربة أحد. ذابت كما تذوب قطعة من السكر في بحر هائج لا يرحم. هناك مَن يقول: رحلت مع الشمس ساعة الغروب، ولكنها لم تأتِ مع الشمس حين أشرقت. قالوا: أخلفت وعدها مع الأرض. ومنهم مَن قال: فرت إلى الأفلاك البعيدة، وأمست نجمًا بعيد المنال. ومنهم مَن قال: بل استحالت إلى شظايا طوحتها الرياح في الفضاء الرحب العظيم. ومنهم مَن قال: لم تغبْ، وإنما الذي غاب هو ضياؤها الذي كان يسطع في الليالي المظلمة، ورقتها التي تذوب ماءً عذبًا رقراقًا صافيًا. غابت منها الحياة فأمست ظلاً باهتًا وشاحبًا، لا يكاد يُرَى، وانطفأ منها الضياء، فلم تعد تشع السنا، ولا تبعث النور حولها، وخمدت جذوتها، فلم تعد تشعر منها بالدفء أو الحرارة أو الحنان. ومنهم مَن قال: إنها هناك، على مقربة من القلوب، وبعيدًا عن العيون، ولذا لا نراها، ولكننا فتشنا القلوب فلم نجدها، وأرسلنا العيون فلم نرها. قالوا: إنها هناك، ولكنك لا تراها؛ فقد دقت وجلت حتى لم تعد تبصرها العيونُ. قلت: وأين السبيل إليها؟ قالوا: بالقلوب. قلت: وكيف؟ قالوا: فتش عنها، نقب القلوب عنها، قد تجدها ممتزجة بالدماء، قد تكون نبض القلب، قد تكون إحدى نبضاته، ولا تيأس، فقد تطول رحلة البحث، وقد ينفد الصبر، ولكنها هناك جارة القلب، وقرة العين. قلت: وأين السبيل إليها؟ لقد كلَّت الراحلة، وطال المسير، ووعر السبيل، ولمَّا تقع عليها العيون، أو ينبض بها القلب! قالوا: تزود بالصبر. قلت: الصبر نفد. قالوا: تزود بالأمل. قلت: ملَّنا الأملُ. قالوا: الحياة كلها نَصَبٌ. قلت: وفيم النَّصَبُ؟ قالوا: في طلب الأمل. قلت: ولِمَ؟ قالوا: لتحقيق المُنى. قلت: وأين أجد المنى؟ قالوا: أمام ناظريك، ولكنها لا تراه. قلت: ولِمَ؟ قالوا: لا تسلْ، فربما تكون قد تلاشت، وربما تكون قد تعاظمت، وفي الحالتين لا تراها. قلت: فأنا إذن أبحث عن سراب. قالوا: الآن وعيت الجواب. قلت: ففيم كان البحث والمسير؟ قالوا: لحكمة تجلُّ على العقول. قلت: لقد تحيَّرت العقولُ، ولم تعثر على الهدف المنشود. قالوا: هذا نصيبكَ فارضَ به. قلت: رضيتُ.

د. سعيد محمد المنزلاوي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *