غزة والهدنة ماذا بعد؟

منُذ إندلاع عملية طوفان الأقصى البطولية  في ٧ أكتوبر أصبح المشروع الصهيوني برمته ضمن دائرة الإستهداف فهذه العملية البطولية هي ترجمة حقيقة لإرادة الشعب الفلسطيني الذي تجرع الألم وتشرب القهر في سجون الإحتلال ومعتقلاته طيلة ٧٥ عامًا من التهجير في دول الجوار ظل الحلم الفلسطيني في الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس في نفوس اللاجئين في غزة والضفة الغربية.
فجاءت العملية في وقت اختارته المقاومة بعناية فأرادت من ذلك أن تعيد الحالة الفلسطينية إلى الواجهة وخاصةً بعد أن فقدت الألق بعد عمليات التسوية والإتفاقيات التي أضاعت الحق الفلسطيني وقضمت الأراضي وجرأت المستوطنين على أبناء شعبنا وتسارع قضم الأرضي جراء بناء المستوطنات وطمس الهوية العربية الفلسطينية ومشاريع التطبيع التي تصاعدت وتيرتها في الآونة الأخيرة.
فوضعت الظروف الأنفة المقاومة أمام خيارين سأقوم بتحليلها
• الخيار الأول: وهو مواجهة المشروع الصهيوني ومحاولة تهويد القدس بضربة إستباقية تزلزل الكيان الصهيوني وداعميه وتظهر مدى ضعفه أي على صورته الحقيقة في أي مواجهة مستقبلية ، فهذه العملية تعد حجر أساس في وضع حد للسياسة الصهيونية المتغطرسة كونها وسيلة لردع الكيان وممارساته ضد أسرانا في سجون الاحتلال و تصديق على تمسك المقاومة بأسرانا ومحاولتها تحريرهم بكل السبل.
فالمعادلة السياسية التي فرضتها المقاومة تشترط أن يكون الأسرى على سلم الأولويات في أي مفاوضات مستقبلية فك الحصار عن غزة والإفراج عن الكل مقابل الكل وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية على حدود العام ١٩٦٧.
• الخيار الثاني : والذي يطفو على السطح أن تبقى المقاومة في وضعها السابق كسلطة تدير  شؤون القطاع  وتبقى تراكم قدراتها حتى تسنح لها الفرصة في ظروف سياسية ملائمة لإقامة الدولة الفلسطينية وفق منظور بعيد التحقيق، فالمقاومة لن توافق على دولة منزوعة السلاح لا تكون فيها سيادة مطلقة للفلسطينيين على أراضيها وهذا الخيار غير قابل للتحقيق بسب تعنت الكيان الصهيوني وغطرسته.

وبالتالي فإن ما شاهدناه من عمليات قصف جوي وعدوان همجي غير مسبوق على قطاع غزة يستهدف كل مظهر للحياة في القطاع ما هو إلا غيض من فيض فهذا العدوان مخطط له من قبل دوائر الغرب ومدروس بعناية لضمان بقاء” إسرائيل ” كقوة مهيمنة على الشرق الأوسط، وهذا ما يبرر تكالب الغرب وسرعة استجابة الرئيس الأمريكي بإرسال حاملات الطائرات إلى المتوسط لمواجهة أي تدخل عسكري محتمل إذا توسعت دائرة الحرب وتطورت على نحو لا يرضي “إسرائيل”.
في بداية العدوان رفعت إسرائيل سقف المطالب ليشمل القضاء على حماس والمؤسسات التابعة لها وتدمير البنية التحتية لها وخاصة مع الدعم اللامسبوق من قبل أمريكا.
كما أنه يتسنى لهم أن إستهداف الحاضنة الشعبية بوابل من المتفجرات والأسلحة المحرمة دوليًا من شأنه أن يضغط على المقاومة ويعرقل صمودها فاقترفت قوات الاحتلال أفظع المجازر بحق المواطنين المدنيين واستهدفت المدارس والمشافي ودور العبادة في عدوان لم يشهد له العالم مثيل راح ضحيته ١٥ ألف مدني جُلهم من الأطفال والنساء . في رسالة واضحة أن هذا الشعب هو من أفرز المقاومة وهذه المقاومة صناعته ونشأت بين أحضانه، فالطبيعي ممن يمتلك عقلية الإجرام وعزيمة القتل والسفح أن يصب جام غضبه على المدنيين العزل محاولا إقناع خصومه ومعارضيه الأكثر منه دموية بمبدأ الردع من خلال عهد بسياسة الأرض المحروقة و خاصة بعد أن إقتادت المقاومة جنوده وضباطه ومستوطنيه أمام مرأى العالم وهو يعلم علم اليقين أن النتائج لن تكون في صالحه البته.
في بداية العدوان الإسرائيلي كان من بين الأهداف المزعومة تقليص قدرات حماس الصاروخية وإضعاف إمكاناتها العسكرية  إلا أن هذه الأهداف أخذت بالسقوط رويدًا رويدًا أمام تكتيك سياسي وعسكري إنتهجته المقاومة في الدفاع عن غزة وصد العدوان وفي مقدمة هذا التكتيك تشكيل قوة الظل لحماية الأسرى من المدنيين والعسكريين وتأمين حياتهم ليكونوا ضمن  أي صفقة محتملة مع العدو الصهيوني وهذه القوة المشكلة تتبع لقيادة القسام مباشرةً.
كما أن المقاومة شرعت بتطوير قوة ردع لتدمير كل المدرعات والأليات الصهيونية وكانت المفاجأة أن القذائف المستخدمة محلية الصنع. فراح العدو يبحث عن مخرج من المستنقع الذي أعدته له المقاومة بحيث يتجنب خسائر الفخ البري.
فأخذ ينسج القصص والروايات و يراوغ للخروج بأقل الخسائر فكان مشفى الشفاء في وسط مدينة غزة مسرح لعملياته العسكرية فصور المشفى كأنه غرفة لعمليات المقاومة فأخذت الأرتال العسكرية بالتوجه للمشفى بقصد احتلال حسب الرواية المضللة فقطعوا مستشفى الشفاء عن العالم الخارجي.
رغم تبين عدم وجود مسلحين في المشفى واقتصار الوجود على الطواقم الطبية والجرحى الذين أصيبوا جراء القصف الوحشي.

أما المقاومون في غزة فكانوا على قدر عال من الجاهزية فقد استطاعت المقاومة على تدمير 335 ألية لقوات الاحتلال وأخذت باستدراج قوات الاحتلال لما يعرف بالقتال المتقدم ونسجت له عشرات الكمائن في حرب من المسافة الصفرية اجمع العالم على كونها فريدة من نوعها ولم يسبق لها مثيل. فراح الجنود يتسنجدون بالقيادة السياسية لتخرجهم من جحيم غزة قبل أن تتفاقم الخسائر أكثر وتزداد فاتورة خسائر جيش الاحتلال.
وأمام هذه المواقف البطولية وجدت حكومة الاحتلال نفسها مضطرة للجنوح الى مطالب المقاومة ووافقت على هدنة إنسانية متبوعة بتحرير للأسرى والرهائن برعاية قطرية لتهدئ من روع مقاتليها من جهة وتخفف احتقان الشارع الإسرائيلي من جهة أخرى والذي بدوره اتهم نتنياهو في عدة مواقف وبشكل علني انه يقدم مصلحته الشخصية على أرواح ذويهم.
فأرادت المقاومة أن تبرهن للعالم مصداقيتها وعدالة قضيتها وبراعتها في إدارة الحرب في وجه عدو وحشي لا يجيد الا استهداف المدنيين وسياسة القتل.
وكان لوسائل الاعلام الدور الأكبر في فضح المحتل وممارساته من خلال نشر المقاطع المصورة التي تظهر التعامل الإنساني والأخلاقي للمقاومة كما أنها أظهرت روح القتال العالية لدى المقاومين في منظر مهيب أثناء تسليم الأسرى في كافة أرجاء غزة موصلين رسالة للاحتلال مفادها أن المقاومة تتصدر المشهد وأنها من تضع الشروط وكان لها لذلك حيث كانت الشروط موضع اهتمام العالم.
وبالتالي فإن ما شهدناه ونشاهده من مفاوضات جرت في أروقة السياسة هيأت الظروف الملائمة للتفاوض على تبادل الأسرى المدنيين من الجانبين في خطوة تسعى حكومة الاحتلال من خلالها لإلهاء الشارع الإسرائيلي عن إخفاقات الحكومة والحد من سخطه على المنظومة السياسية التي تجد نفسها في مأزق كبير جراء نجاح المقاومة في إدارة المعركة وتأجيج الجبهة الداخلية على نتنياهو وحكومته المتهالكة.
وبإعتقادي الخاص أرى أن الحكومة الإسرائيلية مقبلة على أزمة أخرى تكون فيها في موضع مسائلة قد تحاول التنصل منه من خلال انتخابات مبكرة تنتج حكومة جديدة لتتحمل أوزار اخفاق نتنياهو محاولا اخراج نفسه من عنق الزجاجة.

الكاتب والباحث محمود النادي

2 thoughts on “غزة والهدنة ماذا بعد؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *