غصن البان قصة قصيرة ل د. سعيد محمد المنزلاوي

الانفصال يعني أن تستغني عن نصف راتبك قهرًا، وأن تحرم من أولادك، فلا تراهم إلا نزرًا، ولا تشارك في تربيتهم، ولكنك تحمل تبعات تربيتهم الخاطئة، والتي تقف حيالها عاجزًا. راودته هذه الأفكار وهو يشاهد في إحدى المتنزهات التي اعتاد التجوال فيها، شيخًا كبيرًا يتعكز على ولده الكهل الذي يطوف به بين الأشجار والورود في تؤدة وبطء، كان يحادث والده بابتسامة لا تفارق ثغره، وإذا تعب والده استراحا معًا كغصني بان انحنى أصلها، فمال عليها الفرع تحنانًا.

شعر بالحرمان، تعطش إلى حضن أولاده، احتوائهم له، ها هو وقد تقدمت به السن وداهمه المرض، لم يجد مَن يعتني به، ويخشى أن يموت وحيدًا.

مرتان وفقط، فكر فيهما أن يتزوج، أو قل فكر له أصحابه، ولكنه كان يحجم عن الشروع في تلك الجريمة ـ كما كان يسميها ـ حسبه تجربة فاشلة، حُرم فيها من بيته وأولاده. كانت سِنُّه يوم انفصل عن زوجه خمس وأربعون سنة، أهدر ثلثها في حياة أصدق ما توصف به بأنها كانت استنزافًا لطاقاته، واغتيالًا لآماله، ووأدًا لأحلامه. لو أنصفوه، لطرحوا تلك السنين العقيمة من عمره، واستعاضوا عنها بأخرى؛ كي يظفر بتلك الفتاة التي رشحوها له، بعد انفصاله عن زوجه بنحو عام ونصف العام. كان فيها من الخلال ما جعله يرى فيها صورة مناقضة لمطلقته، ما جعله يأنس لها، ولكنها كانت تصغره بذات العدد من السنوات التي قضاها مع مطلقته. ربما لو كان قد التقى بها في شبابه، لكان الآن أسعد حظًا، ولكنها سخرية الأيام به، حين وضعت في طريقه مَن تماست مع روحه، وملكت عليه شغاف قلبه، ولكن التوقيت خانه، شعر بالهوة الزمانية التي تفصل بينهما، والتي ستجعل منهما غريبين في بيت واحد؛ فلا يمكن للربيع وللخريف أن يلتقيا معًا بحال من الأحوال؛ فابتعد مؤثرًا السلامة لها ولقلبه الجريح.

المرة الثانية، كان قد تجاوز الخمسين من عمره، وكانت هي أرملة في نفس عمره، شعر معها بتقارب روحي فريد، تمازجت فيه أرواحهما، وودا لو تمازج الجسدان. أدرك أن الحب الناضح هو الذي يأتي في خريف العمر، حيث لا مجال للتفكير في شيء سوى السعادة، السعادة وحدها؛ لتنعم الروح فيما تبقى لها من عمر ليس بالطويل.

كادت مراسم الزواج أن تتم، غير أنَّ المرض داهمه واستوطن جسده النحيل، كان للأنيميا الحادة التي يعاني منها دور كبير في غزو الأمراض له وتوطنها لبدنه. لم يرتضِ أن يمسي عالة على غيره، لا ذنب لها أن تستأنف حياتها مع مريض؛ فاستكان للوحدة وللمرض، زاد من وطأتهما هذا الشعور بالحرمان من حب عاش ينشده طوال عمره، فلما التقاه في خريف العمر حال بينه وبين حبه المرض.

لا يزال غصنا البان ـ كما أطلق عليهما ـ يدوران بين الأشجار كعاشقين، تمنى ساعتها أن يكون له ولد كهذا الولد البار، ولكن أنَّى له ذلك وقد غذَّت مطلقته بنيه بكراهيته، كانت كراهية غير مبررة. كثيرًا ما قضى الساعات يفكر في سبب مقبول لتلك الكراهية، لذلك النفور الذي يجده في أولاده. حين أعياه التفكير، وعجز عن الجواب، سلم بالأمر كأنه إحدى المسلمات، وأراح نفسه من عناء التفكير. كانت قدمه قد سارت به طويلًا، بالرغم من تحذير الأطباء له، شعر بقدميه ترتعشان، لم تقويا على حمل جسده المثقل بالهموم وبالأوجاع، فسقط أرضًا، استغاث برواد الحديقة، لكن أحدًا لم ينتبه إليه، بينما الشيخ قد غادر الحديقة في صحبة ولده.  

د. سعيد محمد المنزلاوي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *