كانت خطواتها الأولى بعد الحبو، وكأنها عداءة أوليمبية، تعدو في مضمارها والذي لم يكن سوى قلبي الذي تألقت دقاته فرحًا بخطواتها الأولى، وصارت كل نبضة وكأنها مشجع يلهج بالثناء على موهبته العظيمة ومع نعومة أظفارها تعلمت حب الوطن، الوطن الكبير وطننا العربي .. تعلمته وهي تتعلم السير. وها هي ذي صارت تلميذة في الصف الثالث الابتدائي، ولكنها تحمل عقل طالبة جامعية إنها تتمسك بالمقاطعة تمسك من يعي معنى قطرة الدم التي تسيل بقيمة كل سلعة تشتريها من بضائعهم.
وذات يوم طالبتني بالاشتراك في رحلة متجهة لسيناء، وأمام إلحاحها وافقت وإن ساورتني المخاوف والظنون لبعد المسافة وما يعتري تلك المحافظة الباسلة من أعمال إرهابية بين حين وآخر..
وصلت الرحلة محطتها الأخيرة وكانت (طابا)، وعند رجوع الطلاب لركوب الحافلة، لك يجدوها بين الطلاب وانطلق الجميع يبحثون عنها. لقد فعلتها واتجهت نحو الحدود مع فلسطين مستقلة إحدى الحاويات المحملة بالمعونات. وعلى مرمى البصر رأت الشاحنات والحاويات وكأنها عربات قطار يمتد طوله بلا نهاية.. وعندما توقف السرب عن السير، ترجلت واتخذت من قلبها دليلًا يقودها إلى حيث تتمنى.. إنها تتمنى دخول فلسطين، وأن تلتقي بالأطفال ممن هم في مثل سنها تشاركهن الآلام والأحزان.. تواسي من فقدت ذويها، وتطعم من عجزت عن تناول الطعام لفقد ذراعها، وتبكي مع من تبكي تشاركها دموعها وتمنحها من قلبها باقات عطف تواسيها نكبتها.. وبعد مسير طويل وجدت ضالتها؛ مئات الأطفال يحملون آنية ينتظرون المعونة.. وجوه بائسة، ونظرات أنهكها البوح وأضناها الجوع، وقلوب تشربت حسرات الفراق حتى ما عاد فيها بقية جهد لحزن جديد.
بحثت بعينيها عن رفيقة تشاطرها اليوم وتتلمس من خلالها الطريق نحو مخيم تبيت فيه ليلتها ووجدتها، طفلة تصغرها قليلًا، لا تزاحم الأطفال، وإن حملت قدرًا صغيرًا تنتظر دورها في انكسار.. وضعت كفها على كتفها وقالت لها: أنا مصرية. ابتسمت الصغيرة وقالت: وأنا فلسطينية.
أخرجت من جيبها بعض الحلوى ومنحتها لرفيقتها الجديدة. فنظرت الأخيرة حولها وكأنها بنظراتها تنادي الجميع/ والعجيب أنهم أقبلوا.. وتقاسموا الحلوى.
فأخرجت المصرية المزيد والمزيد والفلسطينية توزع ولا تستأثر بشيء لنفسها وبعد قليل انفردت الصغيرتان عن المجموعة وسألتها الفلسطينية عن سبب مجيئها.. فأخبرتها أنها جاءت لتشاركهم المصير. فسألتها الفلسطينية المساعدة في الدخول إلى مصر فلم يعد لها أهل فقد ماتت أسرتها بالكامل في إحدى غارات المحتل القذر. شعرت المصرية بأن نبضات قلب رفيقتها تكاد تقفز من ضلوعها فرحًا عندما أخبرتها بوسيلة تدخل بها مصر. لقد منحتها الطريق إلى حافلتها المدرسية، وانطلقت الفلسطينية بلا تردد تبحث عن الحياة، بينما قررت المصرية مواصلة رحلتها نحو المجد..
أكاد أجن بنيتي أين أنتِ، كيف تركتموها تضيع، وتلوح في الأفق تلك الصغيرة البائسة فسألنا هل أنتم أقاربها.. الجميع يلتفون حولها ويسألونها: هل تعرفين مكانها؟ تجيب في براءة: لقد تنازلت لي عن أسرتها واختارت البقاء هناك مع المجاهدين.. اندفعت كالمجنون إلى حيث أشارت ولا أعرف ما الوسيلة التي حملتني إلى هناك، حيث أولئك المناضلين المرابطين، وأخذت أبحث عن وجهها بين وجوه أولئك الأطفال، وشاهدت تجمعًا لبعضهم حول بناية يبدو أنها تهدمت منذ دقائق بضربة جديدة من أولئك الجبناء..
ذهبت أتلمس رائحتها.. يا ويلي.. هناك أطفال شهداء .. لا تكوني منهم .. وكانت المفاجأة إنها هي بنيتي احتضنتها بكل ما أملك.. وصوت نحيبي يملأ الجنبات والآفاق ورأيت بجوارها كلمات خُطَّت بالدماء إنها رسالة.. رسالة لي: لا تبك يا أبي، إنني اشترطت على ربي ألا أرضى إلا إذا اصطحبتماني إلى الجنة أنت وأمي. ولسوف يرضى. أليست مفاجأة موعدنا الجنة.
القاص محمود حامد شلبي