تبدأ المأساة، وتكاد تسقط كل الكاميرات أمام خوف ذلك الطفل!
كيف لطفل في الرابعة أو الخامسة من عمره أن يتمسمر أرضًا، لا يدري أين يخطو؟
طفل في الرابعة يبدو كطفل رضيع لا يدرك المسميات والعوالم، أصابته عاصفة الذهول، فلا يجد سبيلًا أفضل من الانكفاء على نفسه. أفسده السجن حتى بات يشعر أن العالم الخارجي غير مألوف ومخيف أكثر من الداخل؛ فهو لم يعرف ولم يعش الحياة كما ينبغي أن تُعاش. الحياة بالنسبة له تتجاوز تلك الحجرة الضيقة في السجن، وأمّه تختصر شجرة العائلة بأكملها.
ألا يكفيه من العذاب أن نسبه مجهول، وقد جاء حصيلة اغتصاب لضحية من ضحايا الطغاة؟
تتكرر مشاهد المأساة؛ سيدة لا يزال الخوف يتملكها ويحكم سيطرته عليها، وشجاعة السير والتحرر تتبدد. تطلب من أحد الثوار الهوية ليزف لها نبأ سقوط النظام الطاغية، وأنها باتت حرة طليقة.
شاب، كلما سأله أحد الإعلاميين عن اسمه، غرق في نوبة ضحك هستيرية؛ فهو لم يعتد سوى على ضرب التحية لضباط الإجرام في السجون.
حوار تقشعر له الأبدان:
المذيع: ما اسمك؟
الأسير المحرر: احترامي سيدي.
هذا ما اعتاد قوله لسنوات.
هذا المشهد الحقيقي، لو صادفته في إحدى المشاهد الدرامية، لقلت: “أوووه، لكمية المبالغة!”، لكن الواقع بات دراميًا بامتياز، حقيقيًا يفتقر إلى أي مبالغة!
آخر يرى الازدحام خواءً، والصخب حوله هدوءًا. مدخرات ذاكرته نفدت؛ فقدها كما فقد صحته وعافيته في السجن.
وآخر يصعقه ضوء الهاتف الجوال، حينما أراد تصويره أحد الثوار، فسأله متعجبًا: ما هذا الاختراع؟!
فهو لم يعرف منذ زمن طويل سوى اختراعات التعذيب والتدمير النفسي والجسدي. كل اختراع خارج حدود الغابة التي يقطنها مجهول!
اختراعات التعذيب تحتاج إلى عدة مؤلفات لتؤرخ بصمات الإجرام في تلك السجون.
الجميع سمع وعرف كيفية تقليص الوزن للأحياء عن طريق الأنظمة الغذائية وغيرها، لكن هل سمعت يومًا عن اختراع لتقليص وزن وحجم الجثث؟!
سجون النظام تعرف ذلك، فقد تم العثور على عدة مكابس تُستخدم لتقليص أكوام الجثث، فيسهل التخلص منها! إنها آلية إخفاء آثار الجريمة.
يراودني مثل شعبي يقول: “حاميها حراميها.”
فهل من المنطقي أن تستبدل الأجهزة الأمنية أدوارها لتصبح هي المجرمة، بدلًا من أن تعاقب على الإجرام؟!
سُميت أجهزة أمنية للحفاظ على الأمن العام، وليس لسلب ونهب أمن الشعب!
كم سندفع من رصيد عافيتنا النفسية لننسى ما حدث؟!
هيهات التجاوز…
فخلف القضبان الحديدية، حاقد يلهو برغباته الجنسية؛ يغتصب ويعذب الضحية على صوت سورة قرآنية!
هم أعداء الله قبل أن يكونوا أعداء الإنسانية. جميع الأديان السماوية براء مما فعلوا بسجينات الحرية.
أكان يتوهم الجلاد أنه انتقم من قوة إيمانها بطريقة اغتصابها على صوت القرآن؟!
ذلك حينما تجرأ، وبعد أن أنهى اغتصابه، باغتها بسؤال: “أين ربك؟ لو كان موجودًا لكان أنقذك.”
نسي “سيادة المحقق”، البعيد عن التحقيق بُعد السماوات عن الأرض، أن أمثاله لا تصلح حتى أن تقطن الغابات؛ فالحيوانات لا تتقبل قسوته ووحشيته الدموية. لكنه يصلح لعشرة الأحجار فقط!
رسالة مني ومن كل المعلقين إجابة على سؤالك:
ربها كان دائمًا موجودًا، وهو من سخر لنا أن ينكشف المستور، لتصبح أنت وأمثالك عبرة لمن يعتبر. ربها وربنا جميعًا هو من أسقطك وأسقط رئيسك، وأنار بصيرة العالم أجمع. حتى من كان يؤيدكم، يعارضكم اليوم.
الضحية المغتصبة تُرفع لها القبعات لصبرها على وحشيتكم. لكن أنت، من اغتصب المنصب وأخلاقك وجُرّد من الإنسانية، لا تثير الشفقة، ولن تصبح يومًا ضحية. حصادك كله نظرة احتقار جماعية.
لدينا الحق في السؤال: أي قانون من قوانين العالم أجمع يبيح لمحقق اغتصاب الضحية؟!
لا أدري ما الذي سيخرج من أجله يأجوج ومأجوج؛ فنظام الأسد عاث في الأرض فسادًا بما يكفي!
لو حاولنا التطرق لموضوع السبب الذي قادنا لهذه النتيجة، لأصابك الذهول.
ثمة العديد من المعتقلين أضاعوا سنوات أعمارهم في السجون دون سبب!
هل ثمة عاقل في هذا الكوكب يسجن أحدًا بتهمة أنه كردي؟!
أو يسجن العديد من النساء بتهمة “خيانة الطائفة”، وهذا ما روته وأكدته المعتقلة الملقبة بـ”خنساء حوران والجولان”، حسناء الحريري، فقد مورس ضدها شتى أنواع التعذيب النفسي والجسدي.
حدثت عن سوء الأخلاق الذي أوصل البعض لسجنها بتهمة “إطعام المتظاهرين”!
لو أمعنا النظر في الحصاد، لوجدناه ظالمًا.
فهل من العدل أن تزرع المحبة وتحصد الحقد؟!
ما ذنبها العظيم الذي استدعى سجنها وتعذيبها طيلة تلك السنوات؟!
وحينما تجرأت ودافعت عن سجينة تم اغتصابها وإعادتها للزنزانة وقد انهارت أعصابها، وجدت نفسها محاطة بأكوام هائلة من الجثث حينما تم نقلها إلى غرفة تسمى “غرفة الخوازيق”!
أو ما وصفته هي بغرفة تشبه المسلخ.
ولو عدنا لشهادة الأسير الشهيد مازن حمادة، ابن محافظة دير الزور، الذي تم اعتقاله بتهمة التظاهر ونقل الأخبار، فقد تم تصنيف الكاميرا من وجهة نظر النظام على أنها أسلحة محرمة دوليًا!
مازن حمادة، شهيد كلمة الحق ونقل الحقيقة، تم العثور على جثته في مشفى حرستا بعد أن مُثّل بها!
من يعيد ترميم الكسور في قلوب عائلته التي فقدت ابنها بدون أدنى ذنب يُذكر؟!
إلى جنان الخلد، يا بطل الإعلام الحر. أبلغ سلامنا وفخرنا لكل شهداء كلمة الحق.
وفي هذا السياق، لا يمكننا تجاوز قصة عبد الوهاب دعدوش، صاحب حلم الطب، الذي كان يسعى لنيل الشهادة. آخر خطواته قبل الاعتقال كانت في سبيل تقديم امتحان جامعي.
من يزيل من وجهه علامات القهر؟
قالها رسولنا الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم: “أعوذ بالله من قهر الرجال.”
القهر هو من حول وجهه إلى رمز المعاناة والتعب!
من يزيل عن كاهله أعباء السنين التي قضاها في السجن؟!
إعدامات ميدانية، مقابر جماعية، أدوات تعذيب خيالية، جميعها تشير إلى إجرام النظام في السجون.
كان الله في عون الشعب ليتمكن من تصديق كل ما عرفه وشاهده.
الآن بات الجميع على إيمان أن الجملة التي كانت جزءًا من عادات وتقاليد الشعب السوري: “بيخفوك تحت سابع أرض”، حقيقية بكل ما تحمله الكلمة من خيبة.
فقد تم العثور على عدة سجون سرية تحت الأرض.
لم يكن النظام مستعدًا لإعادة إعمار البلاد؛ كان منشغلًا بإعمار السجون السرية وإلقاء التهم العشوائية لجمع آلاف المعتقلين، والتخلص من كل شخص يتجرأ على نقد الدولة ولو بكلمة حق!
في الأرض السابعة، ثمة آلاف الضحايا ضلوا طريق الحرية، لكن الفرج جاء من السماء السابعة.
في 18/3/2011 م، كان السؤال: ما الحرية التي يريدها الشعب؟
تأخرت الإجابة عدة سنين عجاف.
اليوم أدركنا جميعنا أن الحرية ليست لنا، بل الحرية للمعتقلين. ولو لم تثمر الثورة غير الإفراج عنهم، لكفى.
الكاتبة الإعلامية يارا فريج