“في الطّريق إلى غرناطة” لكنانة عيسى صيغة سردية لهموم وطنية وإنسانية ل د. يوسف حطّيني

تحكي رواية “في الطريق إلى غرناطة” للكاتبة كنانة عيسى حكاية جلال: الفنان واللاجئ السوري الذي انتهى به تطوافه إلى إسبانيا، وانتهى به فنّه إلى تلك الشعرة العبقرية التي تتّحد بالجنون على تخوم مرض نفسي يعبث بذاكرته. يلتقي “جلال” بصديقه “سالم” شريكه في اللجوء، بعد حادثة غير ذات تسويغ حبكوي مقنع، ولكنها ضرورة حكائية حتى يلتقي القريب والقريب فوق الأرض الغريبة. يُتّهم جلال الفنان بقتل حبيبته/ زوجته “ليلى”، ولكنّ التحقيق يثبت أنّ ليلى على قيد الحياة، وأنّه لم يتزوجها أصلاً إلا في فجوات ذاكرته.

الحكاية ليست بوليسية تماماً، وليست نفسية تماماً، إنما هي حكاية تتوازى فيها الحبكة البوليسية مع انهيارات جلال، مثلما تتوازي طيبة سالم مع هلوساته، وفظاظة أوليفيه مع براءته؛ تتوازى الخطوط كلها، ولكنها خلافاً للمنطق الرياضي، تلتقي لتقول رؤيتها تجاه الأزمة السورية، وتجاه الفن والحياة والتاريخ الهارب من بين أيدي الأبطال.

قلنا: إنّ الحكاية تبدأ من حادثة أساسية لا معنى لها تقريباً؛ إذ ينشأ صراع شبه دموي بين جلال الذي تؤلمه الموسيقا، وسالم العازف الذي ينكأ جراح جلال. غير أنّ “اللامعنى” هنا شديد الإيحاء؛ لأن هذا الصراع غير الحبكوي بين “مكوّنين” من مكونات المجتمع السوري له ما يسوغه دلالياً: إنه صراع بين الذات والذات في معركة اللاجدوى. أمّا المؤمَّل إنسانياً فأنْ يتّجه المكوّنان (والمكوّنات) اتجاه الحبكة ذاتها، ويصبح عدوّا اللحظة صديقين حميمَين على نحو ما جرى في الحكاية. وعلى الرغم الحرب الكونية التي شنت على سورية أكبر من أن يختصرها خلاف مكوّنات النسيج السوري، فإنَّ هذا التوازي بين الحبكوي والرؤيوي يبقى محموداً، لا سيّما أنّ ما بين جلال وسالم (الانتماء السوري) كان أكبر من كلّ ما عداه.

إلى جانب قضية الانتماء التي شكّلت إيقاعاً مهما من إيقاعات الذاكرة والحدث الروائي، برزت قضايا أخرى تجسّد الانتماءَ لعربيٍّ بكى ملكاً مُضَاعاً، والانتماء لإنسانية ترفض التصفيق لمنظر ثورٍ تنغرس في جسده السهام.

(2)

تعتمد الحكاية على السارد الأول/ المتكلّم في معظم فضائها الطباعي، وتتوسّل السرد المباشر وشيئاً من الوصف والحوار والمذكّرات المتداخلة التي تجسّد ضياع الشخصية الرئيسية جلال، في جوّ يمتزج فيه الواقعي بالوهمي، وأحياناً النصّي بما هو خارج النص، إلى درجة يتخيّل فيها القارئ أنّ ليلى التي كتبت في مذكراتها: “أعلن نفسي جارية لنفسي وسيدة لنفسي وصاحبة لنفسي”، ص81، تعبّر عن شخصية الكاتبة ذاتها.

وكثيراً ما تتنقل كنانة عيسى بين زمنيها الأساسيين/ الماضي، والحاضر ببراعة قد تخونها في أحيان قليلة، فتسجلب استرجاعات بطريقة تقليدية، من مثل: “أكملْ يا جلال أكملْ، أريد التفاصيل. لم هذا البخل؟”، ص35. و”حوّل مجرى الحديث الممتع إلى خانتي قائلاً…”، ص76. وهي تفيد من تقنيات السرد في تقديم الحدث، بل وفي الدلالة على الأحداث اللاحقة أيضاً، على نحو يشبه الإرصاد في الشعر؛ إذ نقرأ في مذكرات ليلى: “أدركتُ أنني سأخذلك”، ص58، إشارةً مبكرة لحلّ لغز اختفائها. فيما يبقى الماضي سيد الأزمنة الذي يعيش نوستالجيا الاسترجاعات الخارجية الأليمة المحمّلة بمرارة الفقدان، يقول جلال، بينما كان مع سالم: “كأنني خارج جسدي، كنتُ أطفو بالقرب مني ومنه، أحلّق في فضاء الصالة الصغيرة بأثاثها الغريب، رأيتُ نهر غوادالافير، وقلاع بني نصر، وغلالة أمي البيضاء، وثوب ليلى، وساحة الجامع الأموي”، ص31.

كان من الطبيعي تماماً أن ينثال التاريخ من رمز المكان الواقعي الذي تتسيّده المشهدية: “إسبانيات متجولات في الشوارع يشترين حوائجهن بتكاسل، مغربيات عنيدات يعرضن وشومهنّ من الحنّة بأسعار بخسة، سائحات غربيات يرمقن كلّ شيء بدهشة (…) وغجريات تائهات منكوبات يبحثن عمن يقرأن له أوراق التاروت وخطوط الكف..”، ص10، وثمة تأثيث بارع لهذه الأماكن بكلّ أنواع المؤثٍّثات حتى بالأطعمة ذات الدلالات المتضادة في الأزمنة المتنافرة، فهناك “الطعام الروماني المقزز بنكهاته الشنيعة ورائحته الحامضة”، ص67 الذي يحيل على غربة البطل الحاضرة في في مقابل الألفة الهاربة التي تجسدها مربيات الفاكهة وخبز التنور الأسمر ومكدوس الأمّ. تلك الألفة التي تختبئ في الزمن الماضي، مثلما تختبئ صورتا أمه وحبيبته في المحفظة المسروقة.

(3)

يحضر جلال بوصفه سارداً داخلياً متحكماً بالسرد، يتيماً فقد والده في معركة لقمة العيش، وشجعته أمّه على ممارسة الفن. اشترت له الألوان ودفاتر الرسم، وباعت أساورها؛ لتشتري له ثياباً أنيقاً، أثمرت على وسادة الحب عاشقات كثيرة، ابتدأن بعفاف، وصولاً إلى نائلة، قبل أن يتوقف مركب العشق عند ليلى. بينما وجد نفسه، في إسبانيا/ الفردوس المضيَّع، فنّاناً مستغَلّاً، ورجلاً يخضع للتحقيق على يد محقّقين يرون فيه “مشروع مجرم”.

وتدور في فلك جلال مجموعة من الشخصيات في مقدمتها شخصيتان رئيسيتان: شخصية سالم القوية بحضورها، وشخصية ليلى الحاضرة من خلال غيابها الغامض المثير. فأمّا سالم فقد وصل إلى ألمانيا، وتعرّض للاحتيال عليه من قبل مهرّب تركي نذل، وسُرق فور وصوله إلى ألمانيا، وعانى مثل كل اللاجئين السوريين، فعمل في غسل الصحون وتنظيف الأرضيات، وانحنى ذلاً في سبيل “اندماج” لا يتحقق مع غربٍ لا يرى في الشرقيّ إنساناً كفؤاً. غير أن انتماءه السوري الأصيل/ الإنساني تجلّى من خلال وقوفه إلى جانب جلال، وإيمانه ببراءته: “أنت لستَ قاتلاً. أنا أعرفك جيداً”، ص132.

وأمّا ليلى الغائبة الحاضرة التي احتلّت مساحة معتبرة من الفضاء الطباعي فلم تنفذ من ثقوب ذاكرة جلال التي أصبحت غربالاً، “يتساقط منها كل شيء، وتبقين وحدك”، ص12، إنه يعيش معها في واقعه “شعرتُ بحفيف ثوب حولي”، ص91، وفي كوابيسه “كنت نائماً بخفة وابتذال مع كوابيس كنتِ أنت بطلتها كالعادة”، ص20، حتى إنها تتسرب إلى لوحاته فتذوب فيها، وإلى جلسات الطب النفسي، والتنويم المغناطيسي، وهي لم تغادره بعد انتهاء المحاكمة ببراءته، (يمكن النظر في: ص48، وص65، وص142، وص158، وص196، وغيرها).

وجهان سوريان بريئان طيبان، يضيئان ليل غرناطة في قلب جلال، في مواجهة ظلام تشدّه نحوه ثلاث شخصيات أُخَر: أورسولا التي تريد أن تورطه بقتل ليلى مستغلةً ثقوب ذاكرته، وهي تكره وجهه العربي “الذي ترى في غضونه كلّ هزائمنا أمام عرقها النبيل”، ص19، وكاترينا التي، على الرغم أنوثتها ورقتها، تصفق لدماء الثيران المسفوكة في الحلبة، وأوليفيه الذي لا يأبه لشيء سوى أن يجني الأرباح من المعارض الفنية التي يقيمها لجلال، ويدفع بسخاء نقوداً قذرة من أجل إخضاع الفن العبقري إلى سلطانه، يقول جلال معبراً عن تقززه من سطوة مال أوليفيه التي لا يستطيع منها فكاكاً: “أتحسس رزمة النقود القذرة في جيبي”، ص51.

(4)

تنجح كنانة عيسى في رواية “في الطريق إلى غرناطة” في تقديم لغة محشودة بالإشارات الثقافية (مجنون ليلى ودرويش ولوركا) وغنية بالمجازات الموظفة حكائياً، حتى من خلال الوصف السردي الذي يقود الحكاية إلى غاياتها. غير أنّ ثمة ملاحظتين صغيرتين تعتوران بعض الأنساق السردية: أولاهما أنّ الكاتبة تستخدم أحياناً لغة إنشائية غير سردية تخلو من الوظيفة الحكائية (مثل: أواخر ص17 وص83)، وثانيتهما أنّها تستخدم، على ندرةٍ، لغةً ذهنية تجرح براءة السرد، من مثل قول سالم: “نحن إخوة حتى وإن لم نتشارك الدم نفسه، حتى وإن لم ننتمي [لم ننتمِ) إلى الطائفة ذاتها، حتى ولو كنا مختلفَين في توجهاتنا السياسية”، ص124.

ربّما لم تكن الرواية بحاجة إلى ذلك التصريح الأخير الذي قالته فعلاً مرات عديدة عبر سردها العذب ومواقفها الحكائية المتنامية. وتبقى رواية “في الطريق إلى غرناطة” رواية ناضجة فنياً، ورؤيوياً، فقد تناولت موضوعات نفسية وهموماً وطنية وإنسانية في صيغة حكائية مشوقة وأسلوب سردي رشيق.

د. يوسف حطيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *