الأب رجل أعمال مشهور… كثيرا ما يغادر البيت لفترات طويلة… تلهيه تجارته الواسعة وبضاعته الرائجة ودنياه العريضة وسفرياته ورحلاته وملايينه وملياراته فما يحل في بلد حتى يرحل إلى بلد آخر وعندما يعود للمنزل بعد شهور قضاها بعيدا يهرول إليه أبنائه يحيى وعلي ويوسف وحبيبة إلا أحمد فقد منعه العجز عن الهرولة واحتضان أبيه مع إخوانه وأخته فقد أقعده شلل الأطفال ومنعه من الحركة فهو لا يبرح كرسيه المتحرك فصار أبوه يتجاهله ينظر إليه شزرا كما ينظر لقطعة أثاث منزلي قديمة بالية أو لمقعد خشبي متهالك يكسوه التراب ويغلفه النسيان في حديقة عامة بالية غير مأهولة… يهب الجميع هداياه ويمنحهم عطاياه فهذا له طائرة بلاستيكية وذاك قطار كهربائي و ذلك سيارة فارهة وتلك عروسة خشبية ويهبهم نقوده وحلواه أما أحمد فلايوجد له مكان في قلب الأب ولا بعقله أيضا فلا يعده من جملة أطفاله يبتلع الصغير القعيد ريق غصته ويمتص ألمه وحنقه وما أن يؤذن المؤذن إلا غادر البيت لفوره على كرسيه المتحرك للذهاب للمسجد ليدرك الصلاة في حينها… حفظ القرآن الكريم كاملاً على كرسي مرضه العاثر… سافر الأب كعادته دون أن يودع صغيره المقعد… دون أن يحتضنه أو أن يلقي عليه نظرةَ وداعٍ حانيةٍ أخيرةٍ
وخرج أحمد لصلاة الجمعة بعد أن اغتسل وتطيب، وضمخ ملابسه البيضاء الجميلة بالعطر، وبعد صلاة الجمعة، وفي أثناء عودته تأتي سيارةٌ مارقةٌ فتدهسه، ويعود الأب محملًا بالهدايا والحلوى ككلِّ مرةٍ للجميع ما عدا أحمد ينتظر سؤالا لطالما تهرب من الإجابة عليه وتعلل بأسباب واهية، على واغتاظ من ذلك الطفل القعيد العنيد الذي يحاول دوما أن يخرجه به من دنياه البازخة ويدخله في عالم لم يطرق بابه طيلة حياته عالم الصلاة والذكر والمسجد والقرآن والطاعة والعبادة فكل مرة كان يسأله الصغير نفس السؤال :لماذا لا تصلي يا أبي؟! وإلى متى؟!
يضيق بالصغير،وأسئلته، ويستخف به، وبعجزه ،وتدينه فهو يراه دومًا غير مجد له في أعماله وأشغاله فلن يأتي يوم يساعده فيه في عمل ،ولن يشاركه في تجارة ولن يؤانسه في حفل مع أصدقائه، ولن يصحبه في سفرٍولن يسامره بليل فهو مقعد قعيد عاجز لا حول له ولا إرادة ولا نفع له ولا طائل من وجوده ماذا عساه يفعل؟!
وهو لا يملك من أمر نفسه شيئًا هو كَلٌّ على مولاه أينما توجهه لا يأتي بخير هكذا يراه الأب… في المرة الأخيره أحسَّ الأب أنَّ شيئًا قد تغيَّر فلم يباغته أحدٌ بالسؤال، ولم يتلجج هو في الإجابة والنفور شعر أنه قد فقد بوصلته في صحراء إهماله لصغيره،وأنه قد أضاعه في غابات تسلطه وظلمه… نظر فلم يجد الصغير ولا كرسيَّهُ المتحرك.
صاح منتفضًا :أين أحمد؟!
أجابه بنوه : في صوت واحد : (في ذمة الله).
استفاق الأب بعد طول غيابٍ فَعَلِمَ من ضيَّعَ ؟! وكيفَ ضَيَّعَ؟!
وبدأ يقلب في ذاكرته كيف أمعن في نسيان ابنه، وتشاغله عن طاعة ربه؟!
القاص عبد الصمد الشويخي