مروري في المكان، وأجواءُ الشتاء العاصفة أعادتني إلى ذكرى قديمة، طوتها السنون، ولكنها لم تبرح الذاكرة،بل إنني أستعيدها في ذهني، كما حدثت تماما.
ولعل هذا يؤكد تلك الفكرة الخالدة التي تقول: إن الأشخاصَ يرحلون، وتبقى آثارُهم العطارة ، وأعمالُهم الحسنة، وذكرياتُهم الدافئة التي لا تُنسى.
كنت وزميلي ذاهبيْن إلى المدرسة، ذات صباح شتوي مطير وعاصف، ولم يخامرْنا أدنى شك بأن المدرسة ستغلق أبوابها؛ بسبب الأحوال الجوية.
أسرعنا إلى دوامنا، ورفعنا مظلة فوق رأسينا، ومشينا متقاربيْن في شارع طويل، كان علينا أن نقطعه،حتى نصلَ إلى مدرستنا الثانوية.
كان البرقُ يلمع، والرعودُ تزمجر، والمطرُ غزيرا، فيما كانت الرياح المعاكسة لاتجاه سيرنا تصدنا، وتعيق حركتنا. تشبثنا بمظلتنا الخفيفة التي طوتها الريح، ولم تعد قادرة على القيام بمهامها. ابتلت ملابسُنا، وبدأ الماء ينقط من جسميْنا الصغيرين، ولكنّ هذه الحالة لم تمنعنا من الاستمرار في سيرنا المضني؛ للوصول إلى مدرستنا ، قبل رنين الجرس.
وفيما كنا نتابع مشوارنا، وإذا بسيارة تقف أمامنا، ويطلب منا سائقها الصعود. فتحنا الباب ودخلنا، وسلمنا، فوجدنا أستاذنا الحبيب حسن راكبا إلى جانب السائق، فأدركنا أن معلمنا هو الذي طلب من السائق الوقوف ومساعدتنا.
يا سلام …!!. كانت السيارة دافئة ومريحة، وهي تشق طريقها مسرعة، فيما تعمل مساحاتها بكامل طاقتها على قشط الماء عن زجاجها الأمامي.
أوصلنا السائق إلى ساحة المدرسة، فشكرناه، وشكرنا أستاذنا الذي عزّ عليه أن يرى اثنين من أبنائه الطلبة، يتعرضان لموجات البرد والريح والمطر، دون أن يحس بمشاعر إنسانية دافئة، عبّر عنها، وترجمها إلى فعل ، من خلال تقديم المساعدة والعون لمن يستحقون.
لقد مرت على هذه الذكرى عشرات السنين، ولكنني تذكرتها، عندما مررْت من هنا.. شارع جنين .. حيفا . كنت مع مجموعة من الأصدقاء، حدثتهم عن معلمنا الخالد في الذاكرة، وقرأنا معا على روحه فاتحة الكتاب.
الكاتب عبدالسلام العابد