قراءات في الرواية الفلسطينية “عائد إلى حيفا” لغسان كنفاني: صورة المكان بين زمنين:(8من 11)

تعودُ بيَ الذّاكرة سنواتٍ إلى الوراء، حين حمل لي صديقي حفنة من تراب فلسطين وأراد أن تكون مفاجأة لي، ظانّاً أنني سأحتضنها وأقبلها. غير أنني خيبتُ ظنه حين شكرته ورفضت أخذها. أخبرته يومها: إنها لا تساوي شيئاً حين تُحمل إلى المنفى.

قلت له يومذاك: لن تصلك فكرتي، حتى تقرأ غسان كنفاني ، وكنت أقصد رواية “عائد إلى حيفا ” بالذات؛ فتلك الرواية تضع الذاكرة في ميزان الرؤيا، وتصحح ـ بشكل مبكّر ـ النظرة العاجزة نحو الوطن: فهو أكثر بكثير من ذكريات نحتفظ بها عنه، كما يقول سعيد. س بطل الرواية.

أولاً ـ الطريق إلى البحر:

عائد إلى حيفا رواية العودة الزائفة المُهينة إلى البيت، تحكي حكاية سعيد. س وزوجته صفية اللذين قررا أن يسافرا بعد نكسة حزيران 1967 من رام الله إلى حيفا؛ ليزورا بيتهما ويشاهدا ابنهما خلدون الذي خلّفاه وراءهما رضيعاً عام 1948. ذلك الابن الذي يقدّم غسان كنفاني استذكاراً ضافياً ومؤلماً؛ ليبين أن بقاءه في سريره لم يكن إلا نتيجة المؤامرة الكبرى التي اشترك فيها الصهيوني مع البريطاني ضد الشعب الفلسطيني.

ففي صباح 21 نيسان عام 1948، “كانت حيفا مدينة لا تتوقع شيئاً، رغم أنّها كانت محكومة بتوتر غامض”، ص11. وحين بدأ القصفُ فضّلت صفية زوجة سعيد أن تنتظره في البيت، وحين اقترب القصف واشتدّ، تركت طفلها النائم في السرير، ونزلت إلى الشارع لتسأل أصحاب السيارات عن زوجها، وعن الطريق وعن إمكانية وصوله إلى البيت في هذه الظروف؛ لتجد نفسها في حشد بشري لا يُردّ نحو اتجاه وحيد:

“وفجأة رأت نفسها في موج الناس يدفعونها، وهم يندفعون من شتى أرجاء المدينة في سيلهم العرم الجبار الذي لا يمكن ردّه، كأنها محمولة على نهر متدفق مثل عود من القش”، ص17. وتماماً مثلما وجدت صفية نفسها في ذلك الزحام وجد سعيد نفسه فيه: “وبعد لحظات شعر سعيد أنه يندفع دونما اتجاه، وأنّ الأزقة المغلقة بالمتاريس أو بالرصاص أو بالجنود إنما تدفعه دون أن يحسّ نحو اتجاه وحيد”، ص11-12. وهكذا في حمأة محاولات العودة إلى منزله، كان الجنود البريطانيون يسدون بعض المنافذ ويفتحون منافذ أخرى، ليجعلوا الطريق المتاح الوحيد يقود إلى البحر: “ليس يدري كم من الساعات أمضى وهو يركض في شوارعها، مرتداً عن شارع إلى شارع. أما الآن فقد بات واضحاً أنهم يدفعونه نحو الميناء”، ص14. لقد حاول سعيد، مثلما حاولت صفية، أن يعودَ في الاتجاه المعاكس، فوجد نفسه “مثل من يسبح ضدر سيل هادر، ينحدر من جبل شديد العلو”، ص15، أما هي فقد توقفت؛ لتغيّر اتجاهها، فصارت مثل “شجرة انبثقت فجأة في مجرى سيل هائل من الماء”، ص18.

هو الطريق إلى البحر إذاً، إلى المنفى الذي رسمته لهما أيدي البريطانيين والصهاينة، حيث كانت السفن تنتظر في الميناء. ولم يستوعبا حقيقة ما جرى إلا حين رأيا نفسيهما محمولين وسط الزحام. وقد أدركا أنهما فقدا كل شيء: حيفا والبيت وخلدون، حين “نظرا إلى الشاطئ، حيث كانت حيفا تغيم وراء غبش المساء وغبش الدموع”، ص19.

هذا التأثيث البصري الحركي الذي يشرح بكل ألم يومَ إخراج أهل حيفا منها، رافقه تأثيث صوتي ، أتى؛ ليسهم في رسم صورة دامعة لذلك اليوم، فسعيد “ما يزال يذكر كيف أنه كان يتجه نحو البحر، وكأنه محمول وسط الزحام الباكي”، ص15. وما زال يذكر أيضاً “الدخان والعويل ودوي القنابل وزخات الرصاص تمتزج أصواتها بالصراخ وهدير البحر وزحف الخطوات الضائعة وضرب المجاديف على سطح الموج”، ص16. أما صفية التي رأت زوجها وسط الزحام المحمول نحو البحر فلم تجد أمام عجزها وتعبها إلا أن تصرخ “بكل ما في حنجرتها من قوة، ولم تكن كلماتها الطائرة فوق ذلك الزحام الذي لا ينتهي لتصل إلى أيّ أذن. لقد رددت كلمة خلدون ألف مرة.. مليون مرة.. وظلّت شهوراً بعد ذلك تحمل في فمها صوتاً مبحوحاً مجرّحاً، لا يكاد يُسمع”، ص18.

وعلى الرغم من الظروف التي تشرحها الرواية؛ لتكشف أن ترك الطفل الرضيع لم يكن خيار سعيد وصفية، فإنها تكون حاسمة في تجسيد خطأ الوالدين اللذين كان يجب ألا يتركا الولد والبيت وحيفا، وفقاً لرؤية الرواية، ووفقاً لكلام سعيد وابنه خلدون/ دوف الذي صار جندياً احتياطياً في الجيش الإسرائيلي، على نحو ما يبرز السياقان اللذان ينقلان على التوالي حواراً بين سعيد وزوجته، وخطاباً غير مشفّر يوجهه الابن/ العدوّ لأبيه:

• “ـ لقد بدأت الجريمة قبل عشرين سنة، ولا بد من دفع الثمن. بدأت حين تركناه هنا.

ـ ولكننا لم نتركه. أنت تعرف.

ـ بلى. كان علينا ألا نترك شيئاً. خلدون والمنزل وحيفا”.ص50.

• “كان عليكم ألا تخرجوا من حيفا. وإذا لم يكن ذلك ممكناً، فقد كان عليكم بأيّ ثمن ألا تتركوا طفلاً رضيعاً في السرير. وإذا كان هذا مستحيلاً أيضاً فقد كان عليكم ألا تكفّوا عن محاولة العودة”، ص73.

لقد استوعب الأب سعيد هذا الدرس حتى قبل أن يرى خلدون/ دوف وقبل أن يحدثه، فقد أخبر زوجته أن “حيفا تنكرهما” لأنهما عادا خائبين، وأخبرها بحكاية فارس اللبدة، وهي جميعها تفاصيل تؤشر إلى أنّ استعادة الوطن هي الطريق لاستعادة كلّ ما فيه ومن فيه. لذلك يقول سعيد لدوف/ خلدون ولأمه/ مريام البولونية قبل أن يخرج مع صفية من الباب:

“تستطيعان مؤقتاً البقاء في بيتنا، فذلك أمر تحتاج تسويته إلى حرب”، ص78.

ثانياً ـ الرواية: التاريخ والذاكرة:

إذا كانت هذه الرواية تحكي جزءاً مهماً جداً من تاريخ فلسطين، وتكشف بعض نتائج الحلف التاريخي الغاشم بين الصهاينة والبريطانيين؛ فإنّ التاريخ نفسه يقدّم إلينا من خلال ذاكرة الشخصية؛ ذلك أنه “عندما تقصر المسافة الزمنية بين الذاكرة والتاريخ، بل عندما تنعدم بفعل استمرار الحدث ـ المأساة وضغط تداعياته ووطأته، بل كابوسه الدائم الرابض على العقل والقلب والإدراك والمخيال، وعلى الوعي واللاوعي، فإنّ شريط الذاكرة ينشط في تسجيل خطوط الصورة كلّها وألوانها وتفصيلاتها “.

ها هنا، وفي هذه الرواية، يصبح التاريخ ذاكرة، ويحتمل أسئلة متعدده حول ماهيتها وطبيعتها: أهي ما يختزنه البصر والحواس كافة؟ أم ما يختزنه القلب، وما يقرّ في الروح والنفس والوجدان؟ أم ما تختزنه الجينات التي تنتقل من جيل إلى جيل؟

المكان الأساسي في الرواية ثابت، والمتحوّل هو الزمن الذي نقل المكان من حيّز الضوء إلى حيّز الظلام المرتبط بسقوط حيفا منذ عام النكبة، وحتى النكسة، حيث يغلق الزمن الروائي حكاية الرواية.

ذاكرة الضوء تنبع من أي ارتداد زمني إلى ما قبل عام 1948، وترتبط بالمكان الأليف ارتباطاً وثيقاً: إن حيفا في ذلك الزمن يعرفها وتعرفه، بخلاف حيفا التي رآها بعد عشرين عاماً (حيث قال: إنها تنكره)، إنها حيفا/ الأليفة التي “يعرفها حجراً حجراً، ومفرقاً وراء مفرق، فلطالما شق تلك الطريق بسيارته الفورد الخضراء موديل 1946 (…)، وأخذت الأسماء تنهال في رأسه، كما لو أنها تنفض عنها طبقة كثيفة من الغبار: وادي النسناس، شارع الملك فيصل، ساحة الحناطير، الحليصة، الهادار…” ص9. وها هي ذي تتدفق عبر ذاكرته الحية، وهو في الطريق إلى بيته، حتى بأشجار السرو الثلاث التي تنحني قليلاً فوق الشارع: “ورغب أن يتوقف لحظة كي يقرأ على جذوعها أسماء محفورة منذ زمن، ويكاد يتذكذرها واحداً واحداً”، ص26.

التفاصيل كلّها تقفز إلى ساحة الذاكرة في طريق العودة/ الزائفة إلى البيت، فكلّ تفصيل صغير يذكره تماماً، ولعلّ في وصف مدخل البيت أبلغ تعبير عن انشداد سعيد نحو ذلك الماضي:

“وبدأا يصعدان دون أن يترك لنفسه أو لها فرصة النظر إلى الأشياء الصغيرة التي كان يعرف أنها ستخضّهُ وتفقده اتزانه: الجرس، ولاقطة الباب النحاسيّة، وخربشات أقلام الرصاص على الحائط، وصندوق الكهرباء، والدرجة الرابعة المكسورة من وسطها، وحاجز السلّم المقوس الناعم الذي تنزلق عليه الكفّ، وشبابيك المصاطب ذات الحديد المتصالب، والطابق الأوّل حيث كان يعيش محجوب السعدي، وحيث كان الباب يظلُّ موارباً دائماً، والأطفال يلعبون أمام الدار دائماً، ويملؤون الدرج صراخاً، إلى الباب الخشبيّ المغلق، المدهون حديثاً، والمغلق بإحكام”، ص ص27-28.

ويحتلّ هذا الوصف للمدخل أهمية كبرى لدى سعيد وزوجته، إنه الخطوة الأولى نحو البيت، بما يعنيه من الولادة الأولى والملاذ الأول؛ ذلك أنّ “البيت هو ركننا في العالم. إنّه، كما قيل مراراً، كونُنا الأول “. فالأمن والحماية مرتبطان به، ومن فقد بيته، فقدَ الحماية. وفي حالة سعيد وزوجته يعني شيئاً مختلفاً تماماً، لأنّ ما بعد عتبة البيت مؤهل تماماً للازواجية والتقاطب، والانفتاح على ثنائية زمنية متعارضة هي الماضي والحاضر. وعلى الرغم من غنى هذا المقطع الوصفي، فإن وهج الذكرى ينطفئ بموجب تلك الثنائية؛ ليتيح لحيّز الظلام أن يمتدّ بمجرد الوصول إلى الباب:

“ـ غيّروا الجرس.

وسكت قليلاً ثم تابع:

ـ والاسم طبعاً”، ص28.

ها هنا يقف سعيد على حافة زمنين، لقد غيروا اسمه، مثلما غيروا اسم حيفا وفلسطين، وحاولوا تزييف هوية المكان، كي يعلن المقتبس السابق بكل وضوح الانتقال إلى الزمن الآخر، حيث يتحوّل المكان الأليف إلى ورد تملؤه الأشواك.

ثمة إذاً بين الزمن المضيء والزمن المظلم، والمكان الأليف والمكان المعادي برزخ تقفز معالمه بين حين وآخر، فإلى جانب جرس الباب والاسم/ الهوية ملامح تأثيثية تشير إلى الأشواك التي التصقت بالوردة الفلسطينية؛ فالطاولة المرصّعة بالصدف صار لونها باهتاً، ص30، والأعواد السبعة لريش الطاووس في المزهرية: “كانت خمسة فقط”، ص30، وقد استطاع سعيد “أن يرى مقعدين من أصل خمسة مقاعد هما من الطقم الذي كان له، أما المقاعد الثلاثة الأخرى فكانت جديدة، وبدت هناك فظة، وغير متسقة مع الأثاث”، ص30.

الجرس والريشتان واللون الباهت للمنضدة، والمقاعد الثلاثة تحوّلت من إشارات تربط بين الدال والمدلول إلى رموز يقوم الذهن بتفسيرها بطريقة اصطلاحية ، وذلك لمجرّد انتمائها إلى المكان المعادي الذي يسعى إلى اقتلاع المكان الأليف، وقد بدا إحساس سعيد بمعاداة ذلك المكان، أو بعدم ألفته على الأقل، في زمن حكائي مبكر؛ إذ قال في سياقات سردية تنتمي إلى ما قبل العقدة:

• “لا أريد الذهاب إلى حيفا، إن ذلك ذلّ. وهو إن كان ذلاً واحداً لأهل حيفا، فالنسبة لي ولك هو ذلان”، ص23.

• “وخطر له أن يقول لزوجته: إنني أعرفها حيفا هذه، ولكنّها تنكرني”، ص7.

• وحين تقول له زوجته: “لم أكن أتصور أنني سأراها مرة أخرى”، يردّ قائلاً: “أنت لا ترينها، هم يرونها لك”، ص8.

حتى إنه يشعر بغربة بيته عنه، وكأنّ هذا البيت يرفض أن يكون صاحبه متسولاً وعاجزاً، فهو يقول لصفية: “هذا بيتنا. هل تتصورين ذلك؟ إنه ينكرنا. ألا ينتابك هذا الشعور؟ إنني أعتقد أن الأمر نفسه سيحدث مع خلدون. وسترين.”، ص50.

هذه الريبة المشروعة التي بدأت مع سعيد منذ بدأ الرحلة، تستند إلى وعي فكري ناضج، ولكنه مغطىً بطبقة من صدأ الأبوة، هذا الصدأ الذي دفعه إلى منع ابنه خالد من الالتحاق بالفدائيين، وجاء ابنه الآخر خلدون/ دوف؛ لكي يكشطه عن قلبه وعقله. وقد تجلّى هذا الوعي في بداية رحلته، حين حدّث زوجته عن بوابة مندلبوم التي فتحها الأعداء في وجوه أصحاب البيوت، لا لكي يعودوا إليها، بل لكي يتحسروا على أنهم كانوا يملكونها. إنها البوابة التي يفتحها الإسرائيليون، وقد انتظر سعيد عشرين عاماً أن تُفتحَ من الجهة الأخرى:

“طوال عشرين سنة كنت أتصور أن بوابة مندلبوم ستفتح ذات يوم، ولكن أبداً أبداً لم أتصور أنها ستقتح من الناحية الأخرى. لم يكن ذلك يخطر لي على بال، ولذلك حين فتحوها هم بدا لي الأمر مرعباً وسخيفاً، وإلى حد كبير مهيناً تماماً… قد أكون مجنوناً لو قلت لك: إنّ كلّ الأبواب يجب ألا تفتح إلا من جهة واحدة”، ص7.

ثالثاً ـ المواجهة ترسم النهايات:

إن سعيداً المكبّل بالخوف من فقدان ولده الثاني خالد، يقرر منذ اللحظة الأولى عجز موقفه وضعفه في مواجهة مريام: “طبعاً نحن لم نجئ لنقول لكِ اخرجي من هنا، ذلك يحتاج إلى حرب”، ص33؛ ويدرك أن تسوية أمر البيت لا تتم بهذه الطريقة، بل بالمواجهة التي يفهم الأعداء لغتها. وربما كان بحاجة إلى مثل هذه المواجهة، كي تتغلب قناعته على خوفه. فالذين يستوطنون البيت لا يراعون حرمة أهله: “كأنها في بيتها، تتصرف كأنها في بيتها”، ص47. ويغتصبون حتى نسب خلدون إلى أبيه:

“ـ وقت أوبته الآن. ولكنه قد يتأخّر قليلاً. لم يلتزم طوال عمره بموعد عودته إلى البيت. إنه مثل أبيه تماماً”، ص47.

ـ (…) إنها تقول مثل أبيه، وكأنّ لخلدون أباً غيرك”، ص48.

ولا بدّ أن يشار هنا إلى أنّ مريام التي تصنّعت اللطف والهدوء كانت تحتفظ بمفاجأتها المرعبة إلى اللحظة المناسبة؛ لتخبرهم أن الأوان قد فات، وأن خلدون/ دوف قد شبّ عن طوق أبوّة الدم:

“الرجل الطويل القامة خطا إلى الأمام. كان يلبس بزة عسكرية، ويحمل قبّعة بيده.

وقفز سعيد واقفاً كأن تياراً كهربائياً قذفه عن المقعد”، ص62.

ولم يكن الابن دوف (هذه المرة دوف فقط) أقلّ حدة من مريام؛ فحين يسأله سعيد:

“أنت في الجيش. من تحارب؟ لماذا؟” يجيبه: “ليس من حقّك أن تسأل هذه الأسئلة. أنت على الجانب الآخر”، ص65. ثم يجابهُ سعيداً بيهوديته التي تجعله يذهب إلى الكنيس وإلى المدرسة اليهودية ويأكل الكوشير ويدرس العبرية، ص67.

إن فعل الكلام هنا، حسب التعبير التداولي، غير متكافئ؛ ذلك أن دوف وأمه مريام يمتلكان “سلطة السياق وصلاحيتها” ، بوصفهما يمثّلان “المحتل الغاضب وقوة بطشه، ولكنّ هذا الفعل نفسه أدّى إلى تسريع الوصول إلى القرار من قبل سعيد/ الطرف الآخر الأضعف في الفعل الكلامي الحجاجي؛ ليجد نفسه منقاداً إلى موقف غير كلامي منتظر. بمعنى إن هذا المجتزأ من الحوار الحجاجي سرّع ظهور مؤشرات النهاية الحدثية، فالأحداث أخذت تتطور نحو نهاية سهمية لا تردّد فيها؛ إذ يتساءل سعيد عن ماهية الوطن، ثم يحاول أن يتفهّم موقف خالد من فلسطين:

• “ما هو الوطن؟ أهو هذان المقعدان اللذان ظلّا في هذه الغرفة عشرين سنة؟ الطاولة؟ ريش الطاووس؟ صورة القدس على الجدار؟ المزلاج النحاسي؟ شجرة البلوط؟ الشرفة؟”، ص73.

• “ما هي فلسطين بالنسبة لخالد؟ إنه لا يعرف المزهرية ولا الصورة، ولا السلّم، ولا الحليصة، ولا خلدون. ومع ذلك فهي بالنسبة له جديرة بأن بحمل المرء السلاح، ويموت في سبيلها. وبالنسبة لنا أنت وأنا، مجرد تفتيش عن شيء تحت غبار الذاكرة. وانظري ماذا وجدنا تحت ذلك الغبار. غباراً جديداً”، ص77.

وها هو ذا سعيد يخبر دوف بمواقفه تباعاً:

• “قد تكون معركتك الأولى مع فدائي اسمه خالد، وخالد هو ابني. أرجو ان تلاحظ أنني لم أقل إنه أخوك”، 69.

• “أتعرف لماذا أسميناه خالد، ولم نسمّه خلدون؟ لأننا كنا نتوقع العثور عليك، ولو بعد عشرين سنة. ولكن ذلك لم يحدث. لم نعثر عليك، ولا أعتقد أننا سنعثر عليك”، ص69.

• “إن أكبر جريمة يمكن لأي إنسان أن يرتكبها، كائناً من كان، هي أن يعتقد ولو للحظة أن ضعف الآخرين وأخطاءهم هي التي تشكّل حقه في الوجود على حسابهم”، ص76.

وتأسيساً على ما سبق يتّخذ عنوان الرواية “عائد إلى حيفا” معنى جديداً؛ فإذا كان العنوان، بوصفه قصداً، يؤسس لعلاقة مفترضة مع ما هو خارجه وما هو داخله بالإضافة إلى العلاقة مع مُرسله ، فإنه يمكن أن يغيّر دلالته، أويعدد دلالاته، وفقاً لتلك العلاقات في لحظة سردية فارقة. وبناء على ذلك فإنّ العنوان “عائد إلى حيفا” الذي كان تحيل مباشرة إلى عودة سعيد س أصبح وفقاً لتطور الحدث ممكن الإحالة إلى خالد أيضاً الذي من المنتظر أن يعود إليها عودة المظفّر لا عودة العاجز.

رابعاً ـ فارس اللبدة: حكاية الحكايات:

يضاف إلى المواجهة التي رسّخت قناعة سعيد بقراره حول الحرب وحول خالد حكايةُ فارس اللبدة التي يرويها لزوجته، وهي تشبه حكايات الذين زاروا بيوتهم تحت حراب الاحتلال، و”جميعهم عادوا يحملون خيبة كبيرة”، ص25.

صحيح أنّ هذه الحكاية تتموضع طباعياً داخل جسم الرواية، بمعنى أنها حكاية داخل الحكاية، ولكن يمكن أن نعدّها حكاية موازية تماماً لحكاية الرواية؛ فالحكايتان تقولان الشيء ذاته بطريقتين مختلفتين: فارس اللبدة يعود إلى منزله في حيّ العجمي في عكا؛ ليجد عربياً آخر يستأجره: “لا حاجة لتصب غضبك عليّ، فأنا عربي أيضاً، ويافاوي مثلك، وأعرفك فأنت ابن اللبدة. ادخل لنشرب قهوة”، ص54. وتبدأ أزمة الحكاية حين يدخل فارس إلى بيته الذي تركه قبل عشرين عاماً؛ ليرى صورة أخيه الشهيد بدر ما زالت على الجدار، ويكتشفَ أن مضيفه الذي استأجر البيت من بعده قد حافظ على الصورة، وسمّى ابنه بدراً على اسم الشهيد:

• “ـ إنهما بدر وسعد ابناي.

ـ بدر؟

ـ أجل. أسميناه على اسم أخيك الشهيد”، ص57.

• “هكذا ظلّت الصورة هنا. ظلّت جزءاً من حياتنا، أنا وزوجتي لمياء وابني بدر وابني سعد، وهو، أخوك بدر عائلة واحدة. عشنا عشرين سنة معاً”، ص58.

وبخلاف التغيرات التي يلمحها سعيد في بيته، وبرغم الأشياء الجديدة التي تعني تغيير الهوية (الجرس ـ الاسم ـ المقاعد…) فإن فارس لا يلمح تغييراً في بيته، ما يعني أن الفلسطيني يحافظ على إرث وطنه:

• “كان البيت هو نفسه بأثاثه وترتيبه وألوان جدرانه وأشيائه التي يذكرها جيداً”، ص54.

• “كانت غرفة الجلوس على حالها، كأنه تركها ذلك الصباح”، ص54.

• “… على الجدار المقابل المطلي بلون أبيض متوهج كانت صورة أخيه بدر ما تزال معلقة. وحدها في الغرفة كلها”، ص54.

وتبلغ أزمة الحكاية ذروتها حين يطلب فارس الصورة من صاحب البيت؛ ولكنّ صاحب البيت ينهي الذروة بسرعة حين يقدّمها لفارس؛ ليلاحظ خلفها “مستطيلاً باهتاً من البياض لا معنى له”، ص59. وحين كاد فارس أن يصل إلى رام الله شعر بأنه لا يمتلك الحق بصورة الشهيد؛ لأنه لم يحافظ على البيت وعكا؛ ولأنه اكتشف أن تلك الصورة تفقد قيمتها عندما تغادر جدار البيت، شأنها شأن حفنة التراب حين تغادر الأرض، وحبة البرتقال حين تغادر الشجرة، وعندها يرجع مرة أخرى؛ ليعيد الصورة إلى جدارها، وليتسوعب بقية الدرس الذي تعلمه من العودة الخائبة: “وفي الليل قلت لزوجتي: إنه كان يتعيّن عليكم إذا أردتم استرداده أن تستردوا البيت ويافا ونحن”، ص60.

لذلك جاء موقف فارس في الحكاية وبعدها “إنه يحمل السلاح الآن”، ص60؛ ليعزّز موقف سعيد النهائي؛ فقد فكرّ في أن يحتضن ابنه خالد، وأن يبكي على كتفه، متبادلاً معه دور الأب وابنه، ويكفّر عن ذنبه في منعه من الالتحاق بالفدائيين، راجياً أن يكون قد التحق بهم في أثناء غيابه: “وقد ظلّ صامتاً طول الطريق، ولم يتلفّظ بأيّما شيء إلا حين وصل إلى مشارف رام الله، عندها فقط نظر إلى زوجته وقال: أرجو أن يكون خالد قد ذهب… أثناء غيابنا”، ص79.

كلمة أخيرة:

إنّ رواية “عائد إلى حيفا” لغسان كنفاني تدعو إلى نقل الذاكرة لجيل قادم يكون أكثر قدرة على المواجهة، ولكنها لا تدعو إلى الركون إلى تلك الذاكرة، والاكتفاء بالبكاء على أطلالها. وقد أدرك الأعداء خطورة هذه الرؤية، فاغتالوا الكاتب الشهيد في السادسة والثلاثين من عمره، ولكنهم لم يستطيعوا اغتيال كتاباته التي ما زالت تحتمل قراءات متعددة.

د. يوسف حطيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *