قراءة انطباعية في رواية “في سبيل التاج” ل د.كايد الركيبات

“في سبيل التاج” رواية كتبها الأديب مصطفى لطفي المنفلوطي عام 1920، مترجمة عن العمل الأصلي للكاتب الفرنسي فرانسوا كوبيه. دارت أحداث الرواية في منطقة البلقان خلال القرن الرابع عشر، سلطت الضوء على الصراع من أجل الاستقلال ضد الحكم العثماني، حيث تشابكت القضايا الوطنية بالمسائل الشخصية.
تمحورت أحداث الرواية حول شخصية الأمير برانكومير، القائد البلقاني، الذي وجد نفسه مضطراً لاتخاذ قرارات تؤثر على مصير وطنه، بعد اجتماع الجمعية الوطنية واختيارها الأسقف أتين ملكاً للبلقان بدلاً منه استناداً إلى اعتبارات عقلانية مضمونها أن البلاد تحتاج إليه قائداً أكثر من حاجتها إليه ملكاً. هذا الانتقاص من حقه في نظره أوقعه تحت تأثير طموحات زوجته اليونانية الجميلة، الأميرة بازيليد، وهي شخصية طموحة ومعقدة، تتلاعب بالعواطف لتحقيق غاياتها، استغلت حالة الامتعاض التي أصابت برانكومير وحبه لها للوصول إلى السلطة والحصول على التاج. مع تصاعد الأحداث، وافق برانكومير على التآمر مع جاسوس الجيش التركي الذي تمكن من الوصول إلى قصره على هيئة مسكين بمساعدة الأميرة بازيليد لتسهيل عبور الأتراك إلى البلاد، ووقع معه على اتفاق تضمن تسهيل عبورهم إلى البلقان لقاء تنصيبه ملكاً عليها.


في المقابل، ظهر ابنه قسطنطين كشخصية اتسمت بالشجاعة والوطنية، عكست التناقض بين الواجب الشخصي تجاه الوطن والواجب العائلي، مما وضعه في مواجهة مستمرة مع قرارات والده ومعايير المجتمع، وسلبية موقف الأميرة بازيليد منه ونظرتها التي تعبر عن احتقارها له، وأملها في التخلص منه لأنه يشكل عائقاً في طريق طموحاتها.
اكتشف قسطنطين خطة والده وموافقته على خيانة الوطن، فوقف ضده بشدة، رافضاً السماح له بالقيام بهذا الدور الخائن. أدى هذا الصراع في النهاية إلى مواجهة بين الأب والابن، فوجد قسطنطين نفسه مضطراً لقتل والده من أجل حماية وطنه وإنقاذ سمعته من الخيانة. هذا الفعل عبّر عن التضحية العظمى والالتزام العميق من قسطنطين تجاه بلاده.


في نهاية الأحداث، تعرض قسطنطين لمحاولات مقصودة لتشويه سمعته واتهامه بالتآمر مع الأتراك لخيانة وطنه. استطاعت الأميرة بازيليد أن تقدم صك الاتفاق الذي وقعه والده مع الأتراك بحروف اسم شهرته على أنه موقع من قسطنطين، مما جعل الخديعة تنطلي على الجميع. آثر قسطنطين الصمت وتحمل الاتهام بالخيانة بدلاً من زعزعة شرف أبيه الذي عُرف بين الناس بأنه قُتل شجاعاً في مواجهة الأتراك. ظلت هذه الحقيقة مجهولة حتى حضر بازيليد الموت. خلال مرضها، ظلت تهذي بالحقيقة وترددها في يقظتها وأحلامها، حينئذ علم الناس، ولكن بعد فوات الأوان وبعد أن تبدلت أحوال البلقان، أن قسطنطين برانكومير ضحى بوالده في سبيل إنقاذ وطنه، ثم ضحى بنفسه في سبيل إنقاذ شرف أبيه.


حملت الرواية في طياتها رسالة قوية عن النضال والتضحية من أجل الوطن، والقدرة على مواجهة الصعاب والتحديات بجرأة وعزم، من خلال شخصيات الرواية وأحداثها، مع إبراز القيم الإنسانية العليا، والدعوة إلى التمسك بالفضيلة والنبل حتى في أصعب الظروف.
ندرك أن رواية “في سبيل التاج” ليست مجرد رواية تاريخية، بل هي دراسة عميقة في النفس الإنسانية وصراعها بين الواجبات الوطنية والشخصية، والأثر المدمر للطموحات الشخصية غير المنضبطة، مقابل النبل والتضحية في سبيل المصلحة العامة. لكن نأخذ على الكاتب مصطفى لطفي المنفلوطي تبني رأي الكاتب الفرنسي فرانسوا كوبيه الذي أظهر في الرواية موقفاً سلبياً تجاه الوجود التركي في أوروبا. تجلى ذلك في تصويره الأتراك كقوة استعمارية استغلت البلاد وفرضت سيطرتها بالقوة والعنف. وأبرز هذا بشكل واضح في وصفه للعلاقات المتوترة بين الجنود والقيادة، وأيضاً في موقف ميلتزا التي أنقذها قسطنطين من سوء معاملة جندي تركي لها. الكاتب صور التوسع التركي في البلقان على أنه نتاج السياسات الاستعمارية ومحاولات السيطرة والتوسع التي مارسها الأتراك في المنطقة. يُعذر الكاتب الفرنسي في ذلك لأنه قلب الحقيقة لخدمة مشروع بلاده الاستعماري التوسعي في بداية القرن العشرين، على حساب الدولة العثمانية التي كانت في سنوات انهيارها الأخيرة.
أما الواقع التاريخي فيقول غير ذلك. لا نبرر حركة التوسع العثماني في البلقان، لكن نذكر أن النفوذ الإمبراطوري والبابوي والإقطاعي هو ما كان سائداً وكان منغصاً على سكان البلقان وأوروبا حياتهم حتى وصلت بهم الأمور إلى الترحيب بالجيش العثماني الذي خلصهم من تلك السلطة الجائرة، فكانت حياة الناس في المجتمعات التي سيطرت عليها الجيوش العثمانية أكثر أماناً واستقراراً من البلاد الخاضعة للسلطة البابوية أو الإمبراطورية المقدسة.

ثم ألم تكن البلقان وأوروبا كلها تعاني من الحروب الدينية التي انطلقت شرارتها من إعلان مارتن لوثر انشقاقه عن الكنيسة الكاثوليكية وتنامي ظهور المذهب البروتستانتي، حتى كانت الحروب العثمانية في أوروبا تمثل حالة استراحة للمواطنين الأوروبيين من قمع الكنيسة الكاثوليكية وجيوش الإمبراطور شارل الخامس، ألم يكن التنكيل الديني في إسبانيا ضد المسلمين هو السمة الشائعة للحكم الإمبراطوري المقدس؟ متى عرفت محاكم التفتيش ومن صنعها؟ ثم جاءت حروب الثلاثين عاماً، فكانت سمة حروب أوروبا الداخلية أنها حروب دينية.
كان أولى بالكاتب رحمه الله أن يُعرّج على ذلك في إهدائه ومقدمته ويتبرأ من تبني الموقف، لا أن يقدمه لنا على أنه الحقيقة التي تخلو من الغلط والخيال، وظيفة الأدب وظيفة توعوية تثقيفية في الاعتبار الأول.


د.كايد الركيبات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *