النص :
هبوطٌ معكوس !
عجباً .. كلّما هَمَّا باعتلاء الطابق الفوقي، إلّا ويَجِدانِ نفسيهما يَعُودان من جديد إلى الحضيض !
أعادا الكَرَّةَ مرّاتٍ ومرّات .. في المحاولة الأخيرة، وهُمَا يَرتَقِيَان أدراج السُّلّم الرخامي العريض، التفتَ إلى رفيقه مُسْتَيْقِناً:
.
- أترانا نحنُ الآن طالعان أم نازلان ؟
ردَّ الرفيق بِالْتِباس:
أظنُّنا نَصْعَدُ إلى تَحت !
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تناص تخييلي مع تدوينة (نحن جيل يتهاوى برفعة) للصديق عبد اللطيف العمري الحداد.
القراءة :
/تمهيد :
مشهدية درامية لا تخلو من ملمح فلسفي؛ تتحرك وتستفهم خارج السكون والاعتياد، من خلال إعادة تشكيل صورة الهبوط العكسي، متوسلة بمبدأ موجه وخطاب عبثي إذا ما حاولنا رسمه – أي الهبوط إلى الأعلى- في المخيلة، لكنه يرمز ويوحي بشيء حقيقي وواقعي جدا كما سنأتي على ذكره في ورقتنا المقتضبة هذه…
العقدة هنا ميكروسكوبية ذاتية المنشأ، لكنها في الحقيقة القطرة التي تخفي وراءها بحرا من الهموم،
(عجباً .. كلّما هَمَّا باعتلاء الطابق الفوقي، إلّا ويَجِدانِ نفسيهما يَعُودان من جديد إلى الحضيض)
وكأننا نستحضر هنا سيزيف وقد بلغ ذروة الجبل قبل أن تتفلت الصخرة من يده وتتدحرج ليعيد الكرة من جديد..
وما بين يقين مسبق( التفت إلى رفيقه مستيقنا) وشك لاحق ( رد الرفيق بالتباس.. أظنها)، تعبر بنا الحوارية الخاطفة إلى منطقتها وحدود رؤيتها الخاصة التي تردم الهوة بين المنطق واللامنطق وتمنحها طاقة تأويلية هائلة يستدعيها الوضع الراهن أكثر من أي وقت مضى..
نص أراه في سياقه التخييلي وفي أبعاده الدلالية (الفلسفية/ النفسية/ الاجتماعية/ السياسية) مشذرا تتشعب خيوطه وتتمنع فرضياته،رغم رمزيته الخفيفة ولغته التواصلية الشفيفة التي لا تكلف فيها ولا غموض
/التخريج والجمع بين النقيضين :
الهبوط المعكوس : هبوط في الاتجاه المعاكس أي إلى الأعلى، أو هو صعود إلى الأسفل مثلما ورد في خرجة النهاية، وهما لا يختلفان في تأدية المعنى المطلوب على المستوى الأفقي، ولا يبعدان عن دلالات التقدم للخلف أو الرجوع للأمام إذا اعتمدنا الخط العمودي في تشكيلنا للصورة والحركة.
إلا أن مركز الثقل في النص بنظري يتمثل في هذا السؤال الاشكالي الكبير: (هل نحن طالعان أم نازلان؟!)
سؤال يجعلنا على المسافة صفر من سلسلة من الاستفهامات المشروعة..فهل هو منطق جديد للصعود والنزول في زمن التجاذبات والتقلبات المفاهيمية؟!
وهل اختل قانون الجذب العام والطرد العام الذي جاء به نيوتن؟ . وهل أصبح بالامكان تخيل سقوط التفاحة إلى الأعلى في ظل الهبوط القيمي وأزمة الأخلاق العامة؟!
لا يوجد تفسير منطقي لهذه الحالة إلا أن (الحضيض) صار قمة في مجتمعات مقلوبة رأساً على عقِب، لا تقيم وزنا لكرامة الإنسان، وغارفة حتى النخاع في وحل المادية الجشعة ومتاهات الميوعة والتفاهة الجارفة لكل شيء جميل، وقيم وذي معنى..
.. فلماذا لا تكون أوطاننا العربية عامل جذب لا عامل طرد، وعامل صعود لا سقوط أسوة ببعض البلاد؟
يجيبنا عن هذا السؤال ” بايرون” بقولته الشهيرة التي تختزل الاشكال بما قل ودل : ” من يخسر كل مصادر سعادته، لا يهمه في أي هُوَّة سقط “.
/الغاية :
في الفكر الفلسفي عموما لا يمكن لشيء أن يحمع الصفة ونقيضها، ورغم امكانية جمع الطبيعة البشرية بين المتناقضات فعلا وقولا ، إلا أنه لا يمكن عقلا ومنطقا أن يكون الانسان سلبيا وايجابيا في الآن ذاته كأن يكون صادقا وكاذبا أو نزيها وغشاشا..ولكن للأسف الهبوط للأعلى، أو الصعود إلى الهاوية بات بأيامنا وبصورة مخيفة واقعا لا يرتفع و منطقا يفني المنطق، منبئا بخروج الكائن البشري بوجه عام ككائن مركزي في هذا العالم من التاريخ، بدخوله في طور الموت البطيء ومنعطف العد العكسي في غياب أرضية لأحلام الحاضر ومشروعية لآمال المستقبل.
أ. محمد أبو الفضل سحبان