قراءة تحليلية لقصيدة “هلوسات طائر البجع في دهاليز  المدينة”للشاعر الفلسطيني نظير شمالي للكاتبة والباحثة وفاء داري

 قصيدة “هلوسات طائر البجع في دهاليز المدينة”، هي قصيدة مفعمة بالمشاعر الفياضة والأفكار والهواجس، تحمل هم وبث وشكوى الفقراء والمستضعفين والمسحوقين من عامة الشعوب ومعاناتهم، يصف فيها المتنفذين في مصائر الفقراء والمسحوقين ومظاهرهم الخداعة.
كما يبدو أن الشاعر نظير شمالي يصف واقعاً حاضرا حافلًا بالمخاوف والهواجس والهلوسات والتيه والخذلان والطغيان، والتي تجلت بشكل واضح في القصيدة، كما تطرق في قصيدته للعشق المزيف في هذا العصر، كما تطرق للأمل والخلاص.

العنوان:
تتسم عناوين قصائد الشاعر نظير شمالي بطابع طويل نسبيًا:

  • هلوسات: نستنتج من مضامين هذا العنوان التوهم (الإحساسات الوهمية)، محسوس غير موجود بالواقع، وبكلمات أدق هو الحلم في حالة اليقظة، والذي لا يتحقق في الوعي والحقيقة، وربما تعكس الحالة التي يعيشها الكاتب شمالي. والبجعة طائر جميل، ولكنه حزين، ولربما اختاره الشاعر لتعلقه بالماضي، لربما مرور الشاعر في تجربة حزينة في الماضي، ولا زال يتكبد آثارها.
  • دهاليز مدخل باب وممر، ربما ممر للأحزان، لذكرى، وحنين للماضي.
  • أما المدينة فمكان الصخب، واسع يسكنه الكثير من عدة مناطق مختلفة، وأماكن شتى، للدلالة على الشتات وعدم استقرار الكاتب .
  • دلالة مجمل العنوان؛ أن الشاعر يعيش داخل المدينة المعاصرة التي تحوي كثيرًا من التناقضات والصراعات والحالات والتخيلات والهلوسات.
  • المكان:
    المكان لم يرد مدققًا، وهو المكنى بالمدينة / رمز الوطن / الأرض / مسقط الرأس/ مأمن الإنسان من الانبتات والتلاشي، المكان الهوية.
  • موضوع القصيدة:
    صراعات يعيشها الإنسان المعاصر، مجمل أحاسيس متضاربة: حنين وحزن وشعور بالوحدة، شعور بخذلان وصدمة، تفكر وتفكير حول الفلسفة الوجودية والحياة والموت.
    أما اللغة فقد اتسمت بالصور الشعرية والبلاغية. واللغة مكون العاطفة، وهي الروح التي تبعث في الحالة الوجدانية والنفسية، والتي تجلت في القصيدة في مكون الخيال، وهو الذي يُمكّن اللغة والعاطفة من تحديد معالم الصورة، فيتفاعل معها المُتلقي شكلًا ومضمونًا.

-البناء والأسلوب:
تُعدّ الصورة الشعرية السمة الأسلوبية التي تميز بها الشاعر في انفعالاته من خلال سرد تجربته الشخصية والغيرية، والذي يعتبر نفسه أيضًا صوت الآخر، ويعتبر نفسه من عامة الشعب المقهور المسحوق، فالشاعر أيضًا ابن بيئته يتكلم بلسان حال أهله، فتجلت بصور شعرية وفنية إبداعية، كالوسيط الفني الذي يُحقّق التوازن بين المستوى المطلوب والمُنجز، فجعلت المشاعر والأحاسيس أقرب إلى التعميم والتحرّي منها إلى التصوير والتخصيص، فكانت الأداة حيث مكنتنا كمتلقين وقراء من استكشاف مشاعر الشاعر، وتجربته واكتشاف أبعاد وعمق القصيدة، والتعبير الإيحائي الانفعالي، حيث أراد الشاعر وصف حالته الوجدانية للقارئ ليتعايش معها، وعمّا يشعر به من أحاسيس وانفعالات.
أما الوظيفة التعبيرية، وهي تتحقّق متى استخدم الشاعر الصورة الشعرية ليجعل النص غنيًّا بكثرة الدلالات، والتي يستنتجها القارئ عن طريق التأويل، فالدور الوظيفي للصور الشعرية قامت في النص على مجموعة من الأسس التي تُعطيه الانطباع الجمالي والمعنوي، وتُعدّ الصورة من أُولى الأسس المُؤثرة في النص، و تُتيح المجال لقراءات مُتنوعة، لمراعاة اختلاف تأثيرها بين قارئ وآخر. الصور الشعرية تبرز الحزن والاغتراب والمعاناة والتي جاءت عبر قصيدته من خلال صوره الشعرية، والتي نختصر منها هنا على سبيل المثال: (العصفور مضرج بحمرته، رحم الرماد، قيء السكارى، الغريب، لا صدى، دواليبها السود، المنافي، صباح شاحب الوجنتين، هرمت أحلامي، تبدد العمر…)، وغيرها الكثير.

  • دلالات النص:
    السوناتا: قطعة موسيقية مكتوبة، للدلالة على أن للقصيدة بنية شعرية معينة اعتمدها الشاعر.
    نجد أن الشاعر في بعض من مقاطع القصيدة كان كالباحث عن جذوة الروح التي خلت في الإنسان المعاصر، والتي جاءت في القصيدة بقول الشاعر:
    ” لا رَدَّ، لا هَمْسَ، لا صَدًى يُؤْنِسُ وَحْشَتَنا،
    لااااا أَحَدْ!!
    لاااااا أَحَدْ!!
    وأيضًا من هذه الدلالات ورد: “وحيد منفاي “.
    كما ورد أيضًا: “ولا يَطْرُقُ بابَ مَنْفايَ أَحَدْ!!”.
    نلاحظ من الدلالات التي وردت في القصيدة أيضًا، أن الدائرة واسعة لا تخص شعبًا ومجتمعًا واحدًا أو أمّة واحدة بل؛ كل مسحوقي ومظلومي الدنيا، فمثل الشاعر هذا الصوت في القصيدة ومثل عذابهم ومعاناتهم.
    وليس الشاعر بعيدًا عن هذه المعاناة بل هو من أبنائها، هو انتماء للفئة الفقيرة المستضعفة.

كما طرح الشاعر عدة أسئلة في قصيدته منها:
الأمل والمنشود: تأملات الشاعر في المنشود والبحث عن شعلة الروح والأمل من مجيء ما يحيي الأمل داخله كما جاء متفرقًا في القصيدة: “فَأَيْنَكِ، يا شُعلةً تَأَلَّقَ وَهْجُها ذاتَ سَحَرْ؟!!”. وكذلك البحث عن شعلة الروح، العاطفة، الإنسانية والتي جاءت على النحو التالي في (السُّوناتا الثّالثة):
أَشْعِلي سِرَاجَ ٱلقَلْبِ ٱلْمُعَنَّى، فَٱللَّيْلُ داجْ
وَشُعْلَةُ ٱلرُّوْحِ أَطْفَأَتْها ٱلرِّيْيْيْحُ، وٱلقَلْبُ شاخْ
أَشْعِلِي رَمَادَ قَلْبيَ ٱلْمُطْفَأْ،”.
وكذلك صوت الأمل والخلاص كما جاءت في القصيدة: “يا غَريبَ ٱلرُّوحِ، أَدْهَشَتْنا ٱلمُراهَنَاتْ
فَوْقَ ٱلموائِدِ ٱلخُضْرِ نُعَلِّقُ ٱلقَلْبَ ٱلذَّبيحَ لِلْقَنْصِ ساعَةْ
مُتْعَةً لِلْمُشْتَهِينْ
وبَعْدَ ٱحْتِساءِ نَخْبِ ٱلنَّصْرِ تَنْتَهي مَزاداتُ ٱلرِّهانْ
وَبَعْدَ ٱنْقِضاءِ ٱلكَرْنَڤالِ فَلْيَهْنَأْ بِغَنيمَتِهِ ٱلمِغْوارُ ٱلبَطَلْ
فَكُنِ ٱلفائِزَ ٱلبَطَلْ!
كَيْفَ تَغتالُ غِيلانُكُمْ ملاكيْ، كَيفَ تَغْتالُ مِنِّيْ ٱلمَلاكْ؟!!
(بِشَياطينِهِمْ فَلْيَفْرَحُوا، فَليْ مَلاكيْ، إِذا ماتَ أَموتْ
فَمَا قَتَلُوهُ يَقينًا، وَلكِنْ خَسِئَ ٱلمُراهِنُ وٱلرِّهانْ)
لُكُمْ غِيلانُكُمْ لِسَفْكِ ٱلدِّمَا تَدْفَعُكُمْ، لِٱشْتِهاءِ ٱلحَرائِقْ
وَليْ مَلاكُ ٱلطُّهْرِ لا يُبارِحُني،”.
شعور الوحدة في قوله: “لا رَدَّ، لا هَمْسَ، لا صَدًى يُؤْنِسُ وَحْشَتَنا،لااااا أَحَدْ!!”.
الواقع الوطني والسياسي: دلالات سياسية والتي جاءت على ذكر المتنفذين:
“أَطَلُّوا بِرُؤُوْسِ ٱلثَّعالِبِ مِنْ مَنَابِرِ ٱلإِعْلامْ
وَمِنْ أَشْداقِهِمْ بَدَتْ أَنْيابُهُمْ كَمَا ٱلبَلُّورُ تُشِعُّ، تُضِيْءْ،
صَفَّقَ ٱلنَّاسُ، هَلَّلَ ٱلحَمْقَى لِأَنْيابٍ مِنْ لُؤْلُؤٍ وَزَبَرْجَدْ”.

وهناك بعض دلالات كثيرة أخرى جاءت في القصيدة، مثل:
. دلالة قَتْل الحرية وقمعها من خلال قَتْل العصفور الذي يمثل الحرية والانطلاق، فأصبح كالحجر الذي بلا روح، كما أتى على ذكره في القصيدة:
“كَعُصْفُورٍ ذَبيحٍ مُضَرَّجٍ بِحُمْرَتِهِ، دِماؤُهُ حِنَّاهْ
هامِدًا تَدَلَّى كَٱلحَجَرْ”.
. دلالة صوت الأمل والخلاص :
“وَليْ مَلاكُ ٱلطُّهْرِ لا يُبارِحُني،”.
“ليْ مَلاكٌ.. لا اااااا يَموتْ!!.
. دلالة العشق المزيف في هذا العصر:
“في مِهْرَجانِ ٱلعَصْرِ لِلْعِشْقِ عيدٌ، أَيُّ عيدْ!!
وفي سُرَادِقَاتِ ٱلعِشْقِ ٱزْدِحامٌ وٱخْتِصامْ
أَبْعِدُوا عَنْ خُدودِ ٱلوَرْدِ شِفَاهَ مِلْحٍ وَصَديدْ،
أَبْعِدُوا ٱللَّحْمَ ٱلمُقَدَّدَ، وٱخْلَعُوا كلَّ ٱلأَقْنِعَةْ”.
فَقَدْ صَدِئَتْ قَواميسُ ٱلعِشْقِ في عَصْرِنا “ٱلمَيْمُونْ”.

يبدو من بعيد إلى حد ما تشارك بين كتابات الشاعر نظير شمالي وكتابات الأديب أدونيس، والذي كان من المؤسسين، بل من أطلق شرارة الحداثة المعاصرة في الشعر العربي الحديث، صاحب الكتابات التي طالما عانقت الحرية والتغيير والإبداع. إن الثقافة تجديد للغة والمعرفة بالحداثة، صاحب النص متعدد الأصوات والمستويات في آن واحد. وجدت هذا التشابه ولو من بعيد بين قصيدة “الفراغ” لادونيس وقصيدة “هلوسات طائر البجع في دهاليز المدينة” للشاعر شمالي، إذ تتميز القصيدتان بأفق لا نهاية له، وبفضاء مفتوح بعدة قراءات، تحمل عواطف جامحة، ولغة وارفة مع اختلاف وتقارب في الأسلوب والبصمة.

  • مقاربة بين قصيدة الشاعر نظير شمالي “هلوسات طائر البجع في دهاليز المدينة” وقصيدة “الفراغ ” ادونيس.
    واذا كانت مقاربة قد تكون من بعيد بين القصيدتين وجاءت — من وجهه نظري — على النحو التالي:

المقاربة الأولى: حول الشعور بالعزلة والوحدة والخذلان، رُغم أن هذا الشعور في جميع كتابات الشعراء في الوطن العربي، ولكل منهم بصمته التي تختلف عن الآخر في التعبير والصور الشعرية ولكل منهما أسلوبه الخاص.
إلا أننا نجد تقاربًا بين القصيدتين في شحن الشعور ذاته للوحدة والحزن، وهذا ينطبق أيضًا على الواقع السياسي الموجود بكثرة في الشعر العربي، حتى عند كل الشعراء العرب.
مقطع مقتبس من قصيدة “الفراغ” لادونيس:
(حطام الفراغ على جبهتي
يمدّ المدى ويُهيلُ الترابا،
يُغَلغِلُ في خطواتي ظلامًا
ويمتدّ في ناظريّ سرابا).
مقطع مقتبس من قصيدة شاعرنا نظير شمالي “هلوسات طائر البجع في دهاليز المدينة”:
لا رَدَّ، لا هَمْسَ، لا صَدًى يُؤْنِسُ وَحْشَتَنا،
لااااا أَحَدْ!!
لاااااا أَحَدْ!!
وكما ورد أيضاً مقطع آخر من القصيدة: “وحيد منفاي”.
كما ورد أيضاً: “ولا يَطْرُقُ بابَ مَنْفايَ أَحَدْ!!”.

المقاربة الثانية: حول دلالات وطنية – سياسية، اشارة الى أصحاب المناصب والمؤثرين في المشهد السياسي والوطني في العالم أجمع.
كما ورد في القصيدة: “هلوسات طائر البجع في دهاليز المدينة”:
“(مَتَى ٱسْتَعْبَدْتُمُ ٱلمُسْتَضْعَفِينَ في ٱلأَرْضِ- يَقولُ ٱلمغنّي-
مَتَى صارَتْ أَرْواحُهُمْ بِأَيْدِيْكُمْ رَهَائِنْ؟!!)”.
كما ورد:
“سادَةَ ٱلْحَرْبِ، مُنَظِّروها، مُدْمِنُوها، لاعِبُوها ٱلماهِرونْ
أَطَلُّوا بِرُؤُوْسِ ٱلثَّعالِبِ مِنْ مَنَابِرِ ٱلإِعْلامْ
وَمِنْ أَشْداقِهِمْ بَدَتْ أَنْيابُهُمْ كَمَا ٱلبَلُّورُ تُشِعُّ، تُضِيْءْ،
صَفَّقَ ٱلنَّاسُ، هَلَّلَ ٱلحَمْقَى لِأَنْيابٍ مِنْ لُؤْلُؤٍ وَزَبَرْجَدْ”.

وفي مقطع مقتبس من قصيدة “الفراغ” لأدونيس:
(وفي أرضنا شبحٌ يتمطَّى
سرابًا ورملا
ويملأ أعماقنا يباسًا.
ويملؤها دُكْنةً ومحْلا.
في أرضنا مَلَلٌ يُبدع المقابرْ
وينثرها، عبْرَ أيامنا، أنينًا و عبْرَ خُطانا، مجازر.
هنا الحقد ركّز راياتِه
وشرّعها قمة وطريقا
يحطّ على توقنا صقيعًا
ويضرم في حّنا حريقا .
وللحقد في شعبنا
بلادٌ وشعبُ
له ساحة واصطخابٌ وحربُ
يوسخ أجواءنا
ويحفر أبناؤنا
كهوف ضلال وقبح
ويصفح في وجههم كلَّ نجمة
ويخنق في جفنهم كل صبح).

أثارت قصيدة “هلوسات طائر البجع في دهاليز المدينة” فيَّ مشاعر الحنين للماضي، فكل منا لديه ماضٍ، ذكرى، حنين، فقدان. وعندما نقرأ هذه القصيدة تثير فينا تلك المشاعر الدفينة، وتنبش ما ظننا أننا قد دفناه يومًا، وما أن تأتي رياح ذكرى حتى تنثر التراب عن الحنين للماضي، لربما عن شوق وحنين لأشخاص فارقناهم وأصبحوا تحت الثرى.

  • الرسالة: الرسالة التي يريد الشاعر إيصالها من خلال هذه القصيدة لربما هي رسائل عديدة وليست رسالة واحدة…وقد تجلت امامي رسالتان محوريتان، وهما عامتان وفي الوقت ذاته، والذي يعتبر الشاعر نفسه ضمن العامة، بكلمات أخرى (الأنا والآخر)، وهذا ما تجلى في كثير من نصوص الشاعر الأخرى، ففي أشعاره الكثير مما يربط بينه وبين والناس.
    أما الرسالتان، فهما:
  • رسالة الغربة والاغتراب في هذا العصر والشعور بالوحدة.
  • رسالة المتنفذين في مصائر الناس البسطاء والفقراء، المستضعفين ومسحوقي العالم والمتحكمين في أرزاق الخلق وثرواتهم ومصائرهم ، والمضطهدين المستغلين المعذبين في الأرض، فهم المتنفذون القاهرون الساديون المتلذذون بتعذيب المستضعفين، الذين يعيشون في بحبوحة الحياة ورفاهيتها على حساب المقهورين والمستضعفين، وهي معضلة ليست حديثة، بل مشكلة قديمة – جديدة تتعاقب.

الكاتبة والباحثة وفاء داري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *