قراءة تحليليّة مختصرة ومبسّطة لقصيدة بعنوان :” دُمتِ طفلةً ” للشاعرة سميّة العريبيل أ.الناصر السعيدي

توطئة :
تكتبُ المبدعة سميّة العريبي الشّعر، وديْدنها غرامها وشغفها وهوْسها بجمال اللّغة العربيّة ، فتنسج منها النّصوص الشعريّة في إبهار وغايتها أن ترسم مسيرة شاعرة بدأتْ خطواتها الأولى بكل ثبات وأيضا بكل تواضع لأنّها تدرك أنّ كتابة الشّعر تتطلّب الدّراية والحبكة والدّربة والتعلّم حتّى ترتقي بشعرها شكلا ومضمونا على درب أستاذة عربيّة سليلة المدرسة الأدبيّة التّونسيّة العريقة حاضرا ومستقبلا ، ولعلّها وجدتْ في منصّة الفريدة تحت رعاية الأستاذ حسام الديّن طلعت الفضاء الأرحب لتنشر محاولاتها الشعريّة ،ومنها سيتفاعل حتما القرّاء والنقّاد ، فتصل الرّسالة الأدبيّة وقتها كاملة وهذا الأهمُّ.


التّقديم:


لقد ارتسم هذا القصيد أمام القارىء لوحة تشكيليّة بنبض رومانسي لطفلة تجابه الزّمن منذ الصّباح مع إشراقة الشمس ولا تنشغل بمغريات الحياة إذ لا ترى يومها إلاّ في الرّقص واللّهو حيث تحتضن الأيام عبث طفولتها بكل براءة وعفوية وحب للحياة ، وصورة الطفلة هذه تسقطها الشاعرة على نفسها لتقول رسالتها وتعبّرعنها باختصارقائلة بأنّ المشيب لن يهزمها وأنّها لن تغتر بالفتن إذ أنّ همّها ليس إلاّ أن تتمتّع بصباها ،والأحداث في القصيد تسير في شكل لولبي ثم ترتسم في مسار دائري لأن الشاعرة في البداية خاطبت طفلة فتقول لها :” طفلةً أراكِ…”…ثم تعترف في النهاية بمصير هذه الفتاة ، إنّها الشاعرة نفسها :” بداخلي دمتِ طفلةً ” ،وكأنّ الشاعرة أرادت أن تباغت القارىء بعد أن جالتْ به بعيدا في تقديم صور شعرية راقية تتعلق بطفلة حالمة قبل أن تفاجئه وتقدّم ذاتها بأنّها هذه الطّفلة نفسها التي ظلّتْ تخاطبها وتصفها ،وهذا يحسب للشاعرة التي قدّمتْ لنا موقفا مسرحيّا بنبض فلسفي جسمتْ فيه دورا ثنائيّا ممّا جعل القارىء يسأل ويستفسر ويستقرىء المضمون طالما القصيد بعث فيه الرغبة في السّؤال لأنّه نصّ نابض ومتوثّب ومتحفّز وهذا يحسب لشاعرتنا الأستاذة سميّة العريبي .


التّحليل:


جاء القصيد في تشكّل عموديّ يسايرشعرالحداثة شكلا ومحتوى طالما الشاعرة بِنْتُ عصرها أي أنّها تواكب شعر اليوم والأمس القريب ، وقد آتّخذ منهجا سرديّا تقريبا بكلّ العناصر السرديّة : حيث الشخصيّات هي الشّاعرة ثم الطّفلة الصّغيرة قبل أن تنصهرا الشخصيّتان في شخصيّة واحدة وكأنّنا إزاء موقف مسرحيّ من مسرح العبث والخيال، أمّا الإطار الزّماني فقد عبّرتْ عنه الشّاعرة : “أرجوحة الزّمن،بمنْ ظلّ ومنْ رحل ،تحلّقين عبر الزّمن،دمتِ طفلة،لا يهزّمك مشيب”، كما عبّرتْ عن الإطار المكاني:”أرجوحة،أنا هنا،من فنن إلى فنن”، لندرك أن الشاعرة تعي جيدا بثنائية الزمان والمكان ودورهما في حبك أحداث نصها اذ جاء الزمان ممتدا لا حدود له بينما جاء المكان ضيقا ومحدودا على قدر حركية الطفلة وكأنها على ركح مسرح يبدو كبستان أو كروضة غناء ،وفي فقرات القصيد تفاعلتْ المقدّمة مع النّهاية في نسْجٍ جميل وبديع حيث البداية هي :”دمتِ طفلة / طفلة أراك / تراقصين أرجوحة الزّمن”، والنّهاية هي :”دمتِ طفلة / لا يهزمك مشيب / ولا تغرنّك الفتن”، وكأنّ الخاتمة قد وُلدتْ من رحم البداية وهذا أيضا يحسب للشّاعرة في امتلاكها مثل هذا التميّزمع الإشارة أنّ وجود التكرار هو اشتغال إبداعي جميل لأنّ التكرار يفيد الإثبات والتّأكيد ويؤشّر أيضا إلى ما يعني أنّه ظاهرة صوتيّة ذات أهميّة في تعميق وإثراء الإيقاع الدّاخلي وزيادة التّنغيم وتقوية الجرس ممّا جعل النصّ يمتلك روحا موسيقيّة عذبة زادتْ ترسّخا لدى القارىء بفضل القافية وهي النون السّاكنة :” الزّمنْ،المحنْ،فننْ،فنْ،الفتنْ”، إلى جانب أنّ سياق التّحوّل أثرته الشاعرة سميّة العريبي بالأفعال حتّى يلوح للقارىء متحرّكا ونابضا وهائجا ،في داخله روح تتوهّج معنى ولغة ،وجاءت الأفعال المفاتيح في المضارع المرفوع الذي يدلّ على المستقبل وهو زمن يعبّر عن الاستمرار والدّيمومة والامتداد ، فما بالك والشاعرة فرضتْ “الزّمن” في مضمون قصيدها بل جعلته عنصرا أساسيّا في تواجد شخصيّة القصيد الرّئيسية ألا وهي الطفلة وهي وجها لوجه مع الزّمن :”تراقصين،تنادين،تفتحين،تحلّقين،تضحكين،ترقصين،تتدلّلين”،وهذه الأفعال نفسها تدلّ على الحركة لتزيد حتما في الثّورة المعنويّة للقصيد حتّى يتفاعل معه القارىء على نفس الوتيرة ، ولم تهمل الشاعرة البعد الرّومانسي في قصيدها :”شدو طير، من فنن إلى فنن، تفتحين جناحيك،تحلّقين،الشّمس،القمر” ،كما أبدعتْ في وصف الطّفلة حتّى يستحضرها القارىء في ذاكرته :”باسم ثغرك ومشرق محيّاك ” ، فهل أعمق من هذا الجمال ؟ ، وآستعملتْ الشاعرة أيضا التّرميزفي جمال وإبهاروإيحاء :” تراقصين أرجوحة الزّمن،تفتحين جناحيك تحلّقين عبر الزّمن،ترقصين على أنغام صباك،عند طلّتك تختفي الشّمس حياء،وفي حضورك ينحني القمر”.

الخاتمة :


ونحن نقرأ قصيد شاعرتنا الأستاذة سميّة العريبي ، وقفنا في بعض معاني المفردات على ما تشبه تلميحا أو تقترب من معاني بعض مفردات أحد قصائد الشاعر الكبير نزار قبّاني بعنوان :”أسألك الرّحيل” وقد أبدعت في غنائه السيدة نجاة الصغيرة بصوتها العذب فسحرت الناس وعشاق الفن الأصيل أين التقت الكلمة الراقية مع الموسيقى الراقية وهي :
*بحقّ أحلى قصّة حبّ في زماننا :” تراقصين أرجوحة الزّمن”.
*فالطّير كلّ موسم تفارق الهضاب :” كشدو طير يحطّ من فنن إلى فنن” .
*والشّمس يا حبيبي تكون أحلى عندما تحاول الغياب :” عند طلّتك تختفي الشّمس حياء” .
*وآبقى معي حتّى نهاية العمرْ :” يا طفلة بداخلي دمت طفلة”.
*وما انا مجنونة لكي أطفىء القمرْ:” في حضورك ينحني القمرْ”.
*ويصبح العمر مستحيلا :” أنا هنا سأبقى صامدة في وجه المحنْ “.

أ. الناصر السعيدي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *