من يدلف إلى حجرات هذا البناء المعماري الفني من خلال بوابته الكبيرة، ألا وهي العنوان الذي يختزل ماضياً عريقاً فواحاً بالقمح، والذكريات، وعرق الفلاحين، وسهر الليالي (البيدر المعنى والمغنى). هذا الديوان الذي أصدرته جامعة القدس المفتوحة مركز التراث الشعبي الفلسطيني-جفرا في شهر آذار من عام 2022م.
هذا العنوان الذي يمثل منجماً شعورياً ولا شعورياً للفرد الفلسطيني، بخاصة الذي عاصر تلك الحقبة الزمنية الذهبية في القرن الماضي، حيث البيدر، والحصاد، والمناجل، والخيل، والفلاحون، وأغانيهم الشعبية والفلكلورية التي رسمت ملامح حياتهم بكل طهارة، وعفة. فالعنوان يلتحم مع النصوص الداخلية بكل تفاصيلها، من النواحي المادية التراثية، والعادات والتقاليد.
جاء الديوان في مئة وست صفحات من القطع المتوسط، وقد زُين بلوحة تراثية يجد فيها المرء ذاته، والدفء، والحنان، والأمان، والهوية، والجغرافيا، والتاريخ.
يكتنز هذا الديوان بحمولة ثقافية قيمة، تعكس ثراء المعتقدات، والحكايات الفلسطينية، والعادات، والتقاليد التي أخذت على عاتقها الحفاظ على الهوية الجمعية أمام كل المؤامرات. لذا وجب على الأجيال الشابة دراسة مثل هذه الدواوين للاطلاع على الماضي، ومعرفة كل القيم الدينية، والوطنية، والأخلاقية التي صمدت أمام كل المؤامرات.
فالشعر الشعبي أدب فني رفيع أسسه الأجداد، ونقل لنا صوراً حية، ومشاهد وشخوصاً من ذلك الزمن البعيد، إذ ينقل الشاعر كل ما في الماضي في هذا الديوان الشعري المميز، بما يحويه من درر تراثية مكانية، وزمانية، ومعنوية، ومادية، إذ حفظ ديوانه ذلك الموروث الشعبي بكل خلاياه الروحية، والمادية بخاصة أنه يمثل تراثاً عربياً بشكل عام.
فهذا الشعر الشعبي يصون التراث، ويحفظه، وينقله إلى الأجيال بكل ما يتعلق بالحياة الفلسطينية الكنعانية العريقة، فهو متحف يحفظ اللهجة المحلية من الاندثار والتلاشي، وبخاصة أن هناك ندرة في الأدب الفلسطيني في هذا المجال-مجال الشعر الشعبي-إذ نكاد نفتقد مثل هذه النتاجات التي تعبر عن العقل الفردي، والجمعي، والمخزون الثقافي السيكولوجي الفلسطيني.
فالشعر الشعبي يختلف عن كل أنواع الكتابة والفنون؛ لأن طبيعته قريبة من القلوب والأرواح الطيبة، فهو يعد مخزوناً أدبياً يحوي إرثاً وكنوز ما كان عليه الأجداد من قيم، ومبادئ، ومعان متشحة بالفخار والعزة، وهنا نوصي الأجيال الشابة بدراسة هذه اللآلئ والدرر الكلامية؛ لاستخراج ما فيها من القيم والمبادئ الفلسطينية التي صمدت أمام كل الغزاة، وليحافظوا على الهوية الفلسطينية من التهويد، والطمس. فالألفاظ الشعبية القديمة تعد جزءاً من الهوية الفلسطينية، وبخاصة أننا نعاني من الصدمة الثقافية التي أنتجتها التكنولوجيا.
يحرص الشاعر بالدرجة الأولى على الاتجاه الوطني؛ لأنه الأساس والحاضنة الشاملة، فهذا الديوان يعد أحد الروافد التاريخية الوطنية، فالكاتب هنا شاعر ومؤرخ وصحفي يصور الواقع، والوقائع بكل شفافية دون تملق، فكتب عن القدس، وعن العرب، وعن البطل، والشهيد والأسير، ويوم الأرض الخالد، والجليل.
وقدم تعريفاً للوطن بمعجمه النفسي، والاجتماعي، والتاريخي، والديني، فكانت قصيدة الوطن ملحمةً شعريةً رائعة.
وحرص الشاعر على تكوين أطلس شعري خاص بمدن فلسطين، حيث رسم خريطة فلسطين بمدنها التاريخية حيفا، وعكا، واللطرون، وغيرها، وأفرد قصائد خاصةً بالمدن، مثل القدس، الناصرة، قلقيلية، أم الفحم، نابلس، جنين، وجعل لكل مدينةٍ خصوصيةً تاريخيةً جغرافيةً، وكأنك تسير في حقولها، وسهولها، وجبالها، وتنظر بعينيك إلى ملامحها الطبيعية فتعرفها وتعرفك.
وتناول أيقونة الشعر الشعبي أبو عرب لما له من فضل كبير على القضية والثورة، فهذا الشعر الشعبي في هذا الاتجاه الوطني رديف السلاح، وصوت المقاتلين، فهو يعكس قضية الوطن، والإنسان والتضحيات، وتمجيد الأبطال والشهداء، ويدعو إلى الاتحاد، والتوحد في بوتقة واحدة.
ووفاء من الشاعر لوطنه وشعبه حرص على الكتابة، والنظم في الاتجاه الاجتماعي الذي يعد الجبهة الداخلية التي إن قويت قوي الوطن، وإن ضعفت ضاع الوطن؛ لذا كتب عن والدته المرحومة، وعن التهاني، وعن الشاعر الشعبي الكبير الذي كان حارساً أميناً ومؤسساً للشعر الشعبي الوطني (أبو ليل)، وكتب عن الناس، وعن المعلم صاحب الفضل، وعن المرأة حارسة البيدر، وسادنة التراث، وعاصمة الأسرة الفلسطينية، وعن الأب. ولم ينس مرض كورونا الذي يعد علامة فارقة في تاريخ البشرية لما له من تبعات كارثية.
فمن لا ماضي له، لا حاضر له، ولا مستقبل؛ لذا عمد الشاعر إلى ذلك الجب العميق تاريخياً، ونفسياً، واجتماعياً؛ كي ينهل منه عذب الذكريات، التي عاشها في طفولته التي تمثل أنموذجاً فلسطينياً وعربياً بكل تفاصيلها، فذهب إلى الماضي الجميل البريء، وإلى جدته، والعيد، والحاكورة التي تعد الأمن الغذائي، فهي البنك الوطني، وهي الحقل، وهي الأمل، وهي عزة النفس، والكرامة، وهي الاستقلال الاقتصادي، وهذا يربطنا بعنوان الديوان الذي مثل عتبة نصية رائعة.
د. محمود صبري