قراءة في رائعة الكاتب الرُّوسي الكبير ليُو تُولستُوي:رواية الحَرْب والسَّلام

لقد تَفوَّق «ليو تولستوي» (1828- 1910م) في روايته «الحَرْب والسَّلام» ـ التي نُشرت كاملة في عام 1868م. بكُلِّ مقاييس الجودة الروائيَّة، بشكلٍ يرغمنا على الاعتراف به كواحد من أهم قياصرة الرِّوَايَة في ساحة الأدب الروسي، وكصاحب وسام الشرف في ميادين التألُّق في استعراض المهارات الأدبيَّة؛ فأسلوبه في تصوير المشاهد جاء دقيقًا، من غير إطناب، وقالب الشَّخْصِيَّات جاء واقعيًا جذابًا، وبناء الأحداث الروائيَّة اتسمت بالرُّؤْيَة وَالتَّأَنِّي، وتميَّزت بالمرونة والانسيابيَّة، ممَّا أعطى الرِّوَايَة حيوية وصلابة. يقول الكاتب مقولته الشهيرة التي جاءت في أحد سطور الرِّوَايَة » الحياة كُلّ شيء، الحياة هي الله. كُلّ شيء ينتقل، يتحرَّك وهذه الحركة هي الله. ولطالما تستمر الحياة، يستمر الفرح والوعي بِالْأُلُوهِيَّة. حُبّ الحياة، هو حُبّ الله. أكبر المصاعب وأعلى درجات النعيم، هو حُبّ هذه الحياة في مُعاناتها، في مُعاناتها غير المستحقة».

ثمانية أعوام من عام1805 إلى عام 1813م، غيَّرت مسار التاريخ الأوروبي، وأحدثت صدمة استمرت لفترةٍ طويلةٍ من الزمن، هي ما سيكتب عنها «تُولستُوي» بعيدًا عن رؤية المُؤَرِّخِين الحكوميين. ومن خلفهم القيصر «ألكسندر الأوَّل» (1777- 1825م)، الذي كانوا يعتبرونه «البَطَل الوَطَنِيّ» !! لكن «تُولستُوي» يُرِيد رَدّ الاعتبار إلى القَوْمِيَّة الروسيَّة من خلال الشَّعب، لا من خلال القيصر، وأنْ يُعيد الاعتبار للجنرال «ميخائيل كوتوزوف» (1745- 1813م)، لذلك فهو يقول: «يجب أن يكون تاريخ هذه الحرب هو تاريخ الجميع دون استثناء، كُلّ النَّاس الذين شاركوا في الأحداث».

تنقسم الرِّوَايَة تبعًا لأحداث الزمن الروائي إلى قسمين، الأوَّل: يحمل حالة (السَّلام)، وشخصيَّاته تظهر إمَّا غارقة في ملذاتها، وإمَّا تبحث عن معنى حقيقي لوجودها. وهو قسمٌ يظْهَر العَادَات والتقاليد الأرستقراطيَّة من حفلاتٍ راقصةٍ، وتجمُّعات في النوادي الأجنبيَّة، واجتماعات النبلاء. أمَّا القسم الثاني فيحمل حالة (الحَرْب)، حيث تتحوَّل الأرض بأكملها إلى معركةٍ. هذان القسمان يُغطيان الفترة الممتدة من عام 1805م إلى عام 1813م.

في السَّنة الأولى يُوضِّح صُعُود «نابليُون بُونابرت» (1769- 1821م) على مسرح الأحداث، والتَّحالُف الرُّوسي الِّنمساوي في مُحاربته، والتي انتهت بمعركة «أوسترليتز» Bataille d’Austerlitz، وهي المعركة المعرُوفة أيضًا باسم: «معركة الأباطرة الثَّلاثة»، والتي وقعت في 2 ديسمبر عام1805 م، بين قُوَّات التَّحالُف: النِّمسا ورُوسيا بقيادة القيصر الرُّوسي «ألكسندر الأوَّل»، وبين القُوَّات الفرنسيَّة بقيادة «نابليُون»، وانتهت بانتصارٍ حاسمٍ للفرنسيِّين.

وفي السَّنوات الخمس التَّالية تتَّضح معالم المُعاهدات الدِّبلُوماسيَّة بين النِّظام القيصري والنَّابليوني. ثُمَّ الفترة التي بدأت مع نهاية عام 1811م وحتَّى عام 1813م وتَمَثَّلَت في إلغاء كافة المُعاهدات المُبْرمة بين النَّظامين، واجتياز «نابليُون» للحُدُود الرُّوسيَّة وُصُولًا إلى الموقعة المُهمَّة والكُبرى: معركة «بُورُودينُو» Bataille de Borodino ، والتي دارت رحاها في السَّابع من سبتمبر عام1812 م ما بين جيش «نابليُون»، والجيش الإمبراطُوري الرُّوسي بقيادة الجنرال «ميخائيل كُوتُوزُوف»، وهي إحدى أكبر معارك الغزو الفرنسي لرُوسيا التي نجم عنها خسارة (44) ألف جُندي رُوسي، و(35 ألف) جُندي فرنسي ما بين قتيل وجريح وأسير، وقد قيل أنَّها كانت أكثر معارك الحُرُوب النَّابليونيَّة شراسة، بل ومن أكثر الحُرُوب دمويَّة في التَّاريخ البشري حتَّى ذلك الحين. والتي يقُول عنها «نابليُون»: «إنَّ أسوأ معركة خُضْتُها في حياتي كانت تلك التي وقعت قُرب مُوسكُو. لقد أظهر الفرنسيُّون أنْفُسُهُم بمظهر مُستحقِّي النَّصْر، لكنَّ الرُّوس أظهروا أنْفُسُهُم بمظهر غير المقهُورين». وهذه المعركة قد قادت إلى سلسلةٍ من الأحداث الكبُرى تمثَّلت بدُخُول «نابليُون» لمُوسكُو وحريقها الكبير، ثُمَّ ثورة الشَّعب الرُّوسي في وجهه حتَّى اندحار الغزو.

من الشَّخْصِيَّات الحَقِيقِيَّة التي تأخُذ دورها في المسرح العامّ للرِّوَاية تقف شخصيَّة الجنرال «ميخائيل كُوتُوزُوف»، حيث تمَّ تكليُفه بقيادة الجيش، ومنحه السُّلطة الأعلى علىكامل الأرض، دُون أنْ يقُوم أحد حتَّى القيصر نفسه بالاعتراض عليه.

وفي الوقت الذي أعلن فيه المُؤرِّخِين الحُكُوميِّين أنَّ معركة «بُورُودينُو» انتهت بفوزٍ ساحقٍ لـ «نابليُون»، كان «كُوتُوزُوف» مُؤمنًا بأنَّه هُو مَنْ انتصر. وأصدر الأمر بالاستعداد لتوجيه ضربة ثانية في اليوم التَّالي، لكن مع اتضاح حقيقة الموقف المُتمثِّلة بخسائر في نصف الجيش تغيَّر الموقف. وأصبح على «كُوتُوزُوف» وحده أنْ يختار واحدًا من أكثر الخيارات صُعُوبة: إمَّا أنْ يدخُل في معركةٍ ثانيةٍ قد تنتهي بتدمير النِّصف المُتبقِّي من جيشه، وإمَّا أنْ يتراجع، وعندها سيدخُل الغُزاة إلى موسكو! وقد اتَّخذ قرارُه الشَّهير بالانسحاب والتَّراجع أمام «نابليُون» وتركه يدخُل مُوسكُو دُون قتال، حيث أقام «نابليُون» شهرًا بأكمله في العاصمة التي أطلق عليها: «الأُمُّ المُقَدَّسة»، فلم نجد أيُّ تحرُّكٍ لـ «كُوتُوزُوف» نحو مُوسكُو لتحريرها، بل تركه ينعم بما هُو مُتوفِّر لديه حتَّى تحدث الصَّاعقة التي لا مفرّ منها، وكانت قَوِيَّة إلى درجة الانهيار التَّامّ لِلْغُزَاة.

لم يكن يعلم «نابليُون» بأنَّ هُناك جنرالات جُدُد، لا أسماء لهم، يُمثِّلون غالبيَّة أبناء الشَّعب، ومنهُم الجنرال الذي يُمثِّلُ الطَّبيعة الرُّوسيَّة: «الثَّلْجُ» الذي ألقى بهُم إلى الجحيم. وهكذا تحوَّل نصف الجيش الذي كان بحوزة «كُوتُوزُوف» إلى جيشٍ كاملٍ قوامه شعب بأكمله. وحدث ما كان يُؤمن به «كُوتُوزُوف» حين حقَّق مُراده، وعندما عاد كُلُّ شيءٍ على ما هُو عليه، رفض أنْ تمتد مُطاردة «نابليون» إلى خارج حُدُود أرضه.

في الرِّواية أبتدع «تُولستُوي» شخصيَّة الأمير «أندريه بُولكُونسكي»، والكُونت «بيير بيزُوخُوف»، حيث كان «نابليُون» في نظرهما القُوَّة المُحَرِّكَة للتَّاريخ، فـــ «نابليُون» بالنسبة لـــ «أندريه» هُو الهدف الذي يطمح إليه، ليس كشخصيةٍ غازيةٍ، وإنَّما كمجدٍ ورُوحٍ خالدةٍ. «أندريه» يترُك زوجته الحامل في قصر أبيه العجُوز ويذهب إلى الحرب من أجل هدفٍ لم يتضح له بعد. لقد وضع بمُفرده خُطَّة المعركة المُقبلة، معركة «أُوسترليتز». وهًو وحده الذي سينتزع النَّصر من براثن الهزيمة والسُّقُوط. الموت والجُرُوح وفقد الأُسرة، كُلُّ هذه المصائب لا تُخيفُه.

«تُولستُوي» لم يمح أثر النَّابليونيَّة في رُوح «أندريه» دُفعةً واحدةً، إذ من الصَّعب مسح كُلّ ذلك الأثر التَّاريخي خُصُوصًا أنَّه قد قضى على جيشين بكامل عتادهم في معركة «أُوسترليتز»، ولكن أعطاه إشارات واتَّجاهات أُخرى قد يجد من خلالها طريقًا له. الإشارة الأولى تقُودُه إلى جمال الحياة بعد مشهد السَّماء الخالدة، وهُو أحد أشهر مشاهد الرِّوَاية روعة. في تلك الدَّقيقة من المعركة، حين تأكَّد للجنرال «كُوتُوزُوف» أنَّ هزيمة الجيش الرُّوسي والنِّمساوي قد وقعت، تسلُّمُ الرَّاية ذلك البطل – الذي ليس له وُجُود في التَّاريخ – وهو يصرُخ: لا يُمكن أن تكُون هُناك هزيمةٌ وأنا موجُودٌ، واندفع رافعًا الرَّاية باتجاه تلك القُوَّات، وانضمَّ له الجُنُود الذين كانُوا قبل دقائق يفرُّون من أرض المعركة، مُتأثِّرين بصرخاته، ذلك الأمير الذي يقُومُ بعمليِّةٍ شبه انتحاريَّة. مُتشبِّثًا بحُلْم المجد، وسقط سُقُوطًا عظيمًا، أو كما عبَّر «نابليُون»:» إنَّها ميِّتةٌ عظيمةٌ.. أنَّ يمُوت وهُو مُمْسِكًا الرَّاية«.

حين كان «أندريه» مُستلقيًا وبيده الرَّاية شاهد تلك السَّماء الخالدة، التي لم يتطلَّع إليها أبدًا وهي بمثل ذلك البهاء والجمال. ها هُو يتطلَّع إلى أكثر الأشياء جمالًا وسلامًا، وأين شاهد كُلّ ذلك ؟ في معركة «أُوسترليتز» ! كان «أندريه» مُعلَّقًا بين تلك الأرض المُستعرة بحربٍ تُمِّثل قمة الإجرام في تاريخ الجنس البشري، وبين تلك السَّماء العظيمة الخالدة. ها هُنا تعارُض وجدل عنيف في رُوح «أندريه»، وكأنَّ «تُولستُوي» يُريد أنْ يُريه أنَّه في تلك الرُّقعة من أرض «أُوسترليتز»: يكمُن سلام خالد. إنَّ فكرة السَّماء الخالدة هي إدانة الفنَّان لتلك الحرب وكُلّ الحُرُوب التي جرت وستجري.

من الغريب أنْ يُنهي «تُولستُوي» الجزء الخاصّ من روايته، في ذُروة الحرب بمشهد السَّماء، وفي نفس الوقت يُنهي الجُزء الخاصّ في زمن السَّلام بمشهد السَّماء أيضًا، ولكن هذه المرَّة بشخصيَّة الكُونت «بيير بيزُوخُوف». نفس التَّأثير، ونفس التَّطلُّعات، باستثناء أنَّ «بيير» هُو من ذلك النَّوع من أبطال الملاحم الذين لا يتردَّدُون في التَّعبير عن ما يجيش في صُدُورهم، لا يخجل من التَّعبير عن نفسه بالبكاء بعكس «أندريه».

لقد قال المُنظِّر والفيلسُوف الرُّوسي البريطاني «إيزايا برلين» (1909- 1997م) في كتابه: «الثَّعلب والقُنْفُذ»:» ليس هُناك من كاتبٍ على الإطلاق قد أبان مثلما أبان تُولستُوي عن قُوَّة البصيرة في صُنُوف الحياة: الاختلافات الموجُودة فيها والتَّناقضات والتَّصادُمات التي تحدث بين الأشخاص بعضُهُم ببعض، والتي تحدث في المواقف. وما من أحدٍ فاق تُولستُوي في التَّعبير عن ذلك المذاق الخاصّ والنَّوعيَّة المُحدَّدة للشُّعوُر، ودرجة تذبذُبه ومدَّه وجزره».

الكاتب والباحث وفيق صفوت مختار

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *