عملت الكاتبة (جومبا لاهيري) على نسج أحداث روايتها (الأرض المنخفضة) حول محور الحب .. والحب في روايتها هذه ليس هو الحب الذي عرفناه ونعرفه في الأفلام السينمائية ، بل هو حب العطاء الكامل بلاحدود و بلا مقابل .
تتحدث(لاهيري) في روايتها (الأرض المنخفضة) عن حبٍ بين الأخوين (اودايان و سوبهاش) الفقيرين في امكانيات عائلتهما ، ولكنهما غنيّان في الحب الذي يحملانه في قلبيهما وفي الحلم الذي يعملان على تحقيقه . يكملان تعليمهما الجامعي في تحدٍ لكل الظروف الاجتماعية والمادية ويهفو كل منهما لاختياره المختلف والمتناقض فيما بينهما . (سوبهاش) يختار الهجرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية للحصول على الدكتوراه العليا ، و بحثاً عن حياة مختلفة أحبها ولم يستطع تأمينها في بيئته الهندية الفقيرة التي يعيش فيها ، ولتأمينها لابد له من أن يدفع ثمن تحقيق ذلك التغيير الذي أحبه ويحلم به رغم قسوته وصعوبته وليكون ذلك الثمن ، هو فراقه لأخيه الذي يحبه وعاش معه كل تفاصيل التحدي والحاجة والنجاح في سبيل تحقيق حلمه بنيل الدكتوراه من جامعة غربية . وأما (اوداما) الذي يحمل في قلبه حب أخيه والتزامه الشديد بالانتماء إلى البيئة التي عاش فيها وإلى الفلاحين في (كالكوتا) الذين يؤمن بنضالهم وبثورتهم ضد الظلم ، فهو يختار البقاء معهم ، والنضال في صفوفهم بعد أن يتزوج واحدة منهم اختارها قلبه لتشاركه النضال الذي يدفع حياته ثمناً لإيمانه بنضال أبناء بيئته وثورتهم ، على يد شرطي فاسد ليترك وراءه زوجة حاملاً جنينها الذي لم يخرج إلى الدنيا بعد .
ولما يصل خبر وفاته إلى أخيه (سوبهاش) الذي يحقق النجاح تلو النجاح في الاغتراب ، يعود إلى قريته ليتزوج من زوجة أخيه الحامل بابنتها وليصحبها معه عائداً إلى أمريكا عرفاناً بحبه الكبير لأخيه ، ولابنته (أبيلا) التي لم ترَ والدها ولم تولد بعد .
وفي أمريكا تختار الزوجة التخلي عن ابنتها الرضيعة أملاً في تحقيق حلمها بإكمال تعليمها الجامعي والتمتع بحريتها التي حلمت بها وأحبتها ، ليكون الثمن الذي تدفعه لقاء ذلك هو انطلاقها بعيداً عن كل ماكان يربطها بحياتها التي عاشتها مع الزوج والابنة والانتماء . ويبقى (سوبهاش) وفياً في حبه لأخيه ولابنة أخيه التي تخلّت عنها أمها ، ويربي (أبيلا) لسنوات وهي تكبر أمام عينيه ليكتشف مع الأيام أنها تحمل جينات أبيها المناضلة في الثورة على الظلم وفي التزامها بانتمائها لأصولها رغم المسافة الشاسعة التي تفصلها عنها ، مما يضطره إلى مصارحة ابنة أخيه (ابيلا) بحقيقة والدها ونضاله مع الفلاحين في ثورتهم على الظلم والفساد ، ويخبرها عن أمها التي تخلت عنها في سبيل انطلاقتها نحو التحرر من كل ما كان يربطها بماضيها حتى لو كان الرابط هو ابنتها .
وتختار الابنة (ابيلا) المضي في الطريق الذي سلكه والدها من قبلها رافضة الحرية البعيدة عن أصولها وحقيقة انتمائها لتعود إلى (كالكوتا) حيث جذورها التي تشدها إلى أصلها وإلى (الأرض المنخفضة) التي تحتوي تاريخ والدها في ثورته ونضاله .
في رواية (الأرض المنخفضة) توضح الروائية (جومبا لاهيري) أن للحب ثمناً عالياً ولايمكن أن يمضي بلا تضحيات .
- (اودايان) دفع حياته ثمن حبه للفلاحين وانتمائه لهم ،
- (سوبهاش) دفع ثمن حبه ووفائه لأخيه عمراً في تربية ابنة أخيه .
- (أبيلا) الابنة دفعت اختيارها في التخلي عن بيئة نشأتها في أمريكا ثمن حبها لأبيها الذي لم تعرفه سوى في نضالها وفي تفضيل انتمائها إلى الهند (الارض المنخفضة) حيث جذورها الحقيقية .
لقد حققت الكاتبة الهندية – الأميركية (جومبا لاهيري 1967) من خلال رواياتها ومجموعاتها القصصية المكتوبة باللغة الانجليزية نجاحاً باهراً ، حيث بيع من مجموعتها القصصية الأولى (ترجمان الأوجاع) مئات الآلاف عند صدورها عام 1990 ، وكذلك كانت مبيعات روايتها الأولى (السّمي) عام 2003 التي تحوّلت على الفور من صدورها إلى فيلم سينمائي أخرجته الهندية “ميرا ناير” وكانت قد حصدت عنها العديد من الجوائز المرموقة أبرزها جائزة الأدب الآسيوي الأميركي .
وقد عُرفت (جومبا لاهيري) عربياً كقاصة وروائية بعد ترجمة أعمالها من قِبَلِ عدد من المترجمين ، منهم المصرية (مروة هاشم) التي ترجمت مجموعتها القصصية (ترجمان الأوجاع) إلى العربية ، والأردنية (سرى خريس) التي ترجمت روايتها (السمي) إلى العربية وأصدرتها لأول مرة دار “مشروع كلمة” للترجمة التابعة لهيئة أبوظبي للثقافة والترجمة العربية عام 2014 ، وجاء هذا الاهتمام بأدبها لما تمتع به أدب (جومبا لاهيري) من لغة سردية رشيقة غير متكلفة بالتراكيب والتعقيدات اللغوية ، ولاعتنائها بالتفاصيل المشغولة بجوهر الإنسان وعلاقاته مع محيطه بما يربط بين ثقافتين واحدة في أقصى الغرب (أمريكا) والثانية في أقصى الشرق (الهند) وبين شعبين يختلفان
في الثقافة وفي الميول انتمت المؤلفة لإحداهما بالهوية والولادة ، وللأخرى بالنشأة والنجاح .
ومؤخراً ، صدرت للكاتبة النسخة العربية من روايتها الشهيرة (الأرض المنخفضة) التي ترشحت لجائزة “البوكر” العالمية 2013 وقد نقلتها إلى العربية المترجمة (يارا البرازي) وأصدرتها دار “مسكيليانى” التونسية ، ولاقت نجاحاً باهراً بين أوساط القراء والنقاد الذين وصفوا الرواية بأنها أفضل ما كتبته (جومبا لاهيري) منذ انطلاقتها الأدبية عام 1990 ، حيث تشكل رواية (الأرض المنخفضة) حالة من القلق المرهف مكتوبة بلغة سهلة وممتنعة ونجحت بتصوير أحداثها في امتدادها بين انطلاق “ثورة كالكوتا” للفلاحين الهنود عام 1967 وحتى يومنا هذا .
د. علي أحمد جديد