عندما يقنعك الكاتب بواقعية الفانتازيا، ويصور لك كوميديا الرعب، ثم يسافر بك عبر كل الازمنة والاصقاع، ويقدم إليك سَلَطة من الشخصيات تمتد من الإنسان البدائي حتى الإنسان الجالس امام اللابتوب، سلطة مكونة من بشر وحيوانات، من إنس وجن. ويقوم بتتبيل هذه السلطة لتتناولها كوجبة شهية طعمها متناسق ومكوناتها منسجمة، فاعلم انك أمام إبداع متميز.
١- العنوان: العنوان ولوحة الغلاف ثنائية مهمة في صناعة النشر، لأنهما يمثلان العنصر الجاذب للقراء الذين سيختارون اقتناء هذا الكتاب دون غيره من المعروضات في أروقة مكتبة أو معرض للكتاب،
العنوان وتصميم الغلاف بلونيه الأحمر والاسود وصورة القط المجنح المخيف يحيلان على رواية مغرقة في الرعب، إلا أنه وبعد الغوص في دروب السرد، نكتشف عالما غرائبيا بنكهة فكاهية وروح مرحة.

حفار القبور: عنوان نفهم منه تسمية الرواية على بطلها، لكن عند الغوص في ثنايا النص، نكتشف أن القبر في القصة هو جسر للعبور لكل الأزمنة وكل الاماكن، هو مدخل لكل الحضارات الإنسانية على مر العصور، من الإنسان البدائي إلى عصرنا الحاضر، وبالتالي فالعنوان “حفار القبور” هو رمز للمتجول بين الحضارات الإنسانية بين المطلع على كل زمان ومكان، حفار القبور هو ذاكرة الإنسانية ككل.
٢-موضوع الرواية والإشكالية المطروحة: ثنائية المادة والقيم كانت على الدوام موضوعا خصبا للفلاسفة وعلماء الاجتماع على مر العصور، وقد انقسمت المذاهب بين من يجعل الأخلاق هي المؤطر للعلاقات الاجتماعية والمحافظ على توازن المجتمع واستقراره(افلاطون وفلسفته الطوبوية، ماكس فيبر ونظريته الاجتماعية عن كون الاخلاق محفزا للاقتصاد ، دوركايم والمدرسة الوظيفية البنيوية التي تعتبر الاخلاق ضامنا لتوازن البنيات الاجتماعية..)، ومن يعتبر القيم والأخلاق كأدوات إيديولوجية تستعملها النخبة للحفاظ على سلطتها في المجتمع، ولاستمرار تحكمها في الطبقات المستضعفة واستعبادهم(الفلسفة المادية التي اسس لها فلاسفة المادة كبيكون وهوبز وغيرهم، وطورها لعلم الاجتماع كارل ماركس واتباع المدرسة الصراعية) ،
فالرواية تقدم لنا ثنائية الصراع بين العمال والكادحين ومالكي وسائل الإنتاج، استغلال المنتج لكاتب السيناريو، استغلال الطالب الغبي الموسر لطالب متفوق فقير، استغلال مهندس موسر لمهندس فقير، استغلال الوضاحين للمنسيين…
هي إشكالية هوس الملكية الفردية التي تؤسس لديناميكية المجتمع وترسخ لعلاقة استغلال تتنوع مظاهرها على مر العصور من عبودية لإقطاعية لراسمالية…
لقد خلص ماركس أن الحل هو إزالة اصل المشكل الطبقي الذي هو الملكية الفردية، والمرور إلى مرحلة الشيوعية للتي تكون فيها الخيرات مشاعة بين الناس دون تملك، بينما وجد الدكتور علي الخرشة كاتب الرواية حلا آخر للقضاء على إشكالية الطبقية والاستغلال، وهو إيجاد مدينة من الذهب كفيلة بالقضاء على جميع مظاهر الفاقة والعوز في المجتمع، فتنمحي أشكال الظلم والقهر الاجتماعي للوصول إلى المجتمع الفاضل، فحب المادة وهوس الحفاظ على السلطة يفسد الأخلاق ويقضي على القيم وتصبح الإيديويوجية أداة للاستغلال وتثبيت السلطة، وقد عرت القضية الفلسطينية عن زيف القيم الكونية وسقطت ورقة التوت عن نظام عالمي يتغنى بكونية حقوق الإنسان بينما هو مستعد لإبادة شعب للحفاظ على تحكمه في العالم. هي ثنائية المادة والقيم في مفهومها الواسع ما عالجته الرواية في قالب سردي مشوق يتارجح بين الواقعية والغرائبية، بخيال خصب وكم هائل من الأحداث والشخصيات حركها الكاتب بحرفية قل نظيرها.
٣- تصنيف الرواية: يعتبر صنف الرواية الغرائبية أو الفانتازيا من الأصناف التي أحدثت ثورة في الأدب الغربي، ولاقت ولا تزال نجاحات باهرة خصوصا عند فئة اليافعين، فمنذ نجاح روايات “هاري بوتر” وهذا الصنف يكتسح المشهد الأدبي الغربي، هي روايات بمشهدية عالية تؤهلها للإخراج التلفزيوني والسينمائي، وقد تفطن العرب لسحر هذا النوع ونجاحه في استقطاب الجيل الجديد مع ظاهرة الكاتب السعودي اسامة المسلم المتشبع بالأدب الامريكي، فقد صُدِم كل المتتبعين للشان الأدبي لما عاينوا الإقبال المقطع النظير لهذا الكاتب من فئة الشباب في معرضي القاهرة والرباط، آلى حد إحداث فوضى ازدحام تم معها تعليق تنظيم حفلات توقيعه.
رواية حفار القبور تندرج ضمن هذا الصنف من الأدب الذي سيقول كلمته في السنوات المقبلة، هو صنف ينطلق من الواقعية ليجذب القارئ إلى عالم من الغرائبية والخيال،
- استهلال مغرق في الواقعية: الواقعية هي فن إيهام القارئ بأن الأحداث وقعت فعلا، عندما تبتدئ رواية بشخصية للراوي البطل تكون قريبة من شخصية الكاتب، يذهب ذهن القارئ بأن الكاتب يروي عن تجربته الشخصية، ويقوده فضوله الفطري ل”حشر أنفه” في خصوصية الغير، لتتبع الاحداث.كاتب يكلفه المنتج بكتابة سيناريو مسلسل، نقطة الانطلاق في القصة مغرقة في الواقعية، هي فخ نصبه الكاتب ليجر
القارئ لعالم غرائبي انطلاقا من أحداث واقعية، فيكاد يصدق القارئ بأن العالم الفانتازي موجود حقا، ويغوص في الأحداث بوجدانه وإحساسه.
٤- بنية السرد أو الخطاطة السردية: تتكون البنية السردية من ثلاث عوالم منفصلة تتقاطع خلال السرد، ويتم الربط بين خيوطها في نقطة الوصول،
أ- عالَم كاتب يخاطب قطه، ليمرر للقارئ قصته مع منتج يهدده بشيكات وبسجنه مطالبا إياه بسيناريو مسلسل مدر للارباح، لا يهم الممثلون ولا تهم القيم، كل شيء يهون أمام المادة، وزوجة اجنبية هجرته آخذة ابناءه لانه مفلس ماديا، وارتبطت بمن يوفر لها رغد العيش،
ب – عالَم مهندس معماري فقير ويتيم الاب يحتاج للمال لعلاج أمه المريضة، فيتم استغلاله ابشع استغلال من طرف صديقيه الموسرين، ومن طرف مهندس معماري غني شغله كفراش رغم كفاءته. لتتشابك خيوط هذا العالم وتتداخل شخصيات أخرى دائما في إطار ثنائية المادة والقيم.
ج- عالم غرائبي متعدد الفضاءات والازمنة والشخوص يقودنا في كل مرة إلى زمكان معين في حكاية مختلفة تبدأ وتنتهي عند قبر يشكل بوابة للحضارة الإنسانية.
شكل البطل مصطفى نقطة الوصل بين العوالم الثلاث، التي اندمجت في النهاية لتكتمل عناصر الحبكة
٥- الأسلوب السردي: الأسلوب السردي غربي بامتياز، لغة بسيطة بدون تكلف، مشهدية عالية وسرد متصل يمسك بتلابيب القارئ ولا يتركه حتى النهاية،
٦- الزمن السردي : استعمل الكاتب جميع تقنيات استعمال الزمن السردي ومعظم اشكاله، قصة كاتب السيناريو نحت زمنا خطيا مع بعض الاسترجاعات، قصة المهندس المعماري استعملت سردا دائريا ابتدأ وانتهى في مصحة للامراض العقلية، قصص ما وراء القبور انتقل فيها الكاتب بتواتر. في الازمنة السردية حيث ينتقل بين الازمنة القريبة والغابرة مستعملا فكرة القبر كممر عبر الزمان والمكان
كما تلاعب الكاتب بإيقاع السرد الذي كان سريعا على العموم، يتباطأ في بعض المقاطع لتمكين القارئ من استرداد أنفاسه.
٧- الفضاء السردي: مكنت الفكرة الاساسية للرواية، المتمثلة في تقمص شخصيات الموتى والولوج لحياتهم قبل الوفاة عبر النوم في قبورهم،ط- مكنت- من الولوج لفضاءات اختارها الكاتب مستعملا ميدا “التسويق الترابي” Merkering territorial لتسليط الضوء على أماكن أراد الكاتب إبراز أهميتها التاريخية والرمزية، ليجعل من الأدب وسيلة للترويج الثقافي للفضاء، فانتقل بالقارئ من الاردن إلى لبنان ثم اليمن ففلسطين، وقد توفق الكاتب في وصف الفضاء مقرونا بحمولته الثقافية من لهجة وعادات وطبائع اجتماعية، بغلاف مشهدي سردي محبوك بحرفية وإتقان.
٨- النهاية: تذكرني نهاية الرواية بالحلقة الثلاثين من المسلسلات الرمضانية، كل الإشكاليات المطروحة خلال تسع وعشرين حلقة يتم حلها وإغلاقها في حلقة واحدة، فغدا عيد الفطر ولا مجال للتريث أكثر!
أظن أن شخصية كاتب السيناريو طغت على شخصية الكاتب الروائي بخصوص تناول النهاية، ففي نظري المتواضع، عمق الإشكالية المطروحة كان يمكن أن يتمخض عن نهاية أكثر عمقا تشرك القارئ في التفكير والتفاعل، لكن النص ملك الكاتب يتناوله كما يشاء قبل أن يعرضه على أنظار القراء.
.
٩- تساؤل من قارئ في زمن التكنولوجيا الرقمية:
أثناء قراءة الرواية، لم أستطع منع نفسي من التساؤل حول جدوى خريطة معقدة ومقسمة لستة أجزاء حتى نجد نقطة ما في الكرة الأرضية، كان يكفي الوصول لنقطة الدخول لمدينة الكنز والاستعانة ب Google map’s للوصول إليها بكل بساطة!
هي رواية تستدعي دراسة أكثر إسهابا تخوض في تفاصيل الأحداث والشخصيات، تستقرئ الرموز وتسائل الاحداث.
كل الشكر لاديبنا المميز الدكتور علي الخرشة على هذا الإبداع الغني وكل الامتنان للمنتدى العربي للنقد المعاصر على هذا الاختيار الرائع وعلى هذا الفضاء الأدبي الباذخ.
الكاتب سليم بوشخاشح