لا يجب التَّعامُّل مع السُّخريَّة بوصفها أداة لبث روح الدُّعابة داخل النَّصّ السَّردي، فهذا يُعدُّ أحد وُجُوهها المُتعدِّدة، فالسُّخريَّة التي تُعدُّ أحد أبرز معالم الشَّخصيَّة في المُجتمعات المقهُورة المغلُوبة على أمرها، هي الآليَّة العمليَّة التي يلجأ إليها الطَّرف الأضعف في إطار ثُنائية القاهر والمقهُور. إنَّ القهر سواء كان مادِّيًّا أو معنويًّا الذي تتعرَّض له النَّفس البشريَّة يضعها بإزاء اختيارين لا ثالث لهُما: الأوَّل هو الاستسلام لهذا القهر، والثَّاني هُو مُقاومتُه، وغالبًا ما تكوُن المُقاومة المادِّيَّة في كثيرٍ من الأحيان خطوة صعبة، وبالتَّالي مُؤجَّلة، فتُصبح المُقاومة المعنويَّة هي القادرة على تحقيق التَّكافؤ بين الطَّرفين.
وتتمثَّل المُقاومة المعنويَّة هُنا في منح الذَّات أحاسيس الانتصار على الآخر من خلال تأسيس مُواجهة ذهنيَّة تُعادل المُواجهة الواقعيَّة التي تُدرك وتعي أنَّ الانتصار سيكون للطَّرف الأقوى مادِّيًّا، ولأنَّ المُقاومة ذهنيَّة فأدواتُها بالتَّالي تختلف، وقوانينها تتباين، وهُنا تتبدَّى البراعة الجمعيَّة الشَّعبيَّة في توظيف عُنصُر الفُكاهة التي تُشكِّل السُّخريَّة أحد معالمها الرَّئيسة، فالسُّخريَّة من الآخر والضَّحك منه تمنح الطُّمأنينة المعنويَّة للذَّات التي تشعُر بأنَّها الأقوى، في هذا الصِّراع المُحتدم. وهذا يظهر جليًّا في إحدى فقرات رواية «لحس العتب» للرِّوائي الكبير « خيري شلبي» (1938- 2011م)، التي صدرت في عام 2005م عن الهيئة المصريَّة العامَّة للكتاب،
:« عندما التحقت بمدرسة البلد لم يمض عامان حتَّى أصابني مرضٌ غريبٌ حار فيه حلَّاقُ صحَّة البلد، لكنَّه سلَّمنا بعض أقراص صفراء تُسمى الكينين، وأوصي بأن أخذ قُرصًا بعد الأكل ثلاث مرَّات يوميًّا، فما فعلت هذه الأقراص شيئًا سوى أنَّها صبغت بياض عيني بلون الاصفرار الكابي، وهدلت كُلّ أطرافي، فصرتُ أقضي النَّهار كُلَّه جالسًا القُرفُصاء فوق الكنبة العتيقة في المندرة ،آكل أطباق الأرز باللبن واشرب اللَّيمون، حتَّى كرهتُ طعم الحلاوة فانقلبت في حلقي إلى مرارةٍ دائمةٍ، وما هي إلَّا أيَّام قليلة حتَّى لحق بي أخي خالد، فانضم إلى جواري على الكنبة مُصفر العينين والوجه، بارزة عُرُوق رقبته، مُكثنا على ذلك طويلًا، حتَّى بات منظرنا مألوفًا كأنَّه جُزء من هذه الكنبة، وصار ضُيُوف أبي يُسموننا (المُتهمين) إشارة إلى جلستنا القُرفُصاء معًا في انتظار حكم سيصدُر علينا بعد قليل».
النَّصُّ مفعمًا بالحسِّ الفُكاهي الَّذي هُو استجابة مُعقَّدة لا يمكن اختزال مُسبِّباتها بسُهولةٍ لتكون سمة واحدة أو مجمُوعة صغيرة من السِّمات النَّاتجة، عن حالة الانفراج التي تطرح نفسُها على نصِّ كاتبنا الكبير «خيري شلبي» كفعل ختامي لحالة التَّوتُّر الدَّامي للوضع المأساوي المُهيمن على حُضُور بطل الرِّواية، فالفُكاهة تتولَّد من حالة التَّوتُّر في الموقف الهزلي التي عادة ما تتصاعد حتَّى تنفجر فجأة، مصحُوبة بالضَّحك بصفةٍ عامَّةٍ، فالبطل الطِّفل الذي يرغب في الاستمتاع بطُفُولته يجد نفسُه في مواجهة صراع من السِّياق الواقعي الرَّافض لحُضُوره والمُتعمد قهره عَبْر مُمارسة من مُمارسات القدر تتمثَّل في المرض المجهُول الذي أصابه.
ويتعقَّد الموقف الدِّرامي بانضمام طرف آخر يتمثَّل في الأخ الأصغر للبطل، وبقدر ما يرتفع المُؤشِّر الدِّرامي النَّاتج عن حالة التَّوتُّر الذي يستقبلُه المُتلقِّي لتبعات هذه الحالة بقدر ما يتضاعف الحسُّ الفُكاهي بتحويل هذه الحالة المأساويَّة إلى حالةٍ فُكاهيَّةٍ عَبْر عُنصُر السُّخريَّة الذي يخلط الملهاة بالمأساة بما يستدعي مفهوم الفُكاهة، فصُورة البطل الجالس بجوار أخيه الذي لا يستطيع الكلام أو الحركة مُكتفيًا بالأكل والتَّأمُّل، تدفع الجميع للضَّحك، ولكن الضَّحك هُنا لا يتم بُغية النَّيل العاطفي منهُما، وإنَّما بُغية الدّعم المعنوي لهُما، وذلك من خلال قهر المُسبِّب الرَّئيس في هذه المأساة وهو المرض، بتحويله إلى موضُوع للتَّأمُّل والانتقاد اللَّاذع عَبْر شفرة غير مُباشرة تنتقم منه وتقهرُه من خلال التَّسامي النَّفسي عليه، فالضُّيوف عندما يسخرون من هذا المنظر إنَّما يصدُرُون هذه الحالة من الانفراج والأمل إلى البطل الذي يكتشف هشاشة هذا الكائن المُخيف – الموت – وإمكانية مُواجهته عَبْر سلاح السُّخريِّة النَّاجع.
إنَّ المُقاومة التي تتسلَّح بها ذات لبطل وهي تُصارع الموت المُوشك ترتبط بحُضُور عُنْصر الفُكاهة الذي يكتسب كينونته بدوره من اتساقه وتناغمُه مع عُنْصر مُقاومة الموت، هذا الاتِّساق الذي ينتقل بعُنْصر الفُكاهة من دوره بوصفه إحدى استجابات فعل المرض إلى دوره باعتباره بديلًا للهزيمة أمام سُلطان الموت.
تنتهي الرِّواية مُمتزجة برُؤية ساخرة، فيسرُد الرَّاوي:« ذات يوم كنتُ جاسًا على المصطبة مع شوشة ابن عمِّي.. وإذ بامرأةٍ عجُوز تمرّ حاملة سفطًا (1) على رأسُها.. حدَّقت المرأة في وجهي ومصمصت شفتيها في أسفٍ، وقالت: يا حبة عيني الواد ده عيان بالطِّحال.. العارف هُو الله لكنَّ طحال هذا الولد مُنتفخ مُنْذ وقت طويل، يكاد والعياذ بالله ينفجر، فبكت أُمِّي على الفور قائلة: دخلنا بيه على الحُكُما، قالت الغجريَّة في ثقةٍ مُذهلةٍ: شفاؤُه على الله وعليَّ.. قالت المرأة: شُوفي يا بنت أخوي، تجيبي قزازة خل وتجيبي حتَّة خميرة، تحطي الخميرة في فنجال مليان خل، وتحطي الفنجال بالخل والخميرة فوق سطح الدَّار يسمع التَّلات أدنَّات: المغرب والعشا والفجر، وتخلي المحرُوس ده يشرب فنجال الخل بالخميرة على ريق النَّوم الصبح، تلات تيام ورا بعض أوَّل كُلّ شهر عربي، لمُدَّة تلات شهور والباقي على الله، وفي الشَّهر التالت حافوت عليكي عشان آخد الحلاوة.. ناولتني أُمِّي الفنجال المُرطب بالنَّدي وقطعة حلوى، ثُمَّ قسرتني على تجرُّعه، في اليوم الثَّالث من الشَّهر الأوَّل شربت الفنجال وحدي بغير مدافعة، وفي نهاية الشَّهر كانت بطني قد هبطت وزال عنها الانتفاخ، في اليوم الأوَّل من الشَّهر الثَّاني كنت أنا الذي يملأ الفنجال ويضعُه فوق السَّطح، وأقوم مُبكرًا لأدلُقُه في جوفي.. وفي نهاية الشَّهر الثَّاني كنت قد تمكَّنت من الذَّهاب إلى المدرسة وحدي وقد زال انتفاخ بطني تمامًا، وفي الشَّهر الثَّالث كانت أُمِّي تبحث عني فتجدني ألعب الكُرة الشَّراب في الجُرن (2) كالعفريت».
لقد تجلَّت قُدرة مُبدعنا الكبير «خيري شلبي» على تمثُّل الروح الشَّعبيَّة المصريَّة ممَّا رشحه لأنْ يكون المُؤرِّخ الشَّعبي لطبقة المُهَمَّشين في مصر.الأديب صاحب البورتريه المُميَّز للشَّخصيَّة المصريَّة الباكية والضَّاحكة، الجادَّة والسَّاخرة.
ولمَّا التقيت الرِّوائي الكبير في صيف عام1999م، وسألته عن الفُكاهة والسُّخريَّة في كتاباته، قال لي: «قد تُدهش إذا قُلت لك أنَّني أتجنَّب أثناء الكتابة أيّ محاولة للتظرُّف، أو لإثارة شهية القارئ للضَّحك، لأنَّ المسألة أجَّلْ من أن تثير الضَّحك، وإنَّما القارئ يضحك مضطرًا، لا لأنَّ الأشياء التي أمامه مُثيرة للضَّحك، وإنَّما لأنْ ما كان يعتقدُه في نفسُه هُو المُثير للضَّحك وقد اكتشف خواءه في مثل هذه اللَّحظات الفنِّيَّة الصَّادقة ».
الكاتب والباحث وفيق صفوت مختار