” ذلك الحيوان البحري ، اللوياثان
الذي جعله الربُّ من بين مخلوقاته
أعظم مايسبح في الماء “
(الفردوس المفقود 412 – 7)
” حوت العنبر الذي صادفه بعض النانتوكتيين حيوان عنيف نشيط يتطلبلباقة وجرأة عظيمتين في الصيادين “
(توماس جيفرسون 1778)
” توقف الرب عن اللعب مع اللوثيان العظيم(الحوت) ملك الأسماك بعد خراب الهيكل المقدَّس “
( التلمود البابلي )
في رواية (موبي ديك) تصويرٌ للصراع السرمدي بين الإنسان والطبيعة .. وصورة سعي الإنسان الحثيث بغية فرض سيادته على الكون ، وصورة الطبيعة بكل مافيها من الألغاز والضرورات العمياء . وحسب الفكر (القَبّالي – الحلولي) في الديانة اليهودية .
وعند الحديث عن روايات البحر بما فيه من غموض أعماقه وماتخفيه وحوشها من العدوانية التي تحطم السفن و تلتهم البحارة ، فإن أول وأروع ماسيخطر بالبال هو رواية (موبي ديك moby dick) ، تلك الرواية التي تتحدث عن قبطان يُدعى (آخاب) ، ذلك الرجل الصارم الذي يتكئ على ساقه الخشبية بعد أن فقد ساقه في رحلة صيد سابقة أثناء صراعه مع أحد الحيتان الذي قضمها ، ذلك القبطان يقرِّر الانطلاق في رحلة بحرية على متن سفينته (بيكوود) لصيد حيتان العنبر و الاستفادة من الزيوت التي يستخرجونها منها ، لأن زيت حوت العنبر من البضائع المرغوبة والغالية الثمن .
إن رواية (موبي ديك) لاتحكي صورة صراع الإنسان مع الطبيعة ، بل صراع “إنسان ” مُحدَّد مع الطبيعة ، وترسم صورة القبطان (آخاب) الذي يكون سجين فرديته ورهين ذاته في سعيه اللاهث لتنصيب نفسه نظيراً للحقيقة وشريكاً للربِّ ومثيله المُطلَق حين ينطلق بسفينته في رحلة الصيد الطويلة مع بحارة يأملون بالصيد الوفير الذي سوف يوفر لهم المال لإعاله أسرهم ، لكنهم يجهلون أن القبطان(آخاب) إنما يرغب في الانتقام من ذلك الحوت الأبيض الذي أفقده ساقه فأطلق عليه أسم (موبي ديك moby dick) .
وفي قرارة نفسه يعتقد (آخاب) أنه رسول الخير ، ولأنه من شعب الربّ المختار ، فهو وسيط النعمة الإلهية ، بينما يرى في حوته – الخصم – مثالاً للشرِّ المُطلَق .
وفي وسط البحر يعلن القبطان عن سبيكة ذهبية مكافأة لأول شخص يشاهد ذلك الحوت و يرشده إليه . ويجد القبطان (آخاب) ضالته و تبدأ المطاردة العنيفة مع الحوت الأبيض ، حتى يتكسّر القبطان (آخاب) على صخور هذيان فرديته ، ويبقى الحوت لينزوي القبطان (آخاب) في ثنايا صمته وصخب أمواج البحر كحقيقةٍ قائمة حوله . ويستطيع الحوت الماكر الإفلات منهم ، لكن القبطان لا ييأس ويستمر في مطاردة الحوت لتكون النتيجة نهاية مأساويه له ولبحارته ، في قصة تروي صراع الإنسان مع الطبيعة ونهاية ذلك الصراع المأساوي كما يعتقد كاتبها الروائي .
وعن كاتب رواية (موبي ديك) الخالدة (هيرمان ميلفيل) .. اليهودي القَبّالي المؤمن بحلول الربِّ في شعبه اليهودي المختار ، والذي عاش في الظل ولم يشهد في حياته ماحققته روايته من النجاح بعد أن تم نشرها عام 1851م ، وأصابته خيبة الأمل و اليأس بسبب فشل الرواية و تجاهلها من النقاد ، مما اضطره للعمل في سلك الجمارك الأمريكي حتى توفي بالعقد الأخير من القرن التاسع عشر .
ولم يعرف أحد شيئاً عن تلك الرواية إلا في العام 1907م حين تم اختيارها للنشر في إحدى دور المكتبات الشهيرة .
ولاحقاً تم إنتاج عشرات الأعمال السينمائية المقتبسة عن تلك الرواية ، وكان من أخر تلك الأعمال هو فيلم في (قلب البحر in the heart of the sea) وهو الفيلم الأمريكي الذي اخرجه (رون هاورد) من بطوله الممثلين (كريس هيمسورث و بنجامين وكر و جودي مولا) .. و غيرهم من طاقم التمثيل و تم طرحه للعرض في دور السينما عام 2015م .
وكان ذلك دليلاً على أن الرواية قد أصبحت خالدة لأنها وحتى اليوم ماتزال الأفلام السينمائية تُنتج وهي تقتبس من أحداثها ، و لكن الكاتب الروائي (هيرمان ميلفيل) لم يرَ هذا النجاح الباهر الذي حققته روايته ، وكأن قدر المبدعين أن لا يشاهدوا ثمار نجاحهم .
وما لايعلمه الكثيرون أن رواية (موبي ديك) كان قد استوحاها من قصة واقعية عن حادثه غرق السفينة (إيسيكس) بعد أن استمع إلى رواية الناجين منها و من بينهم كان قبطانها (جورج بولارد) و مساعده (أوين تشيس) و بعض من البحارة الناجين .
وسفينة (ايسيكس) هي سفينة صيد حيتان صغيرة الحجم تم بناؤها عام 1799م و طولها حوالي 27 متراً ، وتحمل على متنها 5 قوارب نجاة صغيرة ، ورغم حجمها الصغير مقارنة بسفن صيد الحيتان المعروفة ، إلا أنها كسبت سمعة جيدة برحلاتها الناجحة ، و في شهر آب/أغسطس من عام 1819م خرج سكان جزيرة (ناتوكيت) في ولاية ماساشوسيتس الأمريكية يودعون طاقم سفينة (ايسيكس) العشرين بقيادة قبطانها الشهير (جورج بولارد) الذي لم يتجاوز الثلاثين
عاماً من عمره ، وكذلك كان بقية رفاقه البحارة الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين العشرين و الثلاثين عاماً .
نشرت أشرعه السفينة و بدأت الرحلة بهدف هو الوصول إلى السواحل الغربية من أمريكا الجنوبية حيث توجد حيتان العنبر في تلك المنطقة من المحيط الهادئ ، و لكن الرياح أتت عكس ماكانوا يشتهون ، فبعد يومين من الرحلة تعرضت السفينة إلى عاصفة شديدة كادت تغرقها و تسببت في أتلاف الشراع الأعلى وفي تحطم جزء من الصارية مع مركبين من مراكب الإنقاذ ، لكن هذا لم يؤثر في عزيمة القبطان (بولارد) الذي واصل الرحلة رغم تلك الأضرار ، حتى وصلت السفينة إلى (كيب هورن) بعد خمسة أشهر و ذلك في شهر يناير من عام 1820م ، و هذا يعتبر تأخرا عن الموعد المخطط له بالرحلة مما أصاب البحارة بالإحباط و شعروا أن الحظ السيء قد أصابهم ، و بعد أن التفت السفينة حول كيب هورن و وصلوا إلى السواحل الغربية لأمريكا الجنوبية المقابلة للأكوادور .
ويكتشف القبطان (بولارد) أن المياه كانت خالية من الحيتان و أن موسم الصيد انتهى بسبب تأخرهم في الوصول ، و قد نصحهم بعض بحارة السفن التي مرت بجانبهم ، أن يتوجهوا بسفينتهم إلى منطقة تقع على بعد 4,600 كيلومتراً من موقعهم الذي هم فيه من شرق المحيط الهادئ حيث الصيد الوفير ، و لكن المسافة بعيدة عن اليابسة و الجزر المحيطة بتلك المنطقة كانت مهجورة بسبب اعتقاد الناس بأنها مسكونة بقبائل بدائية من أكله لحوم البشر ، فيقرر القبطان التوجه إلى تلك المنطقة بعد أن فكر بإصلاح الأضرار التي لحقت بالسفينة وبقوارب النجاة ، كما أن مخزونهم من الغذاء و الماء كان على وشك النفاد ، ولهذا تتوقف السفينة في جزيرة (فلوريانا) من أرخبيل (جالاباكوس) ، حيث يتم إصلاح السفينة ويجمع البحارة حوالي 300 سلحفاة ضخمة و وضعوها في السفينة من أجل توفير لحم السلاحف الطري ، وأثناء تجولهم في الجزيرة يقوم احدهم (توماس شيبل) بإشعال النار ليمازح مع أصدقائه ، و لكن الجفاف و الرياح تجعل النار تنتشر و تحاصرهم ليتمكنوا من الإفلات منها بأعجوبة ، وأثناء مغادرة السفينة كانوا يشاهدون أعمدة الدخان تتصاعد من الجزيرة التي أصبحت جرداء و انقرضت فيها السلاحف و الطيور ، وتوعّد القبطان (بولارد) بمعاقبة المتسبب بالحادثة ، ويعترف (توماس) بعد عده أيام ويتم جلده بالسوط كعقوبة على ما فعل . وتصل السفينة إلى منطقة الصيد القريبة من جزيرة (ماركيسيس) ، وفي شهر تشرين الثاني/نوفمبر يتحطم أحد القوارب الصغيرة أثناء مطاردة الحيتان لأنها غير مخصصة للمطاردة ولا للصيد . ويبحر مساعد القبطان (أوين تشيس) في مطاردة الحيتان ، لكن القارب يتعرض للضرر مما يرغم (تشيس) على العودة إلى السفينة وهو يجرّ أذيال الخيبة والفشل ، و بينما يكون القبطان (بولارد) جالساً على سطح السفينة ومشغولاً بإصلاح القاربين التالفين ، يشاهد البحارة حوتاً أبيضَ ضخماً يزيد طوله عن 26 متراً ، هذا الحوت يظهر فجأة على سطح الماء و بدون حركة ، ثم يبدأ وبدون سابق إنذار بضرب جوانب السفينة ، و بالرغم من ذلك يأمر القبطان (بولارد) بحارته بعدم مهاجمة ذلك الحوت بالرماح خوفاً من زيادة غضبه ، و بعد عدة ضربات ، يختفي الحوت إلى عمق البحر و يتنفس البحارة الصعداء بعد أن اعتقدوا بأن الحوت قد اختفى . وما هي إلا لحظات حتى يشعروا بالاهتزاز من تحت أقدامهم ويكتشفوا بأن الحوت قد استطاع شقَّ السفينة إلى نصفين ومضى في سبيله .
لقد هاجم الحوت السفينة ودمرها
ووسط الحطام العائم على سطح الماء ، يحاول القبطان (بولارد) و بحارته أن ينقذوا ما يمكن إنقاذه من الطعام و الشراب بعد أن تبّقى معهم ثلاثة من زوارق النجاة الصغيرة ، وتوزع الناجون من طاقم السفينة عليها ، وتولى قياده المركب الأول القبطان (جورج بولارد) بينما تولى مساعده (أوين تشيس) قياده المركب الثاني ، أما المركب الثالث فكان بقياده الربان (ماثيو جوي) ، و بسبب ضعف أجسام المراكب وضعفها في الصمود أمام الأمواج العاتية يقرر البحارة ربط مراكبهم الثلاثة مع بعضها بواسطة الأخشاب و المسامير و يتم تقسيم الطعام و الشراب فيما بينهم ، وكان الطعام قليلاً جداً وصار طعمه شديد الملوحة بسبب تغرّقه بمياه البحر المالحة .
وينفد الطعام و الشراب خلال اسبوع واحد فقط وصار البحارة يعانون من الجوع ومن العطش ، حتى أن بعضهم قد شرب البول و منهم من تمضمض بماء البحر آملاً أن يخفف له شيئاًمن العطش ، كان الوضع كارثي و الحر شديد ، فالشمس تعكس أشعتها على صفحات المياه و تلفح وجوههم بوهجها ، و بعد نقاش و جدال فيما بينهم بسبب خوفهم من احتمال أن تكون جزيرة هندرسون (5) مسكونة بأكله لحوم البشر ، و مع هذا قرر القبطان بولارد الإبحار نحو تلك الجزيرة فلا خيار أخر أمامهم .
وعند وصولهم إلى شاطئ الجزيرة يرسل القبطان فرقة لاستكشافها بحذر و قد عادت الفرقة و أكدت له أن الجزيرة مهجورة و لا يوجد بها أي قبيلة ، ليستقر البحارة في تلك الجزيرة لمدة أسبوع يتزودون فيها بالماء من جدول صغير وجدوه هناك ، كما أنهم يأكلون أوراق الشجر و بيوض الطيور و أنواعاً من السلطعون التي وجدوها على شواطئ الجزيرة و غابتها ، و لكن الطعام يوشك على النفاد ، فيقرر القبطان مغادره الجزيرة ، و لكن ثلاثة منهم يقررون البقاء في الجزيرة الذين هم (ويليم رايت و سيث ويكس و توماس تشابيل) ، أما بقية البحارة فيبحرون بقواربهم في 27 كانون الأول/ديسمبر و كان القبطان (بولارد) يخطط للوصول إلى جزيرة (أيستر) خلال ثلاثة أيام و لكن خيبة الأمل تصابته في 4 كانون الثاني/يناير حين يكتشف أن القوارب انحرفت عن مسارها و بدأت كمية الطعام في النفاد وبات الموت يحوّم من حولهم ، فكان أول من أصابه المرض هو المساعد الثاني للقبطان (ماثيو جوي) الذي أراد أن يقضي ما بقي له من وقت إلى جانب القبطان (بولارد) ليتوفى فيما بعد ويتم دفنه في البحر . وفي اليوم التالي تهبُّ عاصفة قوية وتفصل مركب (أوين تشيس) بقية المراكب .
ويموت (ريتشارد بترسون) على قارب (أوين تشيس) ويتم دفنه برميه إلى البحر كما فعلوا مع (جوي) . كما يموت (أيسك) على قارب (تشيس) أيضاً . وبسبب الجوع الشديد الذي أصابهم يقرر رفاقه أن يلتهموه ، فيقومون بتقطيع جثته وشرب دمه و أكل لحمه ، ليستمروا في نهش ما تبقى من جثته حتى لا يبقى منها شيء صالح للأكل ، وبسبب ذلك ينشب بينهم الصراع من أجل البقاء ، وكل واحد منهم يريد أن يفترس صاحبه !! وبعد انقضاء ثلاثة أيام من نفاذ الطعام يتم إنقاذهم بواسطة سفينة بريطانية صادفت وجودهم هائمين في البحر بقاربهم المهترئ وتنقل الناجين الثلاثة إلى مدينتهم .
رواية موبي ديك الخالدة و القصة الحقيقية وراءها
الناجون توزعوا على ثلاث قوارب متهالكة وضائعة وسط المحيط الشاسع
أما بالنسبة لقارب بولارد فقد كان مصيرهم مروع و كارثي ، ففي تاريخ 20 يناير نفذ منهم ما بقي من طعام و مات بنفس اليوم احد البحارة و يدعى لوسن توماس ، و أصبح وجبه شهية لرفاقه الذين كاد الجوع أن يفتك بهم ، وفي كانون الثاني/يناير يموت (تشارلز شوتر) ويصبح هو الأخر فريسة سهلة لرفاقه الجياع الذين ينهشون لحمه ، و تلاه (ايزى شيبارد) الذي يموت بعده و يلحقه (سامويل ريد) في اليوم التالي ليكونوا وليمة دسمة لمن بقي حيّاً من رفاقهم الذين استمتعوا بشرب دمائهم و بأكل لحومهم . و في صبيحة اليوم التالي يتفاجأ البحارة أن مركب (هندريك) قد اختفى ، ولا يعلم أحد ما هو سبب اختفائه ؟ فهو إما أن تكون الأمواج قد جرفته بعيداً وإما أن (هندريك) قد قرّر و رفاقه أن يبحروا بشكل منفصل أملاً بأن يجدوا سفينة تنقذهم .
ولاحقاً يتم العثور على ثلاث هياكل عظمية في جزيرة دوسي ، يعتقد أنها تعود لهندريك و رفاقه ، أما الوضع في قارب القبطان (بولارد) فكان مأساوياً للغاية بعد أن نفذ منهم الطعام حتى كادوا أن يهلكوا من شده الجوع و العطش ، لهذا اتفق الرجال الأربعة على عمل قرعة ،ومن يقع عليه الاختيار يتم قتله و التهام لحمه ، و عندما يسحب المقترعون القشة ، جاءت القشة القصيرة من نصيب الشاب (أوين كوفين) ذي _ 17 عاماً من عمره ليعترض القبطان (بولارد) ويحاول أن يعيد القرعة من جديد كون الفتى هو ابن عمه و قد وعد أمه بالمحافظة عليه ، و لكن الشاب (أوين) كان شجاعاً و رفض أن تعاد القرعة و قَبِلَ بمصيره و قال :
- هذا حظي السيئ ، فماذا أفعل ؟.
ويتم عمل قرعة أخرى لاختيار من يقوم بتنفيذ إعدام (أوين) ، ليقع الاختيار على الشاب (تشارلز رامس ديل) ، كانت الصدمة قاسية عليهما الاثنين فكيف بصديق أن يقتل رفيق طفولته !! وحين يمسك (تشارلز) البندقية بيديه المرتجفتين لا يستطيع أن يصوبها نحو صديقه ، لكن (أوين) يمسك ماسورة البندقية ويثبت فوهتها على صدره بكل شجاعة ، فيغمض الشابان أعينهما و يدوي صوت الطلقة عالياً ليسقط (أوين) صريعاً ومضرجاً بدمائه ، و من شده الجوع يهجم الثلاثة الباقون على جثته لينهشوا لحمها ، لأن الجوع قد جعلهم وحوشاً ضارية ومجردة من أي حسّ إنساني .
وفي شباط/فبراير يموت (برازلي راي) من الجوع و العطش ليلتهمه رفيقاه الباقيين .
و تمرُّ الأيام و هما على هذه الحال و في شباط/فبراير و بينما هما منهمكان بعظام ما تبقى من رفات رفيقيهما ، تلاحظهم ركاب سفينة تدعى (دولفين) و تنزل منها بعض البحارة لانتشالهم إليها بينما (بولارد و تشارلز) في صدمة و هذيان بسبب ما مرّا به من الجوع ومن الخوف ، و تتم العناية بهما على يد طبيب السفينة لتنتهي معاناتهما التي دامت 93 يوماً بعد غرق السفينة .
وفي آذار/مارس ينتقلان إلى سفينة الأخوين التي أخذتهم إلى جزيرتهم (ناتوكيت) ويلتقون بصديقهم (تشيس) ورفيقه اللذين تم إنقاذهما من قبل .
وهناك يبلغون السلطات عن رفاقهم الذين تركوهم في تلك الجزيرة ويتم إنقاذهم في نيسان/ابريل 1821م و كان الثلاثة بحال جيدة رغم الفترة الطويلة التي مرَّت على وجودهم في جزيرة مهجورة .
و بعد عدة شهور يعاود الناجون الثمانية الإبحار من جديد ويشقُّ كل منهم طريقة على متن سفينة مختلفة ، لكن الحظ السيئ يبقى مطارداً القبطان (جورج بولارد) الذي عاد للإبحار في بداية عام 1822م حيث غرقت سفينة الأخوين التي دفعتها عاصفة شديدة وصار قبطانها أمام شواطئ جزيرة هاواي و تم انقاد طاقمها ، بعد ان تسببت الحادثة بفقدان ثقة أصحاب السفن بالقبطان (جورج بولارد) واعتبروه نذير شؤم بينما اتهمه الآخرون بعدم الخبرة في قيادة السفن .
بعد هذا كله يتقاعد القبطان (بولارد) ويعتزل الملاحة بالبحر ليشتغل كحارس ليلي في مدينته ناتوكيت ، ويخصص يوم 20 من شباط/فبراير من كل عام في اعتزال الناس وحبس نفسه وصوم اليوم كله تخليداً لذكرى رفاقه الذي قضوا في تلك الرحلة .
وفي الختام فإن رواية (موبي ديك) خالدة بقصتها الحقيقية التي دفعت الكاتب إلى تسجيل أحداثها بفنيته الروائية الفائقة ، لتكون روايته (موبي ديك) من أجمل الروايات التي تتحدث عن صراع الإنسان مع الطبيعة .
والروائي الأمريكي (هيرمان ميلفل) هو أحد الأمثلة الكثيرة التي تحكي معاناة المبدعين في ظل تجاهل المجتمع لهم و عدم تقديره لهم وتكريمهم إلا بعد وفاتهم .
إن قراءة (موبي ديك) تمنح القارئ شعوراً متميزاً للإحساس بمحنة الناس في صراعاتهم المعيشية الكبيرة من أجل توفير لقمة العيش ومدى المعاناة والقهر في الظروف المأساوية التي يصادفونها .
كما أنها المرآة التي ترى فيها الطبيعة البشرية صورة ذاتها الباحثة عن الانتقام في تأكيدها لِذاتِها العمياء التي تتوهم بانها بصيرتها ، ويرى فيها الإنسان صورته بكل تجردٍ ووضوح .
إن في رواية (موبي ديك) تجسيد المحنه الوجودية للبشر في خضم عالم يدفع الفرد إلى خوض صراعاتٍ مُهلِكَةٍ عندما تنعدم موارد الطعام ، وعندما تصير الحياة نفسها على المحك . وفي كل مرة نُصارع فيها أحداث الحياة وضغوطاتها نحاول أن لا ننسى أنفسنا في خضم كل ذلك ، ولكن (هيرمان ميلفل) يصور في روايته (موبي ديك) البؤساء الذين لا يستطيعون مواصلة تذكير أنفسهم بإنسانيتهم ، لأن الجوع وغريزة البقاء سيطرت على كل تفكيرهم ونجحت بقيادتهم نحو مصير أسود مليء بوحوش الجوع التي خرجت لتلتهم ما تبقى فيهم من الإنسانيه والمنطق والعقل .
د. علي أحمد جديد