في دسوق وعلى شفا مقربة من نيل مصر الخالد ،كان لقائي بأخي الدكتور طارق أبوحطب ،حيث سنوات الدراسة بكلية الدراسات الإسلامية والعربية ،عرفت طارق شابا لديه القدرة الفنية برسم لوحات من الكلمات بفرشاة منغمسة بلون الأرض الطيبة التي نشأ بها وترعرع،وكثيرا ماكان يتحفنا وكل أصدقائنا وعلى رأسهم الدكتور عبد الواحد أبو حطب بأبياته وأشعاره العذبة الرقيقة.
استطاع طارق أن يصنع لنفسه عالما خاصا حتى في حركاته وسكناته وجولاته في كلية الدراسات بدسوق ،مما جعله ثائرا وهادئا ،عنيفا ورقيقا ، لكنه في كل حالاته كان محبوبا من أقرانه ،معروفا بسمته الطيب وخلقه النبيل الذي جعله سندباد يطلق شراعه مسافرتاركا وراءه هما وحزنا وأملا في النجاة.
والقاريء لقصيدة (السندباد) يلحظ أن ألفاظها لم تأت عبثا بل كل كلمة قالها الشاعر هي مقصودة ،تنهل في مغزها من شخصيته ، وتحمل بين طباتها أوجاعه،فبدت الروح الشاعرة روح وجدان أحبته وأخلصت له ،ونمت في صدره وفؤاده ؛زرعا أخرج شطئه في صورة إنسان ،خياله خصب وحقيقته موجعة.
1- يا سندباد
أطلق شراعك للسفر
هيا انتفض
لملم حنينك
واجمع سنينك
وارتحل
هدهد جراح مخاوفك
لا ترتجف
أو تلتفت
أو تستكين متابعا لمن يخون
ومن غدر
فتحت مصارعها البلاد
فلتنطلق
من عمق أغوار الفؤاد
ما عاد شيئ يمنعك أن تنتشر
أو تغزل الأنواء دربا للمنى
أو تعشق الترحال
في صفو الوداد
هكذا كان السندباد في رحلته وبداية مسيرته ،ملاحا تائها وروحا شاردة في أفاق الوجود،لكنه لم بنس أن يحمل هواسجه وفكره، بطرق فيها الذكريات المريرة، والتجارب القاسية ،فأخذنا معه لنحفر في ذاكرتنا عن مخزون تجاربنا التي باتت تتشابه ضمنيا في تجربته وإن كانت تجربة فيها من العذاب ما جعله عاشقا للترحال..وفي الأبيات يبتدع الشاعر لونا من حديث النفس المكلومة،في اختزال يجذب الانتباه ،ويجعل القاريء متسائلا:أي حزن كبير حرك هذه الموهبة؟!وأي قاموس شعري نهل منه الشاعر؟! لكن لوحته أفاضت في الاجابة ،فجاءت الألوان قاتمة فيها صوت وضوء الأنواء التي صارت دربا للمنى!
2- يا سندباد
ضل الأمل
فافتح سراحك للعلن
ما عاد قلبك مرتهن
ما عاد نبضك مستباح
قد ضقت بالعمر الجراح
ما عاد يجديك العناد
لقد ضله الأمل ؛فانعكس ذلك على صفو حياته التي كدرها النفي المتكرر(ماعاد) وكأنه لايرى حتى ملامحه ،فارتجفت الصورة وانكسرت النفس وتلاطمت الأمواج،وانكسف الحس الجميل ،وصار الفضاء الرحب عالما ضيقا لايتسع لهمومه وجراحه.
والتعبير بكلمة سندباد التي تكررت مع كل لوحة ،إنما هو استثمار لهذه الشخصية الخيالية وتوظيفها في صورة مؤثرة في ذهن المتلقي ،بأحداث تبدو واقعية ،إلا أن الشاعر وهو يسبح في خيالاته مع السندباد ترك لنا مضمونا أبرز تجربته النفسية من خلال عالمه المغلق الذي أتعبه البحث والسفر.
والقريب من طارق يستشعر صدق تجربته ،ومدى الانفعالات التي تؤكد معاناته مع الأخر،وهو المثابر والصابر والمحتسب.
3-يا سندباد
اترك موانئ غربتك
غرد فقلبك يحترق
ولهيب شوقك يستعر
لا تنتظر
لا تستهن بمواجع النبض الجريح
قد ضقت ذرعا بالبعاد
وسئمت تطواف البلاد
بالحلم يأتي في الرقاد
وفي منادته لسندباده ، يأمره بالتخلي عن أحزانه وكأنه أراد أن ينتصر له ويحطم ارهاصاته وأوجاعه ؛فحلق في أجواء ذاته وعبر جنات بلاده عن حلمه الذي يأتيه في الرقاد، أزعم أنه مازال مؤمنا به ،وإلا مامزج به لونه القاتم كي يزين لوحته بكل تعبيراتها الفنية الصادقة.
4-يا سندباد
هذي همومك مسرعة
والكل خان
والنأي حدق مقبلا
ليروم هتك الأشرعة
والحزن جاء بمن معه
وأجاد صنع الأقنعة
والهم هل مدرعا
متأهبا متحفزا
يقتات صيد الفاجعة
يشتاق رشفا
الكؤوس المترعة
والكل يطمع في الفؤاد
ونلحظ أن الشاعر كلما اقترب من نهاية قصيدته يقدم ذاته بطريفة بدا عليها الاختلاف ؛فهو شاعر قاريء مثقف وعضو مؤثر وعامل في أندية الأدب،فالشعر عنده هزة تدفعه لمزيد من الابداع، والتماسك والتنوع، والغنى بمفردات وجمل شعرية يقف عندها القاريء،فلاغرابة أن نجد الحرب مع الحزن لم تضع بعد أوزارها ، لكن سندباد حسبه أن هذه الحرب مكشوفة لديه بمصادرها وقواتها وأعدادها وعتادها ،فجاءت اللغة تحارب معه متدرجة في البوح ،منضمة لحيوش ألفاظه حتى بات الانتصار وشيكا.
5- يا سندباد
الهجر جفف منبعك
فجر عيونك في دمك
ثم ارتوي
أطلق عنانك للمدى
ما عاد شرع للهوى
إني وقلبك في النوى
قدرا تفرق شملنا
حزنا نغني دربنا
فاركب سفينك وانطلق
صوب العلا
يا سندباد
فربما حان المعاد
يا سندباد
إن علاقة الشاعر بألفاظه ومزجه ببعضها أعطاها قوة وبلاغة استقصت مشاعره التي مر بها ،فتولدت الدلالات ،ونمت الأفكار،في سياق وصل بالشاعر لغاية الانتظار، والحق ، قصيدة طارق قد تبدو بسيطة في تراكيبها ولغتها،لكنها تقدم أنموذج للذات الشاعرة التي تسعى لإراحته من هاجسه حين فتح لنفسه منافذ الأمل،وتخلص من كل هذه الهموم راكبا سفينة النجاة التي أبعدته سالما عن الطوفان …
د. أحمد مصطفى