قراءة في كتاب “ويبقى الأثر” للكاتبة الفلسطينية “وفاء شاهر داري” ل د. حكمت حج

كتاب “ويبقى الأثر” المولود الأدبي السادس للكاتبة والباحثة والناقدة المقدسية (وفاء شاهر داري ) من فلسطين والذي تم الاحتفال فور ولادتة بمشاركتة في معرض عمَّان الدولي للكتاب ، يقع الكتاب في ١٧٠ صفحة من الحجم المتوسط، عن دار النشر ابن شيق للنشر والتوزيع في الأردن.
اعتدنا قراءة التحليلات والمقالات النقدية عن معظم الكتب بعد فترات لا باس بها من اصدار تلك الاصدارات، أما مؤلفات الكاتبة (داري) ما يلبث ولادة كتاب لها فترى مقالات عدة لأدباء ونقاد وآراء تتصدر الشبكات العنكبوتية الأدبية، حيث تتنوع مؤلفاتها بين أدب الأطفال والكبار -الدراسة البحثية- والنصوص الأدبية والخطرات النثرية. فاستوقفني ذلك وقررت قراءة أحدث مولود من مؤلفاتها. علمًا أن مشوارها الأدبي لا يتجاوز بضع أعوام قليلة، ولم أتوقع أن يستقطبني هذا الصنف الحداثي في النثر ليستفز قلمي لينضم لثلة من كتبوا عن إبداعات هذه الكاتبة.
بين صفحات كتاب ” ويبقى الأثر” تجد نفسك تدخل ضمن قلم يعبر عن أعمق الشعور في النفس، يغوصون بحور من التأملات النفسية والعاطفية، نموذج حي للكاتبات والشخصيات التي كتبت في الأدب النسوي وغيرك فأبدعت ، ولم تقوقع نفسها حول صنف أدبي معين بل اتسعت كتاباتها لتشمل أصناف أدبية كثيرة وتفتح كتاباتها أبوابها للقارئ وتأخذه في جولات في عوالم يتداخل فيه الحب والأمل – بالألم والخذلان – وبأوجاع الوطن. وتتشكل المشاعر بألوان تتأرجح بين الفقد والشوق والحنين والفرح والحزن والخيبة. منذ الصفحات الأولى يفتح الكتاب نوافذ على الروح من خلال تلك الخطرات النثرية الحداثية التي لا يمكن أن تقف عند حدودها الأحاسيس، بل تتجاوزها إلى مساحات وسحابات وفضاءات لا حدود ولا سقف لها.
منذ التأملات الأولى لقارئ متفحص يقرأ النص وما خلف النص يستشف أن “وفاء داري ” لا تسعى فقط لسرد قصة حول حالة معينة ضمن خاطره ، شذرة ، ومضة أو قصيدة،بل تجعلك تعيشها تتشبع بتفاصيلها تتخذ من النص سرد وأداة موجهة لطرح أسئلة وجودية تتعلق بالقدر، الهوية، والبحث عن الذات، والوطن، والعلاقات الأسرية والقضايا الاجتماعية ، وتطور الذات والمناجاة، وتطرق باب الأدب التوعوي والأخلاقي والنفس الشعوري. تشعر أن هناك سماء ثامنة للكتاب . وهنا يمكنني أن أقول أنه في سمائها الثامنة لا تقتصر العلاقات على كونها تشمل المشاعر المتبادلة سواء بالتجاذب أو التنافر حسب الحاله لكل خاطرة نثرية، بل يظهر كقوة تعصف بنا للتفكير في أبعاد النص ، قوة لا تهدف إلى إشباع الرغبات الأدبية بل إلى تفكيك الروح وإعادة تشكيلها.
ينساب السرد في كتاب “ويبقى الأثر ” كما لو أنه حديث يخرج من القلب من عزيز او حكيم، يتكلم بلسان أم وحبيبة وأب ومحب وصديق زوجة وزوج ووطن ، ينطلق من عمق الروح ليفتح أبوابًا على عوالم من المشاعر االواقعية، يتقاطع الحب مع الألم، وتتعايش الرغبة مع الخوف، تحمل النصوص بين طياتها هموم الشارع والوطن والمواطن والمحبين والمخذولين. في جدلية حوارًا مع الذات احيانًا ومع الاخر أحيانًا أخرى، يعكس الواقع والبحث المستمر عن معنى أكبر للحياة، وكأن الكتابة الملاذ الوحيدة لفهم الحزن المتأصل في القلب والمشاعر .
كل كلمة ، كل سطر يبدو كأنه مرآة لمشاعر ضائعة تبحث عن ملجأ، الحب في “ويبقى الأثر” ليس مجرد إحساس يتجاوز الزمان والمكان، بل هو حالة من الهروب المستمر من المثالية إلى واقع يمزق الروح وينفض عنها غبارها، ليعيد تشكيلها في صورة جديدة أكثر وضوحًا حتى لو تملئها الندوب. وفي أوجاع وطن أنهكته الحروب. وفي علاقات أسريه دمرتها الخذلان، وحالات مجتمعية ظُلمت اجتماعيًا وأسريًا لتسليط الضوء عليها .
في كتاب ويبقى “الأثر” تدعو (داري ) ضيفها المتلقي التخلي عن مفاهيم النظرة والقراءة التقليدية التي نعرفها، وتفتح له أبوابًا إلى عالم التأويل والتكثيف ضمن أدب وجيز ليفتش عن المعاني ، تاركة له حرية التحليل، وتدعوه ليفكر بتفكر، لا يخضع لقواعد المجتمع المستبد، حيث تعترف أن نصوصها لا تقبل الرتابة ولا ترضى بالمسلمات بل هي خارجة عن المألوف. كما كرت في أولى صفحات كتابها بعناون (تلك القصيدة):
تلك القصيدة
إن أتيت تطلب قصيدة نثرٍ
لم تكسر طوقها، لم تفك معصميها
فاذهب لتبحث عنها خارج النص
لا وجود لدي لسطورٍ رتيبةٍ سطحية الرؤيا
إن جئت تطلب قصيدة بكماء لا يعلو لها صوت
فقد أخطأت الاختيار
فالنص الذي يساير المألوف يدا بيد
لا يلزمني في تضاريس لغتي
النص الذي لا يحلق عاليا كالنسور ،
لا يتخطى حواجز المألوف
هو نص مقيدٌ قعيد
مرفوضٌ في عرفي، مرفوض

والنص الموسوم على جبينه بالمسلمات
المنبطح مهزوما مع المهزومين
لا تصافحه أناملي، لا تفاوضه، ولا تعترف به أبدا!

النصوص لا تعرض قصة حب خذلان اوجاع وطن فحسب، بل تحفر في أعماق التجربة الإنسانية كاشفًة عن التناقضات التي تعتري النفس البشرية، وتطرح مفهومًا جديدًا للعلاقات ، كل نص يحكي قصة وجع حالة خاصه متفردة بذاتها، سواء من فقد من أوجاع وطن -أمومة -عقوق- شعور المحبين، نص تراه يلامس القلب، يتردد به صدى المعاناة، ويعيش في ذروته كقوة تغير معالم العالم الداخلي. ويفتح آفاقًا واسعة للتأمل في العلاقة بين الذات والآخر
“ويبقى الأثر” هو عبارة عن فسحة تدعو لتدريب الذات في مواجهة مشاعرها العميقة، تلك المشاعر التي لا تجد لها مأوى إلا في الحروف، وعبر السطور وفي ثناياها تتقاطع الكلمات مع الذاكرة في محاولة لتضميد الجراح، لا يقتصر الأمر على الحبيب الغائب أو العلاقة المفقودة، وبين القدر والحرية والحروب وأوجاع الوطن والحقوق المسلوبة ، بل يتجاوز ذلك ليصبح رحلة إلى الذات، بحثًا عن النقاء في خضم الفوضى العاطفية والنفسية والاجتماعية والعلاقات الاسرية ، تعيدنا النصوص إلى حقيقة جوهرية؛ أن العلاقات ليس فقط ما نبحث عنها في الآخر، بل هو ذلك الشعور العميق الذي يكشف لنا عن أنفسنا.

في الختام: يمكنني القول أن هذا الكتاب لا يُقرأ بقدر ما يُعاش، إذ يعبر عن عالم داخلي يموج بالمشاعر المتضاربة والأسئلة الوجودية، ويؤكد أن “ويبقى الأثر ” له أثر كبير في النفس ، ليست مجرد خطرات نظرية نثرية، بل هي الحالة النهائية التي يبلغها القلب بعد أن يجتاز كل مراحل الألم والفقد وكل شعور عاطفي، وأنها مساحة للبحث المستمر عن الحقيقة، وعن الحب والحرية والكرامة والاستقلالية ، الذي لا يعرف الحدود ولا يرضى بالقواعد، وأنه محاولة مستمرة للكتابة على أنماط جديدة، أنماط ليست كما نعرفها، بل التي تعج بالأسرار والتجارب الإنسانية التي لم تكتب بعد، ولكنها تعاش في كل لحظة.


د. حكمت حج

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *