قراءة لأرض انتصرت (غزة نموذجًا) للكاتب عبدالسلام اضريف

أراد العدو أن يستظل تحت ظل شجرة لم يغرس بذرتها هو، ولم يُهَيِّئ تربتها هو، ولم يتعهدها بسقي أو سماد هو، ومع ذلك يريد أن يستظل تحت أغصانها.

أراد هذا العدو الذي ظمِىء إلى الدم، بدلًا من الماء، أن يروي ظمأه من يمٍ لم يشقَ قط في حفرها، أو يبذل جهدًا في حمل تربتها من عمق الأرض، متناسيًا بذلك أن روحه هي التي أصابتها ريحٌ ظمْأى جافة ليس بها ندى.

هذه الأرض التي ارتمى في حضنها الزيتون واللحن والمزهر، هذه الأرض التي استحم في شواطئها المقدس والخلود، وفي أغوارها حتمًا سترسب كل المحاولات الرامية إلى تدنيسها.

هذه الأرض انتفضت روحها، من وراء السفوح ومن خلف الجبال، في ليلة صلى خلف قرارات أبطالها القمر والريح والجمال، أو كما قال الشاعر المغربي العبقري عبد الرفيع الجواهري في لوحته الفنية الرائعة “القمر الأحمر”:

“لقد ظمئت روحها للضياء وفي بلدتي أكوس تسكر”

لقد انتصرت في الأخير هذه الأرض التي ظمئت روحها للضياء، وشهد على هذا الانتصار قلب العدو، وكيانه، وسلطاته، بما فيها سلطته الرابعة، وبهذا الخصوص يقول الكاتب الإسرائيلي إيال حنانيا:

“عندما تأملت الحرب في الأيام الأولى قدَّرت أن حماس ستركع وستستجدي وقف إطلاق النار، فلقد حشدنا سبعة ألوية على رأسها أقوى لوائين واللذين لم يهزما أبدًا في أي حرب مع العرب وهما رأس الحربة، لواء جفعاتي ولواء جولاني، وجندنا سلاح الطيران بأكمله وهو من أقوى أسلحة الطيران في العالم بعد الولايات المتحدة الأمريكية.

وضعنا ثلاث أسراب خفيفة ومتوسطة من البحرية قبالة غزة وحشدنا أفضل كتائب سلاح المدرعات، على رأسها كتيبة 401 المكونة بأكملها من دبابات ميركافا 4، فخر صناعة جيش الدفاع، والتي تعد من أقوى دبابات العالم وأكثرها قوة نارية وتدريعًا. وفوق كل ذلك بعض الزعماء العرب يؤيدون العملية.

أما حماس فهي تعيش في حصار خانق فرض عليها منذ عشرين عامًا. حماس في الأيام الأخيرة عاشت في أزمة انقطاع الرواتب على الموظفين من قبل سلطة رام الله، دفعتها إلى الهروب إلى المصالحة مع أبو مازن الذي أراد تسخير موضوع الرواتب لإذلال حماس وتركيعها.

تأملت المستوى السياسي بهذا الوضع وخرجت بتقديرات تفيد باستسلام حماس في حالة عملية عسكرية واسعة بل ونزع سلاحها أيضًا بغطاء عربي وأممي.

بدأت المواجهة وخرج علينا ناطقو حماس على التلفاز بأسلوب من يقود قوة عظمى وجيشًا جرارًا عرمرمًا، وكان الرئيس الأمريكي بنفسه يرأس مجلس الحرب الإسرائيلي من تل أبيب وفتح مخازن الجيش الأمريكي لتزويد إسرائيل بجسور جوية وبحرية من اليوم الثاني للقتال من أجل اجتثاث حماس من على وجه الأرض.

تصورنا أن خطاب قادة حماس نوع من المكابرة السياسية وعدم تقدير قوة التحالف الذي لا يقف خلف إسرائيل فحسب، بل يقف معها جنبًا إلى جنب، وخطابات قادة حماس هي مجرد ممارسة اللعبة النفسية ليس أكثر. لكن صمودهم في القصف الجوي واستمرار إطلاق الصواريخ طيلة الأسابيع الأولى من الحرب بوتيرة عالية غير ميزان المعركة وموازين الردع تمامًا، وكان لزامًا التدخل البري الكاسح المدعوم من الجو والبحر.

واجهنا مقاتلو حماس بصلابة أربكت كل مستويات جيش الدفاع، ودمرت صورة الجيش وقوة الردع التي أردنا ترميمها. مخربو حماس بعتاد متواضع مضحك مصنوع محليًا صمدوا بشكل غريب يستحق الدراسة والتحليل في المدارس العسكرية الشرقية والغربية لأخذ العبر.

فقمت بالبحث عن الجانب الأيديولوجي لهذه الحركة فوجدت أنهم يربون مقاتليهم منذ نعومة أظافرهم تربية دينية قبل التربية العسكرية الصارمة، ويلقنونهم إيديولوجية إسلامية جهادية بما يعرف بنظام المساجد. إمام المسجد هو قائد الفرقة، والمصلون خلفه هم الجنود، على طريقة المسلمين قبل 14 قرنًا.

مخرب حماس يعتقد أنه عندما يموت فإنه يحيا ويذهب فورًا إلى الجنة كما جاء في قرآنهم الذي حفظوه عن ظهر قلب، وأن أفضل طريق للموت هو الجهاد، تقاتل اليهود وأن تموت على أيديهم. إنه يقتدي بالنبي محمد الذي حارب الكفار واليهود.

إنه يستسقي إيديولوجيته من تعبئة فكرية تقوم على دراسة تاريخ الإسلام والمعارك والبطولات والفتوحات الإسلامية، مستعدون لتفجير أنفسهم دون تردد والقيام بأعمال خيالية حطمت كل النظريات العسكرية المعروفة بظروف قتال تكاد تكون مستحيلة.

إنهم يواجهون أرتال الدبابات والوحدات الخاصة والقوات الجوية بلا شيء، لا شيء بكل ما تحمله الكلمة من معنى، فتسليحهم بالنسبة لتسليح حتى أتفه الميليشيات الأفريقية الجائعة هو لا شيء، ومع ذلك فقد استطاعوا التصدي والصمود وعدم الانكسار، قتال بصورة صلبة ومدهشة.

إنها أيديولوجيتهم المبنية على التجرد من الشهوات والسمو الروحي واحتقار العدو الكافر. إنهم يقاتلون بعزة نفس واستعلاء نفسي، معتبرين أنفسهم متفوقين دينيًا وفكريًا على عدو كافر. أيديولوجيتهم تدفعهم للعمل 24 ساعة في سبيل دينهم وتحقيق المستحيل لأنهم بهذا يعتقدون أنهم يخدمون دينهم وأمتهم، وأنهم سيدخلون الجنة.

إنها أيديولوجية مدمرة ديناميكية لا تستكين ولا تهدأ، يعرفون من خلالها هدفهم جيدًا، أيديولوجية تمسكوا بها في الضفة رغم حملة الاجتثاث التي تشنها عليهم إسرائيل بالتعاون مع الأمن الفلسطيني المدرب والممول أمريكيًا وإسرائيليًا.

عندما أرى مخربًا يندفع صوب الميركافا 4 التي تشبه وحشًا فولاذيًا أسطوريًا، حاملًا عبوته، مفجرًا نفسه فيها دون أدنى ذرة تردد، أرتعب خوفًا. كيف لهؤلاء لو امتلكوا أسلحة أقوى، ولو اقتدى بهم شباب المسلمين في الدول العربية والإسلامية؟ أعترف أن هذه الأيديولوجيا هزمت الميركافا في هذه الجولة، وأنها ستكون الخطر الأكبر على وجود دولة إسرائيل.”

لقد شهد شاهد من أهلها، شاهد من فصيلة أولئك الذين قالوا لنبيهم: “… قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ …”.

ولا بأس بتكرار ما جاء على لسان الكاتب أعلاه:

“ومع ذلك فقد استطاعوا التصدي والصمود وعدم الانكسار، قتال بصورة صلبة ومدهشة…”

أَ الله أصدق أم الأسطول السادس؟ أَ الله أصدق أم الميركافا؟

الكاتب عبدالسلام اضريف

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *