قراءة للكاتبة سمية الإسماعيل لنص استنساخ للأديبة معاني سليمان


يقول كارل يونغ: “الألم الداخلي الذي لا يتم معالجته يتحول إلى سلوك انتقامي”.

في دائرتين متقاطعتين تقف البطلة في منطقة الوسط بينهما، منطقة توَلّد فيها الصراع النفسي للشخصيّة مترنحًا ما بين أبٍ لا مسؤول يتبع هواه فألغى وجودها و وجود والدتها حين راح يبني لنفسه حياةً أخرى ضاربًا باحتياجها له عرض الحائط، و زوجٍ يعيد تأريخ ما سطّره والدها، و يُعيد استنساخ شخصيّة الأب بتكرار نفس الخطيئة، هذا الصراع الذي تأجج بصورة رفضٍ و من ثم انتقام. توقد نيرانه العبارة المريرة المتكرّرة “
” وتطويني أنا ؟!”

ما بين ماضٍ استوطن ذاكرتها بعد لفظ والدها لها و لأمها من حياته:
“و تطويني أنا ماضيك!..وما ذنبي أنا لأحرم من كلمة أبي؟!…..”
و زوج عاد ليحيي هذه الذاكرة من ماضيها و ينكأ الجرح الذي ما شفي بعد..
“- ألم أكن زوجة صالحة؟ ماذا فعلت لك؟بماذا قصّرت؟”

و لكلاهما نفس الإجابة التي لا تشفي غليل السؤال المقهور :
“إنها ليست مشكلتك، بل مشكلتي أنا.”
إذًا من يرأب صدع الروح المنكسرة للمرة الثانية مرة كإبنة و مرة كزوجة و العامل المشترك في هذا الانكسار هو ” الرجل”

سيميائية العنوان
إنه تكرار يعيد إنتاج صورة قديمة بتشوهاتها الأخلاقية و القيمية، و التي تؤدي في كل مرةٍ إلى انهيار البُنى الاجتماعية بهدم أولى مؤسساتها الصغيرة “الأسرة”.

يحمل العنوان ثنائية متناقضة بين الحب والانتقام. فجملة.. “لن يحبك أحد مثلما أحببتك” ..تبدو تعبيرًا عن حب عميق، لكنها في سياق النص تمثل مواجهة مريرة بين شخصية البطلة وأثر الأب عليها نفسيًا وسلوكيًا.
يكشف العنوان بشكل غير مباشر، عن الصراع النفسي بين رغبة الانتقام والحاجة غير المشبعة في الحصول على الحب والقبول من الأب. هذا الربط يعكس عمق الجرح العاطفي الذي قاد البطلة إلى إعادة إسقاط مشاعرها المكبوتة على زوجها.

تقاطع الحدث بين الأب /البطلة/الزوج

يقول سيغموند فرويد: “تكرار الصدمة غير المحلولة في العلاقات يُظهر الحنين إلى الماضي المكبوت”.

يتقاطع سلوك الأب في الماضي وسلوك الزوج في الحاضر من خلال التكرار النفسي لسوء العلاقة وانعدام التقدير. الأب هجر ابنته وسحق دورها في حياته، بينما الزوج قرر إنهاء العلاقة، متخذًا قرارًا مشابهًا بالابتعاد دون تحمل المسؤولية العاطفية. هذه الديناميكية تشير إلى نمط سلوكي متكرر في حياة البطلة، حيث يتمثل الرجل في حياتها دائمًا كـ”الهاجر” الذي يطويها مع ماضيه.

هذا التقاطع كما أسلفت سابقًا أذكى حدّة الصراع النفسي في أعماق شخصيّة الابنة / الزوجة بين الرفض والانتقام

و قد تمثّل الصراع النفسي لدى البطلة في محاولتها فهم موقف الأب والزوج، فتصطدم بنفس الإجابة المقيتة ..” إنها مشكلتي أنا”.. هذا الرفض ولّد لديها شعورًا بالضياع وعدم القيمة، مما دفعها للانتقام كتعويض عاطفي، تختار الانتقام كوسيلة لإثبات ذاتها واستعادة كرامتها. لكنها تبقى عالقة في دوامة الجروح النفسية الناتجة عن هذا الصراع.

الشخصيات وعمقها النفسي

الشخصيات متقنة البناء النفسي. البطلة تمثل شخصية معقدة، تمزج بين الضعف الداخلي والقوة العدوانية. الأب والزوج هما شخصيتان ثانويتان لكن لهما أدوار أساسية في تكوين صراعات البطلة. عُمق هذه الشخصيات يعكس دراسة نفسية دقيقة للصدمات العاطفية وتأثيرها على السلوك.

البعد النفسي للشخصيّة الابنة/ الزوجة

إريك فروم: “الحب هو الحاجة الأولى للإنسان، وغيابه يولد الفراغ الداخلي”.

إن الظلم العاطفي الذي عانته البطلة في طفولتها ترك جرحًا عميقًا انعكس على علاقتها بالآخرين. شعور الحرمان من حب الأب أضعف قدرتها على بناء علاقات صحية. بالتالي، أي رفض لاحق يتم تأويله كإعادة للصدمة الأولى، ما يؤدي إلى تصرفات غير متزنة كفعل القتل، الذي كان انعكاسًا لعدم قدرتها على مواجهة الماضي بشكل صحي.

لذلك نرى أن الصراع يدور حول سؤال الهوية والانتماء العاطفي.. “لماذا لا أستحق الحب والقبول؟” .. فالبطلة تواجه معضلة بين السعي لفهم السبب وراء الرفض من جهة، ورغبتها في الانتقام وإعادة السيطرة من جهة أخرى. هذا الصراع الداخلي يتمثل في تناقض واضح بين الحب المفقود والرغبة في التخلص من مصدر الألم.

البعد النفسي لشخصيتي الأب و الزوج

يظهر الأب كشخص يعاني من انعدام النضج العاطفي.. ” حينها لم أكن أبًا ناضجًا، اقترفت الكثير من الأخطاء “.. مما دفعه إلى التخلي عن مسؤوليته كأب والسعي لـ”بداية جديدة”. هذا السلوك قد يكون ناتجًا عن صدمة شخصية أو أنانية عاطفية.
أما الزوج، فهو يمثل شخصية مستقلة لكنها تتشابه مع الأب من حيث اتخاذ القرارات دون مراعاة الأثر النفسي على الشريك. يقولها و كأنه الوحيد معنيّ بهذا الأمر ،..”- لقد قررت وانتهى الأمر …” و كأنها سقط متاعٍ ..

فكرة الانتقام

الانتقام في القصة ليس مجرد فعل عدواني، بل هو تعبير عن محاولة البطلة ربما للقفز فوق الخسارة التي منيت بها و إعادة ترميم كيانها المتصدّع. ومع ذلك، يبقى الانتقام غير مكتمل من الناحية النفسية لأنه لا يعالج الجرح الداخلي، بل يعمقه، فهي قتلت زوجها فعليًا بينما أرادت بذلك قتل والدها ضمنيًا.

“نظرت إليه ببرود، عيناه قد جحظتا وتدلى لسانه، وقلت بينما كانت يدي تجفف تعرق جبهته

  • لن يحبك أحد مثلما أحببتك ياأبي”

الحبكة
تسير حبكة النص بأسلوب تصاعدي متنقلةٍ بعملية السرد ما بين الماضي والحاضر بطريقة مترابطة. تبدأ الأحداث بهدوء نسبي ثم تتصاعد التوترات حتى تصل إلى الذروة، حيث تقرر البطلة الانتقام من الزوج، و هي هنا إنما كانت تقتل والدها الذي لم تستطع قتله فعليًا؛ مما يشكل النهاية المأساوية والانعكاس النفسي العميق الذي يربط القصة ببعدها الرمزي.

تقنيات السرد
القصة اعتمدت على أسلوب التداعي الحر والتنقل بين الأزمنة (فلاش باك). السرد بضمير المتكلم جعل الأحداث أقرب إلى القارئ وجعل الألم النفسي للبطلة ملموسًا. الوصف التفصيلي أضفى عمقًا عاطفيًا على القصة، بينما الحوار استخدم لتسليط الضوء على جوهر الصراعات.

كما استخدمت الكاتبة تقنية التوازي السردي، حيث يتم الانتقال بين ذكريات الماضي والمواقف الحالية بطريقة تظهر التطابق بينهما. هذا التداخل يعزز فكرة أن معاناة البطلة في علاقتها مع الأب تشكلت مجددًا في علاقتها مع الزوج، مما يبرز دور الذاكرة في تشكيل الحاضر. السرد تميز بالوصف الحسي الدقيق، مما جعل القارئ يشعر بثقل المعاناة التي تعيشها البطلة.

الخاتمة
جاءت مأساوية ومفاجئة، تعكس ذروة الصراع النفسي والانهيار النهائي للبطلة. جملة “لن يحبك أحد مثلما أحببتك يا أبي” في النهاية تربط القصة كاملة بجذر الألم، مما يجعل القارئ يعيد التفكير في كل تفاصيل النص. الخاتمة قوية ومفتوحة، تُثير التساؤل حول ما إذا كان الانتقام قد جلب أي نوع من الراحة للبطلة

استنساخ

إنه موعد رجوعه من العمل.. المائدة جاهزة.
فَتح الباب، نظر إلي بابتسامة متكلفة

  • مساء الخير؛ لقد كان يومًا طويلًا!.. رائحة الطعام شهية
    أزاح الكرسي وجلس، سكب الحساء في طبقه، وراح يتناول طعامه بصمت، بينما أنا أتأمله وذهني يستعيد ما مضى، بل يخلّقه من جديد ..ذرةً ذرة…. كأنه …هو !

ذُهل عندما رآني أظهر أمامه من العدم، وكأنني شبحٌ عائدٌ من الماضي؛ كانا خارجين من محل الألعاب، تمسك بيده و هي ترتدي معطفًا صوفيًا أبيض اللون أنيقًا وقبعةً من الفرو، وتحمل لعبة مغلفةً بورقٍ ملونٍ جذاب.
اقتربت منه وسألته

  • مامشكلتي أنا؟ لماذا تحبها هي وهجرت أمي وأضعتني؟!
    اقترب مني وقال
  • صغيرتي؛ أنها ليست مشكلتك، بل مشكلتي أنا..حينها لم أكن أبًا ناضجًا، اقترفت الكثير من الأخطاء، لذا..كان علي البدء من جديد .
  • وتطويني أنا مع ماضيك!..وماذنبي أنا لأحرم من كلمة أبي؟!…..

بادرته : مامشكلتي؟..
رفع رأسه عن طبق الحساء، وتأملني مندهشا..أكملت

  • ألم أكن زوجة صالحة؟ ماذا فعلت لك؟بماذا قصّرت؟
    توقف عن الطعام، ورجع بجذعه إلى ظهر الكرسي، ونظر في عيني في استغراب، ثم قال بثبات انفعالي وبنبرةٍ حادة
  • لقد انتهينا من الجدل في هذا الموضوع، حاولنا كثيرًا أن نصلح الأمر وفشلنا، صدقيني هذا لمصلحتنا نحن الأثنين
    سكت لبرهة ثم أردف بنبرةٍ آتية من كهف عميق جاف
  • إنها ليست مشكلتك، إنها مشكلتي أنا، أحيانًا يتوجب على المرء أن يبدأ من جديد
  • وتطويني أنا؟!
    أجاب بعصبية
  • لقد قررت وانتهى الأمر …
    لم يكمل جملته وأنا شاخصة إليه أترقب
  • ماخطب هذا الح.. س.. ا ..ء ؟
    كنت أمتع عينيّ برؤيته وهو يتلوى أمامي على الأرض، ويلفظ انفاسه الأخيرة؛ نظرت إليه ببرود، عيناه قد جحظتا وتدلى لسانه، وقلت بينما كانت يدي تجفف تعرق جبهته
  • لن يحبك أحد مثلما أحببتك ياأبي

الكاتبة سمية الإسماعيل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *