دلالة العنوان:
جاء العنوان اسما مفردا “تمشهد” على وزن تمفعل وهو من الاوزان النادرة واسم الفاعل منه متمفعل ويرد هذا الوزن في افعال مشتقة من اسماء بعضها شائع في المشرق والمغرب العربي ويتضمن معنى الافتعال والاصطناع ، يتمحور حول عملية ممسرحة للتغطية على جريمة في حق الانسانية .
انطلاقا من العنوان ومن بعض اللوازم الفنية مثل الشخصيات “هند” والجنود والسارد والاحداث مجسمة بالافعال والفضاء (داخل السيارة) والشارع والحوار والسرد والمساحة يمثل النص الماثل امامنا قصة قصيرة تعالج حادثة قتل مدنيين عزل قصديا والتمثيل بجثثهم في عملية اجرامية شنيعة .
ابعاد الحدث :
يسرد الراوي قصة الطفلة “هند” التي يقتل والدها وعمتها وامرأة أخرى امام عينيها داخل سيارتهم في الشارع من قبل جنود الاحتلال لتبقى هذه الطفلة في وضع حرج تطلب النجدة من الطوارئ بواسطة هاتف ملوث بالدم ولكن للأسف لا تتلقي أي مساعدة لوجود جنود الاحتلال بالمكان وثانيا لعدم تمكن الطوارئ من تحديد مكان السيارة ،كما يتعرض السارد الى وصف العملية الشنيعة الثانية المتمثلة في التمثيل بالجثث وقتل طفلة بريئة بدم بارد وانعدام أي حس إنساني، وتصوير العملية تلفزيا لبثها بعد قيامهم “بفبركة” المشهد ليظهر وكأنه عملية ضد الإرهاب .
بناء على ذلك يتضح أن أحداث هده القصة تنطوي على أبعاد متعددة منها تجاوز الاحتلال لكل المبادئ والأعراف وحتى القوانين الدولية التي تمنع قتل المدنيين العزل والأطفال والتمثيل بالجثث ، كشف معاناة شعب تحت الاحتلال ،فقدان القيم الإنسانية والأخلاقية لدى جنود المستعمر (التصويت على قتل الطفلة هند) ،استعمال جنود الاحتلال طرقا وأساليب دنيئة للتغطية عن جرائمهم ضد الإنسانية في ظل غياب نظام عالمي عادل ومنصف .
الشخصيات:
بنيت هذه القصة على شخصية محورية ممثلة في “هند” وشخصيات ثانوية أخرى ،والدها ،العمة فاطمة،رباب ،السارد واصوات طيفية كصوت الكاتب وضميره ،وجنود الاحتلال ،وبحكم مركزية شخصية هند فإننا سنقوم برصد خصائصها فهذه الشخصية تمثلها طفلة تسمى هند تعاني الرعب والهلع بسبب ما عاشته من حادثة شنيعة تجسدت في قتل أفراد من عائلتها أمام عينيها ،امتازت بالنباهة والفطنة والجرأة ( تحاول الاتصال بالطوارئ بواسطة هاتف ملطخ بالدماء ) والبراءة والعفوية (تظن أن والدها وعمتها تخلوا عنها) .
الجنود : يقتلون الأبرياء والأطفال بدم بارد ويصوتون على قتل طفلة ،هذه الأفعال لا تصدر إلا عن ذوات إجرامية وقلوب متحجرة وعقول تخلت عن آدميتها وإنسانيتها .
عون الطوارئ : يحاول بكل جهده التواصل مع الطفلة هند لتحديد مكان القتلى ، يريد مد يد المساعدة وإنقاذ هؤلاء المحتاجين للمساعدة ، فهو يتحلى بمبادئ مهنة عون الطوارئ وبالحس الإنساني .
الشخصية المتابعة للحدث بواسطة التلفاز : شخصية غير مشار كة في الأحداث ،تشاهد الحدث ،ولا تستطيع تغيير القناة .
الكاتب :شخصية تنفعل بما تشاهد من مأساة (كاد عقلي ان يتشتت،تتزاحم الافكار ولا شيء يلجمها يوقف اندفاعها الهادر) .
الذات او الضمير : يقوم بانتقاد الكاتب فيما تخيله .
الفريق التلفزيزني : يقوم بتصوير مشهد مصطنع ومموه للتغطية على جريمة نكراء وتوجيه الرأي العام باعتبار العملية تصديا للإرهاب .
تفاعل الشخصيات :
شبكة العلاقات تتمركز حول الشخصية الرئيسية هند اولا مع أفراد عائلتها المقتولين تتميز بالتعاطف والهلع لمقتلهم نظرا للروابط الأبوية والعائلية التي تجمعهم بها فهذا والدها المنكفئ على مقود السيارة تحاول إيقاظه وتستنجد به (بابا .. ذراعي يوجعني ينزف دما رد علي ) كما تحاول تحريك عمتها ورباب بدون جدوى فــ ( تكتنفها الوحشة والقلق وينخرها التوتر ينضح جسدها الما ) ، أما علاقاتها مع الجنود فهي عدائية من قبلهم تتسم بالخوف والهلع فعندما يحيطون بالسيارة (تفقد السيطرة على اعضائها يزداد الجو برودة يهضمها الرعب ولا يبقي منها شيئا شاخت وبلغت عامها الألف أدبرتها معالم الطفولة ).
علاقة الطفلة هند بعون الطوارئ علاقة خدمات services إلا أنها لا تخلو من تعاطف وإرادة قوية في تقديم الخدمة ومد يد المساعدة (بقايا صوت زاعق بالهاتف،تصرخ هند :أنقذونا )
علاقة القتلى بفريق التصوير التلفزي علاقة تمثيل أرادها المحتل لتبرير جريمتهم.
كل هذه العلاقات بتفاعلاتها ساهمت في دينامية الأحداث وتصاعدها سرديا .
الفضاء القصصي (المكان والزمان)
المكان :
من منطلق انه لا يمكن تصور أحداث ووقائع وشخصيات تتفاعل خارج إطاري المكان والزمان ،لهذا اختار السياق العام للقصة أن تدور في مكانين اثنين أحدهما مغلق والآخر مفتوح .
المكان المغلق : السيارة بمساحتها وفضائها الداخلي الضيق وانغلاقها على نفسها ذات دلالة سلبية وإيحاء بمحدودية الحركة وانعزال ما بداخلها عن الخارج وقد مثلت المثوى الأخير لعائلة بعد قتل جميع أفرادها .
المكان المفتوح : الشارع الذي توجد فيه السيارة تحول من فضاء للحرية والتواصل الاجتماعي والعلاقات الإنسانية ومصدرا لكثير من المستلزمات الحياتية إلى مكان خطير يتسم بالعدوانية والشر ( قتل ، دمار البنى التحتية ، الخ …) .
وقد استوعب المكان المفتوح المكان المغلق فصار شبيها بوحش التهم ضحيته (السيارة) .
الزمان :
الزمن في هذا النص يمكن استشفافه ببعض المؤشرات فقط اذ لم نعثر على عبارات صريحة في ذاك ، ويمكن معالجة ثيمته باعتماد ثنائية القصة والخطاب ،فزمن القصة يتمثل انطلاقا من بعض الأحداث والمشيرات الزمنية ،فالراجح ان الواقعة حديثة العهد او متزامنة ( فالدمار الكبير في البنية التحتية وتوظيف الإعلام ونوعية السلاح المستخدم “المركافا ” والقتل الممنهج ) ربما هي من وحي ما يدور حاليا في غزة ودلالة أفعال الحكي تدل ان هذه الجريمة حدثت في وقت قصير واثناء النهار فهند لم تعدم الرؤية داخل السيارة في بحثها عن الموبايل فلو كان الوقت ليلا لصعب عليها العثور عليه وكذلك مشاهدة المباني المهدمة ،كما ان الفريق التلفزي المكلف بتصوير المشهد “المفبرك” لم نقرأ ما يدل على استعماله للإضاءة الليلية .
كما أن النسق الزمني كان خطيا متصاعدا وقد خلا من تقنيات التقديم والتأخير المتمثلة في الاسترجاع والاستباق والحذف الا فيما ندر ( لم يذكر حدث قتل هند بعد التصويت على ذلك ،بل فهمناه من الجملة : قبر من الصاج يضم بين جنباته جثامين ،أطلقت الدبابة سيلا من الدانات تجاه السيارة التي تضم هند فتشظت بمن فيها .
اما زمن الخطاب/السرد فلم يستغرق من الكاتب أكثر من صفحتين اثنتين ،وقد اشتمل على مجموعة من التقنيات الزمنية ممثلة في الحوار بين هند وعون الطوارئ او بين السارد وذاته وكذلك نداؤها لابيها (بابا .. ذراعي يوجعني…) أو المونولوغ المنبثق بداخله يصف حالته النفسية ( كاد عقلي ان يتشتت تتزاحم الأفكار الخ…) وهي أساليب وتقنيات من شأنها تعليق السرد والحركة او تبطيئها وهو ما ينعكس على زمن الخطاب .
عناصر السرد وتعدد الاصوات السردية :
لكل عمل سردي سارد يقدم عمله للقارئ ويأتي بواسطة رؤية سردية معينة وفي النص الذي بين أيدينا تبينا أطيافا او أصواتا بوليفونية تتدخل سرديا ،فقد طالعتنا منذ بداية القصة شخصية سردية تتمثل في شخص يتابع الحدث بواسطة جهاز التلفزيون (لا يمكنني تغيير مؤشر القناة ،أسمع الاستغاثة…) ،ثم تنبثق شخصية طيفية تصف البيوت المنهارة وتشاهد هند داخل السيارة بل وتعلم ما في نفسها أيضا (تود أن تلهو) وقد يكون هذا الطيف صوت الكاتب نفسه ،إلا أن صوتا آخر يتدخل في الحوار لينتقد الأخير واصفا إياه بالعقم “أهذا ما تخيلته؟ بالطبع لحق العقم بخيالك …) هذا الصوت يمثل ذات الكاتب أو ضميره في حوار داخلي نفسي وفي جملتين من حوار يتوجه الكاتب بسؤال للقارئ سائلا إياه :”بالطبع تخمن ما سيؤول اليه المشهد …؟ ويجيب هو بنفسه :”لكنك لا تعلم يقينا أن أحفاد السامري صوتوا على قتلها من عدمه؟ .
بهذه الأصوات السردية أمكن نقل مواقف الشخصيات ورؤاها تجاه الأحداث التي تواجهها ،كما كشفت الحالات الشعورية والنوازع النفسية لهذه الشخصيات وقد أضافت أبعادا فنية ودلالات جمالية في القصة .
الأسلوب واللغة :
استعمل الكاتب لغة سهلة وواضحة مقتصدا فيها ،فلا حشو ، ولا إسهاب ممل ،في جمل متجردة من الزوائد وكانت الحركة هي الغالبة على النص ولا أدل على ذلك من الاستهلال الدينامي الذي بدأه بعملية اتصال هاتفي بالطوارئ من الطفلة هند للإبلاغ عن عملية القتل ،كما وظف الكاتب بنجاح تقنيات فنية ساهمت في توفير المستلزمات الحداثية في السرد منها تعدد الاصوات وبناء مشاهد سنمائية والحوار المباشر والداخلي .
الا أن نجاح الكاتب في بناء قصته لا يجعلنا نغض الطرف عن بعض المسائل اللغوية،فقد وردت بعض الكلمات غير واضحة المعنى كـ : “الشوف” مثلا أو استعمال كلمة السكوت بدل السكون وهي ادق واعم باعتبار ان هناك بالاضافة الى صوت هند اصوات الطلقات ، لحظتئذا بدل لحظتئذ (وهو خطأ كتابة اعتقد) ،على مبعدة مئة متر بدل على بعد مئة متر ،كومات بدل أكوام او كُوَم او كَوْم ، المسجى بدل المنكفئ او المنحني او النائم فوق عجلة القيادة (فالمسجى هو الميت المغطى برداء ) ، ملقتان بدل ملقاتان ،ابدى رغبته لقتلها بدل ابدى رغبته في قتلها ، ليبدوا (البرميل) بدل ليبدو ،شنطة السيارة بدل صندوق السيارة، يمتشق سلاحا بدل ليحمل سلاحا ( امتشق السيف استله من غمده) ،ابدى رغبته لقتلها بدل ابدى رغبته في قتلها .
خـــــتامـــــــا :
انبنت هذه القصة على وحدة الحدث ووحدة الشخصية ومحدودية الزمن والمكان وتعدد الرؤية السردية ضمن بناء سردي موحد يسير في خط سياقي متصاعد وبنية لغوية واسلوبية جيدة عالج بواسطتها موضوع مآسي الاحتلال الصهيوني في الاراضي الفلسطينية والانعكاسات الاجتماعية والنفسية للانسان الفلسطيني ، وهو بهذه القصة الناجحة يوثق ادبيا وفنيا للمأساة التي يعيشها شعب تحت الاحتلال في ظل نظام دولي لا يعير ادنى اهتمام لما يكابده الشعب الفلسطيني من ويلات واضطهاد .
الكاتب أحمد الفهيري