أولا : القصة
شغف العتمة
في صباحٍ شتائي عاصف، حيث سيول المطر تجرف معها مخلفات الإنسان والأشجار نزل الرجل السبعيني من شقة متواضعة تعكس سنوات من العزلة والروتين القاتل. متوجّها الى أقرب منفذ لاستلام الراتب التقاعدي وبخطوات وئيدة تعكس ضعف توازنه، وخشيته من حركة السيارات والعربات ، وهي تزحفُ كالأشباح بمختلف الاتجاهات ، يحاول التركيز في اللحظة التي يعيشها الآن ، لكنّ الذكريات تطارده وأحيانًا يغيب في زواياها الضائعة فيجول في خياله بحثًا عنها دون جدوى.
لم يستجب جهاز الصرف الآ لي بعد إدخال الرقم السّري ، ليتبيّن بعد لحظات أن البطاقة الإلكترونية تحتاج إلى تحديث ، لحظات تمناها لو أنها تستمر إلى ماتبقّى من عمره المشرف على الانتهاء ، أرادت موظفة المنفذ مساعدته بتجريب بصمة إصبعه بدل الرقم السّري ، وحين لمست كفه الباردة رقّ قلبها له فوضعت ظاهر كفّه بباطن كفيّها لتدفئته وتجربة محاولة البصمة لأنها توقعت انها لم تنطبع بسبب برودة إصبعه ، كانت لحظات ، أشعرته بنشوة الحياة ، وحين استرق النظر إلى وجهها الأبيض اخترق شعاع عينيهاالآسر شغاف قلبه، تأمل بعينيها كأنما ينظر إلى مرآة تعكس جزءًا من نفسه
التي فقدها في زوايا الماضي. كانت تلك اللمسة قصيرة، لكن تأثيرها كان عميقًا، وسرت في جسده رغبةٌ غامرة بالحياة.وتمنى لوأنّ تلك اللحظات تستمر دون انقطاع. لكنّ فكرة مرعبة داهمته بسؤال:
_ كيف يمكن للشيخوخة أن تأخذ منك جزءًا من روحك، بينما شغفك بالحب لا يزال متقدًا؟
_ في تلك اللحظة، اهتز كيانه، فتذكّر زوجته التي خفتت روحيًا وانغمست فيما يتحمّل كاهلها الضّعيف من أعمال منزلية مستمرة كإعداد الطعام ،غسل، مسح ، وكنس حتّى آخر النّهار ، وفي الليل يحل عليها التعب فتنام مبكرا. ولاترتاح عند هذا الحد حتّى يتعالى شّخيرها في أعماق الليل….
في أعماق الليل، حيث تتراقص الظلال على جدران غرفته، يجلس متربعًا على حافة الفراش، يُعلّق نظراته في النّور الشاحب المنبعث من مصباح قديم يضيء المكان بصورة خافتة، كما لو كان يتوسل أن يكشف عن خفايا الحياة التي عاشها.
تدور الأيام في معاركها، و زوجته النائمة تجسد التعب المفرط، في ترانيم صوت شخيرها، صوت يشبه الأنين في تأثيره ،عميقٌ يعبر عن جهدٍ يومي متواصل. كان يحترمها لذاتها، يراها كملكةٍ تهرع لتلبية
احتياجات مملكة منزلية واسعة، لكن روحها غفلت عواطف زوجها وتعلّقه بالرغبة، تاركة وراءها ضبابًا من الإرهاق.
“وماذا عني؟” همس في نفسه، متروكٌ أنا على أعتاب خيالٍ من الشوق. لم يكن بوسعي إلا تذكر الأوقات التي كانت فيها نغمة ضحكاتها تملأ الأجواء، تُعزف على أوتار الأمل. إلا أن الليل قد أرخى سدوله، وتركني في براثن الوحدة، حيث كان الشخير بمثابة حجابٍ يحجب الحياة التي كنتُ أرغب في عيشها.
استشعر تلك الرغبة التي بقيت كامنة، شغفًا ببضع لحظات أخرى من الود، كانت ردود فعل بعيدة عن مشاعر الفقد. في لحظة، اختلج قلبه بالحنين حين أدرك أنه حتى في ظل تلك الضوضاء ، كان حبهما يمثل أغنية غامضة لا تنتهي، حب يعبر خطوط الزمن، ويستمد قوته من الصبر والتفاني. ومع كل أنة متعالية، تتعلق روحاهما برغبة واحدة، ليست مجرد اشتهاء، بل حاجة عميقة للاتصال. يُمررُ عينيه على وجهها، مستغرقًا في تفاصيل تلك الملامح التي ألفها، بينما كانت أفكاره تستحضر ذكريات أحضانٍ دافئة همس فيها القلب.
كانت تنام بعمق في عالمٍ من الأحلام، غارقةً في عتمة الليل، تاركةً إياه في عراكٍ مع رغباته وأشواقه التي تبدو وكأنها غبارٌ عابر، تلاشى في خريف العمر.
اسماعيل الرجب
الكاتب أحمد طنطاوي