الرمز بين الأدب والطب النفسي في المونولوج؛
يجذبنا العنوان البراق ليرة ذهب، يقذف بنا في سوق العملة/بين التهكم و التثمين. نقرأ كأدباء متمرسين و قراء وعاة بدور العنوان الإغرائي لرصد الممدوح أو المذموم دون استسلام للمعنى الظاهري للمفردتين في ذاك المركب النعتي حين يؤكد النعت قيمة منعوته و إبعاده عن حقله الدلالي النقدي نحو الحقل السوسيولوجي والمنطوق الشعبي في تثمين قيمة الرجل أو المرأة من خلال صفاته الخِلقية أو الخُلقية أو النسب أو المستوى المادي…
بعد العنوان يضعنا الكاتب في دائرة الشك حين يدخل الحيرة في استهلاله المؤجج للتأويلات و الاستطرادات من خلال الجملة الاستفهامية عن المفعولية ماذا سأقول…؟
حوار باطني تشرك فيه البطلة قراءها هذا العالم الباطني فنلج بؤرتها الداخلية نقرأ ذاك المستقبل القريب الذي تخشاه في المصحة العقلية، فهل هي تخطط للتنصل من الجريمة أم لادعاء الجنون؟ هل هي مجرمة أم بريئة؟
يظهر أنها هي ذاتها لا تعرف الجواب وتركت الباب مواربا لكل الاحتمالات.
نلج دائرة الصراع في النص وأراها قد حافظت على التركيبة الهرمية ( الثلاثية)
الشخصيات :
الزوج و الأم في صراع مع الزوجة
الزوج والمحقق في صراع مع الزوجة
المحقق والطبيب في صراع مع المتهمة
الطاولة في صراع مع كرسيين كما وصفت في لقائها بالمحقق
إذا نحن مع شخصية مرضية ترفض الآخر بشهادة أمها التي ترى الزوج ” ليرة ذهب ” لكنها تتهكم تتقزز من وجوده في حياتها كشيء ثانوي للمتعة الذاتية لا الثنائية، متى أحب هو لا متى شاءت هي.
أربكنا النص ولم نعد نعرف إلى أي صف نصطف باعتبار الصراع الأزلي الأنثى/ الذكر في استحضار دائم لثالثهما إبليس و وسوسته. وقد حضر التناص بوضوح مع النص القرآني وقصة آدم والتفاحة، فأي جنة خرجت منها الزوجة وهي كما تدعي لم تطأها؟ ربما جنتها قبل الزواج أو قبل التفكير في فعل القتل لتحيلنا من فكرة الطلاق الصامت بين الزوجين عاطفيا تواصليا إلى فكرة الزواج القاتل عاطفيا وعقليا ليبلغ حد التصفية الجسدية كثأر للذات التي حاول طمسها الزوج المتغطرس.
الرمز الذي صعّد الأحداث في هذا النص” الساعة “
انطلقت من رمز للأناقة و الشياكة إلى رمز للسلطة و القضاء وانتهت كرمز للحرية، اختفت الساعة وحل البياض / العدن
لم يعد شيء يخيفها، يهددها، يحاول اغتصابها، عملية قتل الجسد في هذا النص أعاد للمرأة رشدها كي تفكر في حقيقة وجودها. عادت صفحة بيضاء، تحاول ملأها من جديد، تحبيرها باستعمال اللون الأحمر رمز الخطر/ الحب، حب الذات، حب الحياة وككل مرة نرى الحرية لا تسترد إلا بالدماء .
قالت في مونولوجها : هل سيتحملون الحقيقة؟
هي مالكة الحقيقة، راشدة، واعية،ستشكلها كما تريد، تخطط ” سأقول… فهل يكون كل النص تخطيطا لجريمة لم تقع إلا في خيال الزوجة المرهقة المتوترة؟
باعتبارها في مصحة الأمراض العقلية كما ذهب في ظننا من خلال الغرفة البيضاء واللباس الأبيض الذي يمكن أن يكون إحالة أو استرجاع لحادثة زفافها ،
ستقول ما تريد،
تردف ” هل كانت بيننا مشاكل؟ ” جملة فارقة في العلاقات،
هذا الاستعداد للتحقيق محاولة لتضليل العدالة،
وترسيخ لفكرة أن النساء كيدهن عظيم، تقتل اثنين وتحاول الإيقاع بالثالث وكأن الكاتب يدافع عن بني جنسه من الذكور، بتشويه هذه المرأة القاتلة الماكرة حيث أنه لم يذكر عيبا للزوج من خلال الأحداث و ما تطلقه الأم عليه كونه من العيار الثقيل ليرة ذهب.
قضية مسكوت عنها هذا الصراع الخفي الصامت بين الزوجين لا يجمع بينهما أي توافق يجعل التواصل بينهما منعدما يؤول إلى جحيم.
يحضر معجم الحرب تصاعديا في النص ليكشف البنية النفسية لهذه الزوجة من خلال ما ورد على لسانها كساردة تبوح للقارئ بهواجسها من خلال الحقل الدلالي المرصود:
حطام، جراح، مغتصبا، مخالب، تنغرس، اجتاح، سيطرت، الدماء….
حرب انتهت بالإثم (الاعتداء الجنسي/ النفسي/ الجسدي…
فهل هذا كاف لتبرئتها؟
لماذا أسمعنا الكاتب صوت الجانية و أخمد صوت البقية، لماذا حمّلها وحدها الذنب و تستر على المجني عليه؟
باعتبار الكاتب رجل تقمص دور المرأة بمهارة و أخرج صدى أحزانها في حين أخرس الزوج فهذا يجعل الحبكة متقنة عالية الجودة تخفي أكثر مما تكشف و تغري بالتفكير والتأويل الأدبي و العلاجي و القضائي….
في الختام هنيئا لهذا النص بالفعل ليرة ذهب و يستحق ألف ليرة ذهب لرصد لحظة خاطفة من حياة متهمة أرهقها التفكير كما أرهقنا البحث عن مداخل للنص،
بورك القلم المبدع.
القصة
…ليرة ذهب…
- ماذا سأقول لهم؟
ظلَّ ذلكّ السّؤالُ يتردّد في ذهني وقتًا طويلاً، أو هكذا قدّرت:
- هل سيتحمّلون الحقيقة؟……. أشكُّ بذلك.
Elking, [14.07.2024 10:45]
البياض المحيط بي من كلّ اتّجاه مقلقٌ ومثيرٌ للأعصاب، بدلة الأكتاف بيضاء أيضاً، شعور الجنين المحاصر ينتظر ولادته يلازمني بكلّ مخاضه.
هذا الوضوح والنّقاء المنفّر يجتاحني من كلّ الجهات، سأصبح حمامة سلامٍ إذن… لا ضير، وعندما يأتي الطّبيب سأقول له :
_عندما أدخلوني إلى المخفر انتبهت، كانت دوامةُ البكاءِ ما زالتْ عالقةً في عقلي فذهلت عن كلّ شيء، نظرات رجال الشّرطة المتعاطفة بعثت لي بطوق نجاة قذر انتشلني من تلك الدّوًامة الجميلة، شعور الشّفقة و العطف هذا مقرف.
صدًقني يا سيًدي، زوجي لم يكن رجلاً عاديّاً، هل رأيت رجلاً كاملاً من قبل! إنّه زوجي، عملة نادرة أو كما كانت تقول أمّي (ليرة ذهب).
- هل كانت بيننا مشاكل ؟
و هل يخلو بيت منها يا سيًدي. دعنا من هذا ولأخبركَ ما حدث معي في (المخفر).
عند وقوفي أمام الضّابط اجتاحتني رغبة عارمة لأمدَّ رجليّ قليلاً و لأشرب فنجان قهوة.
أرى ابتسامتك، يا سيّدي! أعلم أنَّ هذا شيء غريب، لكن هذا هو ما حصل، فأنا لا يستقيم يومي دون تلك اللّحظات المسروقة، أمدً فيها قدميً و أحتسي حُطامَ قهوتي فتلتئم جراح اليوم.
عند وقوفي أمامَ المحقّقِ لم أنتبهْ لهُ أوّلَ الأمر، كانت الغرفةُ مكيّفةً، يا سيدي، و البرودة لذيذة، طالعَتْ عيناي أثاثَ الغرفةِ البُنّيّ المُزخرف، كرسيّا ضخمٌا و طاولةٌ تشابهه ضخامةً و كرسيّين توزعا على طرفي الطاولة، بينهما طاولة قهوة قديمة، سجّادة إيرانيًة تداخلت فيها الأشكال حتّى أصبحت شجرة خضراء تتدلّى منها حبًات التّفّاح الطّازجة قانية اللّون.
كانت الجنّة، يا سيدي، لا ينقصها شيء.
عندها اجتاحتني عينا المحقّق، نحن النّساء، يا سيدي، لنا علم لم تحيطوا به، فنعلم من عين النّاظر إنْ كان عاشقًا أو طيبًا أو ذئبًا مغتَصِبا.
ذلك المحقّق كان الأخير، شعرت بعينيه تستبيحان جسدي و بمخالب شهوته تنغرس في عقلي.
رفعَ يدَهُ يَعبثُ بِشارِبِهِ الطَّويلِ، فلاحَتْ ساعته كشيطان عملاق، أشَحْتُ وجهي بعيدًا عنه.
أنا لا أحبّ السّاعات، يا سيدي، كانت تلك سبب مشاكلي مع زوجي، لن تجد ساعة حائط واحدة في البيت، حتى هاتفي عملتُ المستحيلَ لأخفي ساعته فلم أفلح، جُلَّ ما استطعت فعله هو تصغير أيقونته حتى لا تكاد ترى.
زوجي، يا سيدي، رجل أنيق. هل قلت لك هذا!؟ لا أدري ولكنّه رجل أنيق جدًّا و لمْ يقتنع أبدا بتجاهل ارتدائها من أجلي.
وعندما أخبرته تجاهلني، يا سيدي …. تصوّر!
التّجاهل جحيم يبتلع النَّفس، يا سيدي، لكنّني ابتلعت ذلك على مضض، فهو رجل (ليرة ذهب) كما تلحُّ أمّي دائمًا.
- أريد أن أجلس!
أخبرتُ المحقّق بذلك متجاهلة عينيه وساعته.
ابتسم ثم أشار بيده موافقاً.
أدركُ سرَّ ابتسامتِهِ، يريدُ استدراجي لأوافقَ على ما يضمره في نفسه الدَّنسة، لكنّني جلستُ ممتنّة، أرحتُ قدميّ، الاسترخاء يعزف لحنًا هادئًا يسري في كلِّ جَسَدي المُنْهَك، كلُّ ما ينقصني الآن هو فنجان قهوة.
لو حضرَتِ القهوةُ ذلكَ اليوم لاختلَفَ كلُّ شيء، يا سيدي! لما وجدتَني هنا في هذه الغرفة البيضاء الواضحة.
صدّقني، يا سيدي، لم أفهمْ جملةً واحدةً ممّا قاله المُحقِّقُ، لقد سيطرَتْ عليَّ تلك السّاعة الشّيطانية و فنجان القهوة.
تك… تك …تك … تك…
حاولت أن أهربَ داخلَ نفسي ولم أستطعْ، عينا ذلك الذئب المغويّ تحاصرني و عقارب ساعته و غياب القهوة سيطرت على كياني كاملاً.
عندما دخلوا غرفة التّحقيق، كنتُ واقفةً على تلك الطّاولة الضّخمة و بيدي طاولة القهوة الصّغيرة مُلطخة بالدّماء.
أنفاسي اللاّهثة تسكت حشرجات صوت المحقّق الخافتة و صوت السّاعة الصّادح.
لا أدري كيف وصلت هناك و مَنْ وضعَ الطاولةَ في يدي؟!
و لا أدري، يا سيدي ، كيف اختفتْ من يده الساعة؟!
الكاتبة سيدة بن جازية