قصائد “أنا وليلى” للشاعر موسى أبو غليون للكاتب والناقد رائد الحواري

فاتحة القصيدة تأخذنا إلى الشعر العربي القديم حيث تفتح القصيدة بالتحديث عن المرأة، وكأن العرب قديما كانوا يعوا أن المرأة والحديث عنها يحفز الرجل على الانتباه والاستماع، من هنا وجدناهم يستحضرونها في بداية قصائدهم، وهذا الأمر أكده شعراء اليوم من خلال استخدامهم/استحضارهم للمرأة فيما يقدمونه من قصائد.


“وأحياناً أراني كأسَها المَخْمورَ
من رُمانِ خَدَّيْها..
فأعصرُها
وأسكبُ ذاتَها في الكأسِ
تشربُني وأشربُها
ونغزلُ بالهوى أدَبا”


فمخاطبة الأنثى /المرأة تثير القارئ وتحفزه ليتقدم مما يقدم له، فهي أحد عناصر الفرح التي تمتع المتلقي كما تمتع الشاعر، وبما أن هناك فكرة تمرد تتمثل “كأسها المخمور” وإيحاءات بلقاء جسدي: “فأعصرها، تشربني، أشربها” فهذا يجعل القارئ يمضي متلهفا لمعرفة تفاصيل لقاء المخمور.
لكن إذا ما توقفنا عند فاتحة القصيدة سنجد أن اللقاء فيه شيئا من الصوفية التي نجدها في تكرار بعض الألفاظ: “كأسها/الكأس، تشربني/أشربها” وفي ألفاظ تحمل معنى الحلول والتوحد: “فأعصرها، ذاتها” وفي فكرة المثنى اللذان يتشاركا في فعل واحد: “نغزل” وهذا ما يجعلنا نقول إن اللقاء فيه حميمية جامحة، فالرغبة لم تقتصر على الشاعر فحسب بل على المرأة أيضا، وبهذا يكون اللقاء متوازن/متماثل، رغم أن الصوت الظاهر لنا هو صوت الشاعر.


“أراها بعدَها انقلَبَتْ
تُحدّثني وتنسى الكأسَ مَلهوفاً
تزلزلُني بقافيةٍ
وتنثرُ قلبَها وجَعاً
بحرفٍ يُشبهُ الكابوسَ واللهَبا”


يقدمنا الشاعر أكثر من فحوى هذا اللقاء فبعد أن اكتملا معا وانصهارها وأفرغا أوجاعهما في الجسد، أخذت المرأة تتحدث بما فيها: “تزلزلني، وجعا” نلاحظ أن فكرة اللقاء الجسدي انتهت واكتملت، وجاء اللقاء الروحي الذي نجده في: “تحدثني” وهذا ينم على الحميمة التي تجمعهما، من هنا أرادت أن تفضي ما فيها للشاعر، وبما أن هناك وجع للمرأة ـ وهذا يثير المستمع ـ الشاعر والمتلقي للقصيدة ـ ويجعله يتعاطف معها ويتأثر، من هنا جاء: “تزلزلني” التي يتكرر فيها حرفي اللام والزين، فبدا الشاعر وكأنه فقد (السكرة) وجاءته الفكرة، مما جعله يصحو من سباته.


“فألقَتْ ثلجَها بالنارِ..
تسألني عَنِ التاريخِ
عن تطبيعِنـا العَرَبـيِّ
عَنْ هذا، وعَنْ هذا..
وفي سرٍّ وفي عَلـَنٍ
فأخسرُها وأحصدُ أمرَها عَجَبا”


وأيضا نجد الصحو في “قافية” التي تعنى كلاما موزونا/ناضجا/كاملا وليس كلام (سكارى ومخمورين) وهذا ما أظهر لنا الشاعر حينما قدم قولها مختزلا ومكثفا: “عن هذا، في السر، العلن” من هنا جاء تكرار حرف “في” واسم الإشارة “هذا ” وحرف “عن” أربع مرات، فكثرة الحروف المستخدمة في المقطع تشير إلى حالة اليأس/القرف التي تمر بها المرأة مما جعلها (تقلل/تقصر) في الألفاظ التي تستخدمها، وبما أنها جمعت بين السر والعلن فهذا يجعل حديثها شاملا وجامعا وافيا، وهذا يأخذ الشاعر والقارئ إلى الواقع المرير والبائس، مما يجعلنا نستنتج أنها امرأة تنتمي لواقعها لهذا وجدناها تتألم وتتحسر على واقعها ليس كفرد وإنما كأمة.
بعد أن تحدث الشاعر عنها نجده يتأثر بها وبحديثها حتى أنه يقل لنا ما جاء على لسانها:


“تنامى الشيبُ في رأسي وقلبي لم يعُدْ يعشقْ
أراقصُهُ ويحبطني
فليلى لم تعدْ ليلى
وغصني يفقدُ النَّسَبا”


فنجدها تتألم على ما حدث من تغييرات في جسدها: “الشيب” وفي روحها/فكرها: “قلبي، يحبطني، لم تعد، غصني، يفقد” واللافت في حديثها أنها لم تتحدث مباشرة عن نفسها، بل استخدمت صيغ (الآخر) وهذا يقودنا إلى حجم الألم فيها، حيث لم تستطع الحديث عن نفسها مما جعلها تلجأ إلى شخصية(رديفة) فبدت وكأنها امرأة وصلت إلى سن اليأس، رغم أنها قبل قليل كانت امرأة جامحة/شبقة.
بعد هذا الحديث ينقلنا الشاعر إلى الأثر الذي تركته فيه، بحيث أمسى همه/حالته كحالتها، وهنا تعود حالة الحلول/الانصهار/التوحد بينهما لكن بصورة جديدة، جديدة على مستوى مضمون/فكرة الألم/الوجع، على مستوى الشكل الذي قدم به هذا الألم، فكان استحضار قصة يوسف وخيانة إخوته له تتماثل مع حال المرأة/الشاعر:


“أنينُ البئرِ والصِّدّيق
عِنْ إخوانه الحَمْقى
عِنْ السِّكينِ في ظهْري
فرأسُ الأمْرِ هَـزَّ الكأسَ مَخْمُوراً
عباءتــُهُ ملوَّثةٌ يُبَلِلُها بمهزَلةٍ
ويعزفُ خيطَها خُطَبا”


فكرة الجمع بين فاتحة القصيدة ومتنها نجدها في “الكأس، المخمور” حتى بدا صوت المرأة هو صوت الشاعر، ولم يعد هناك تباين بينهما، وهذا يقودنا إلى الصوفية/الحلول/التماهي/التوحد التي افتُتحت به القصيدة، فانتقل التماهي الجسدي إلى تماهي روحي، حتى وصل إلى التحدث بصوت واحد، وهنا نصل إلى الكمال/الحلول الكلي.

وبما أن الصوفية تمثل حالة قدسية، فكان لا بد من وجود شيء يحمل هذه القدسية، فكانت سورة/قصة يوسف هي الحاملة لهذه القدسية.


“قميصٍ يكشفُ المَسْتورَ في الآتي..
أتى غَدْراً فأتعبَني
يصبُّ الكأسَ مِنْ وَجَعي
يَدقُّ القلْبَ والأضلاعَ
مِنْ قهري وحرماني
يقسّمُ هامتي إرَبا”


نلاحظ أن هناك توضيح لحالة الغدر والخيانة التي تكررت ليوسف/للفلسطيني، وهذا واضح في فكرة المقطع، لكن اللافت وجود لفظ “الكأس” الذي يقودنا إلى المقاطع السابقة، فبدا حضوره وكأنه الجامع/الموحد لفكرة وشكل القصيدة، وهذا ما نجده في المقطع التالي الذي يقدم فكرة الخيانة مقرونه ب”الكأس”
يقدما الشاعر من حالة البؤس أكثر بقوله:


“فتباً يا مِدادَ الذئْبِ
يا جُرْحاً لأوطاني
وتباً كُلَّ تَطبيعٍ
على مَنْ دَقَّ أوتاري
يغنّي للعِدا طرَباً”


فتكرار “تبا” جاء ممتدا ومتواصلا من خلال “يا مداد، يا جرحا” وهذا يعطي فكرة تواصل الخيانة وتوسعها، وما وجود “كل، على، من” ألا تأكيدا لشموليتها واتساعها وتواصلها.
الصوفية تحتاج إلى العزلة، إلى الابتعاد عن الناس والتواصل مع الله، من هنا جاء ت هذه الدعوة:


“تعالي واهجري الأفعالَ والعَرَبا..
لأنّ ضميرَهم ولّى..
وصارَ نبيذُهم فينا
ليعْصرَ قامَتي لَهَبا”


نلاحظ أن الشاعر يتخلى عن حالة الحديث بصوتين، صوته هو وصوت المرأة، ويأخذ صوته بالظهور منفردا، ويبقى محافظا على شيء من شكل الفاتحة والمتن وما فيهما من خمرة وسكر، فيستخدم “نبيذهم” وهذا يعني أنه خرج من حالة التماهي إلى الواقع، من هنا تم تكرار طلب هجران الواقع والابتعاد عنه:


“تعالي واهْجُري التفّاحَ والرّمانَ
والعِنَبا
لأنَّ الفعلَ أسكَرَنا
وصارَ يُعاتبُ العَرَبا


يستوقفنا هذا الطلب الغريب، فكيف للإنسان أن يفارق الطبيعية وما فيها من لذات وفاكهة: “التفاح، والرمان، والعنب”؟ وحتى السكر في حالة اليأس/الكفر بالواقع هو إيجابي لما فيه من تمرد/ثورة على الواقع، فهل تاه الشاعر؟ أم إنه يتحدث هو مخمور؟، يجيبنا في هذا المقطع بقوله:


“أنا المِسكينُ يا ليلى:
أضَعْتُ العُمْرَ مَحْصورا بأحلامي..
فضاعَ العِشقُ لم أعصرْ ولم أشربْ..
وما عادتْ بِلادُ العُرْبِ أوطاني
تُركتُ ألملمُ الأوتارَ في ليلى
وفي وطني..
وحَرفي ينزفُ الكُتُبا
.
أنا لا أكْرهُ السّكينَ إنْ ذبَحَتْ
ولكنْ:
أكْرَهُ السكينَ إنْ رَقصَتْ على جَسَدي..
وإنْ شجَبتْ
وإنْ غزلَتْ وصاغت بالهوى كذبا”


بهذه الخاتمة يكشف لنا الشاعر حقيقة ألمه، حقيقة واقعه، فهو لم يعش حياته بشكل سوي/عادي، فأحلامه لم تتحقق، وعشقه لم يكن، حتى أنه لم يتلذذ بشرب الخمر والنبيذ كما قال لنا، بمعنى آخر أنه لم يتمرد/لم يثر على واقعه، رغم أن الأوطان فقدت بريقها، وما لجوئه للمرأة/لليلى وللكتابة إلا من باب التنفيس/التخفيف، فهما وسيلته للخروج مما هو فيه، وأخيرا يبين علاقته بالسكين، تلك الأداة القاسية، وكيف أنها حين تكون عليه/على جسده، تمسي عدوته.
بهذه الخاتمة يعود الشاعر إلى المربع الأول، بعد أن فقد المرأة، وفقد حالة التماهي معها، وفقد حلولهما معا، وتخلى عن الحديث بصوتها ومعها، فكان وحيدا يعاني العزلة والوجع، فالكلمات/القصيدة التي بدأت براقة وجاذبة للقارئ ها هي تنفره، بعد أن جعل خاتمتها متعلقة ب”السكين، الكذب”
وبهذا يكون الشاعر قد صعق المتلقي بهذه الخاتمة السوداء، وكأنه يطالبه ـ بطريقة غير مباشرة ـ بإيجاد حل لهذا الواقع، فالحديث عن السكين بالتأكيد يتجاوز الشاعر إلى فكرة الشعب/الأمة، وعلى القارئ العمل لإيقاف رقص السكين.


الكاتب والناقد رائد الحواري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *