قصة “الرجل صاحب العكاز” ل د. سعيد محمد المنزلاوي

أرأيتك، وأنت وحدك في هذه الشقة الواسعة، والتي كانت عامرة يومًا ما. كبر بنوك، بعد أن أنهوا دراستهم، سافر كل واحد منهم إلى قطر من الأقطار، دعوك للإقامة معهم، لكنك رفضت، كنت تمقت الغربة، تشعر فيه بالوحشة، تباعدت زيارة أبنائك، حتى امتدت لسنوات، بعد أن أصبح لكل واحد منهم زوجة وأولاد.

كانت زوجتك هي مؤنسك الوحيد، لكنها ضنت عليك بالأنس؛ فرحلت هي الأخرى؛ لتبقى وحيدًا بين ذكرياتك، وتقاسي وحدك برودة الأيام.

مرت سنوات بعد رحيل زوجك، صنعت منك الوحدة رجلًا جافًا، فظًا أحيانًا، شديد الحساسية بدرجة مفرطة، تتوجس خوفًا من كل ما حولك، وتنظر بريبة لكل من يحيط بك. حتى انزويت وحيدًا بين جدران صماء، لكنك ارتضيت بها بديلًا، حتى إنك كنت توصد بابك عن جيرانك إذا ما جاءوك مهنئين في الأعياد، أو دعوك لمناسبة عندهم، حتى ارتفع الحاجز بينك وبينهم، وصار أكثر غلظة وقساوة.

لم يكن لك صاحب إلا عكازك، هو الوحيد الذي يحتملك دون ضجر أو فتور. كنت لا تخرج إلا به، مع الوقت تناسى الناس اسمك، فراحوا يلقبونك بـ (الرجل صاحب العكاز).

هل تذكر يوم سقطت كرة في بلكون شقتك؟ كان أحد الأطفال يلعب، فركل الكرة، فسقطت دون قصد منه، وعندما طرق بابك؛ ليسترد الكرة، ناولتها كرته، بعد أن مزقتها إربًا. لم ترق لبكائه، ولم تراعِ حرمة جيرانك، حتى عندما نزل والد الصبي ليعاتبك؛ كدت أن تشتبك معه ولوحت بعكازتك في وجهه؛ فولَّاك ظهره، كي لا تتفاقم المشاكل بينه وبينك، وصعد الدرج، ولا زلت تشيعه بالسباب واللعن.

أعرف حبك الشديد للسمك، كانت زوجك الراحلة تتفنن في إعداده وطهيه، وتعلمت منها سرًّا من أسرار طهي الأسماك، وحين اشتهيت السمك، تحاملت على عكازتك، واشتريت مؤنة الشهر من السمك، وعدت بها إلى بيتك، تغمرك السعادة وأنت تمنِّي نفسك بوجبة شهية من السمك. طهوت لنفسك سمكة واحدة، وضعتها على المائدة، ورحت تجهز طبق السلاطة الذي تجيد صنعه من أكثر من نوع من الخضراوات، خرجت تتخايل بطبق السلاطة، لتفاجأ بقطة ابنة الجيران قد سطت على سمكتك، ولم تبق لك منها شيئًا، لم تتمالك نفسك من الغضب، فقمت بمطاردة حامية للقطة، أسفرت عن كسر قوائمها بعكازتك الغليظة، ثم طردتها خارج شقتك؛ لتحمل القطة المسكينة عرجتها إلى بيت أصحابها، كان العقاب الذي نالته أكبر من جرمها وأشنع من جريرتها، ولكنك لم تأبه لذلك، وفوق ذلك كنت حادًّا في حديثك مع الجار عندما نزل إليك، وابنته تحمل قطتها العرجاء وهي باكية، لم ترق لدموع الطفلة، كما لم ترحم الحيوان الأعجم.

وتوالت مواقف القسوة والجفاء منك، حتى تحاشاك الجيران، ونأوا بعيدًا عنك؛ حتى إن أحدهم لما أقام عرسًا لابنته، أبى أن يدعوك كما دعا كل الجيران، تجاهلك عمدًا، ولكنه فوجئ بك تفسح لنفسك الطريق بين المدعوين، فظنك جئت مهنئًا، مد إليك يديه مرحبًا، ولكنه جابهته بصوتك الجهوري، وأنت تلوح في وجهه بعصاتك الغليظة، معلنًا ضجرك من الضوضاء التي يحدثونها، وعندما ناولك الشراب ودعاك للجلوس؛ لتفرح معهم، ألقيت بالكوب في حدة، وهبطت الدرج وأنت تكيل لهم الشتائم والسباب.

لعلك الآن تدرك سر العزلة التي كبلت نفسك فيها بيديك، حتى أمسى البيت الفسيح أشبه بالحبس الانفرادي؛ لا تزور أحدًا، ولا يزورك أحد، كما أنك لم تكن تغادر شقتك إلا نادرًا، حتى أمسى وجودك وعدمه سواء، واعتاد الجيران غيابك.

حتى جاء يوم ألمَّ بك ألمٌ شديد، لم تجد في شقتك علاجًا له، كان لابد من ذهابك للطبيب، تحاملت على نفسك؛ كي ترتدي ملابسك، كنت تتلوى من شدة الألم، جاهدت لتصل إلى الباب، ولكن قبل أن تتمكن من فتحه، خذلتك قدماك، فارتطمْت بالأرض. تناهى أنينك ـ بالرغم من ضعفه ـ إلى مسامع الطفلة صاحبة القطة الصغيرة، كانت عائدة من مدرستها، هرولت مسرعة إلى شقتها، أخبرت والديها، سريعًا هبطوا الدرج، طرقوا عليك بابك، لمَّا لم تفتح الباب؛ فتحوه عنوة، واحتملوك إلى أقرب مستشفى. تناوب جيرانك عليك السهر، صنعوا لك الطعام، وتكفلوا بعلاجك، حتى تعافيت، وعدت إلى بيتك.

كان هذا الموقف كفيلًا بأن يغير نظرتك إلى الناس من حولك، أدركت معنى الوفاء، وعرفت قيمة الجوار، ولمست بنفسك كيف كان جيرانك رحماء بك. بدأت الحواجز بينك وبينهم تنهار واحدًا تلو الآخر.

في اليوم الثالث لخروجك من المستشفى، سقطت كرة ابن الجيران في بلكون شقتك، أمسكت بالكرة، وكدت أن تفتك بها، كسابق عهدك، ولكن تناهى إليك عويل الطفل الصغير، ظنًا منه أنك ستمزقها كما فعلت من قبل، أخذت الكرة، وتحاملت على عكازتك حتى صعدت الدرج إلى الطابق الأعلى، طرقت على جارك الباب، فوجئ الجميع بأن الكرة بين يديك سليمة، لم تتمزق، ناولتها مبتسمًا للطفل الصغير، فتوقف عن العويل، وشكرك، دعوته أن يلعب بها في شقتك متى شاء، رغم دهشة الجميع إلا أنهم وافقوا، قبل أن تهبط الدرج إلى شقتك، توجهت إلى شقة جارك هنأته بزواج ابنته، واعتذرت له عما بدر منك، تلقاك الجار بالترحاب، دعاك إلى الغداء معه، كان مذاق السمك عندهم مختلفًا ولذيذًا، وكانت القطة الصغيرة تحوم حول المائدة بعرجتها، ناولتها قطعة من السمك، راحت تأكلها، ثم راحت تتمسح في قدميك، بينما أناملك تدغدغ رأسها في حنو. استأذنت من جارك، كان الطفل الصغير يلعب بالكرة أمام شقته، ما إن رآك حتى تعلق بك، اتكأت على كتفه الصغير، تاركًا عكازك فوق الدرج. الآن أصبح لك جيران تودهم ويودونك. الآن أدركت أهمية أن تكون رفيقًا ورحيمًا.

د. سعيد محمد المنزلاوي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *