قصة المرآة ل د. سعيد محمد المنزلاوي

في الطريق من بيتي إلى عملي، اعتدت أن أراه، كان يفترش الأرض، يجلس ممدد القدمين في وجه كل من يمر أمامه. لم يكن يخشى أحدًا من المارَّة، وكيف يخشى الناسَ، مَن واجه البرد والحر بكساء من الصوف الرخيص لا يغيره صيفًا ولا شتاءً، ولا ليلاً ولا نهارًا. أكثر شيء كان يلفتني إليه، هو صمته الدائم، لم أسمعه يتكلم مرة، أو يوسع ما بين شفتيه؛ ليرسم ابتسامة، أو علامة تعجب، أو حتى ما يشي بامتعاض أو اشمئزاز. لم يكن يسأل أحدًا، مجرد أن تراه واقفًا تجاهك؛ حتى تجود عليه بما معك. ولكن لم يكن الجميع يجودون عليه. كثيرًا ما كنت أشعر أنني مدين لهذا الرجل بهذه الحال التي وصل إليها من الرثة والضعة والإعياء. تُرى، هل يذهب إلى طبيب؟ هل يعاني من الأمراض؟ أم أنه هزم المرض كما هزم الحر والبرد، والظلام الحالك؟ بالرغم مما يظنه الناس فيه من ضعف، وأنه لا حول له ولا قوة؛ إلا أنني كنت أرى خلاف ذلك، كنت أراه أشبه بالرقيب؛ يراقب الرائح والغادي، ويسجل في عقله الباطن أنفاسنا، كلامنا، حركاتنا، بل حتى نوايانا. كان يداخلني شعور أنه سيأتي في يوم ويقطع على المارة طريقهم، ويوقفهم للحساب. كنت كثيرًا ما أراجع نفسي أولاً بأول؛ ليكون حسابي يسيرًا، كنت أخاف من مواجهته، من اطلاعه على دخيلتي، من تسلطه على خواطري. كانت نظراته الثاقبة تتركز في فؤادي، توخزني كالإبر؛ فتستل كل ما بداخلي. كثيرًا ما كنت أشعر بالحياء تجاهه، إذا اطلع على نقيصة فيَّ. لم يكن سائلاً عاديًّا، بل لم يكن سائلاً، فالسائل ما إنْ يراك حتى يمطرك بوابل من الأدعية والتضرعات؛ حتى تفرغ كل ما في جيبك في يده، وويلك كل الويل إن أشحت بوجهك عنه ولم تعطه، عندها يصب عليك اللعنات صبًّا، ويغمزك في الغدوة والرواح.

لم يكن هذا الرجل مجرد سائل أو شحاذ، تُرى ما هي حكايته؟ وما أصله؟ قيل: كان صيادًا، هوته عروس النيل أو البحر، أو جنية الشاطئ، فسلبت لبه. وقيل: أحب امرأة، وهام في غرامها، حتى طاش عقله؛ فهجر بيته، وولده، وفارق عمله. وقال البعض: إنه واحد من الدراويش، استبدل بثياب الناس رقعته، مستغنيًا عن كلام الناس بمناجاة خالق الناس. ولكنني لم أقتنع بكل هذه التفسيرات لحال هذا الرجل العجيب، فقد كان يداخلني شعور بأنه رجل غير عادي، قد يكون شرطيًّا، أو ربما ضابطًا كبيرًا، وقد يكون فيلسوفًا، رأى ما بحياة الناس من زيف وباطل، فهجرها، ولمس ما في كلامهم من كذب وبهتان؛ فلاذ بالصمت. ليس به من ملامح الحياة إلا عينان لا تزالان تدوران في محجريهما مع حركة كل إنسان يمر به، تتبعه كظله، ولا تفارقه إلا بعد أن يغيب عن نظره، فتتحول عنه إلى غيره، وهكذا طيلة النهار، فإذا جنَّ الليل تسربل بظلامه، وتوارى عن الأنظار، فلم يعلم به أحد، ولا يدري أي إنسان أين يذهب، أو أين يبيت، ربما لأنه لا يعنيهم، ولا يكترثون لأمره. إلا أنه لذَّ لي أن أتتبعه ليلاً حيث يذهب، ولكني ترددت خوفًا، فبمجرد أن طاف بي هذا الخاطر، حتى شعرت بقشعريرة باردة، جعلتني أشبه بجسد ميت. لكنني استجمعت شجاعتي، وانتظرت حتى جاء الليل وخرجت وراءه، كان يجر رجله جرًّا، وكأنها ليست منه، وكنت كظله، خطوي يحاذي خطوه، وكتفي يكاد يلامس كتفه، كانت عينيَّ معلقةُ به، خشية أن يختفي مني في جنح الظلام. لم أكن آبه للسيارات التي تعدو في كل اتجاه، كدت أصطدم بها أكثر من مرة، وهي تنهب الأرض نهبًا؛ لكنني لم أكترث لها، كان شيء ما بداخلي يدفعني إلى متابعته، كنت أشبه بمسحور، بقطعة حديد تُشد إلى مغناطيس قوي. كنت كعاشق ولهان يتطلع في هيام إلى محبوبته، يخشى إن طرفت عينه، أن يحرم لحظة من جمالها. لا أدري كم سرت، ولا أي طريق سلكت، كان يجر ساقيه، وكنت أنا ظله. كنت كمن يحلم، لم أفقْ من حالتي إلا بعد اصطدامي بصخرة، ارتطمتُ بالأرض، لم تكن إصابتي خطيرة، نهضت على الفور أنفض عن ثيابي ما علق بها، وبينما أنفض يدي، فوجئت بأنني فقدت الرجل، جريت بعينيَّ في كل الجهات من حولي، لكنني لم أعثر عليه، جن جنوني، ورحت بعد اليأس أجر قدمَيَّ المتعبتين إلى البيت، لم أسرْ إلا خطوة واحدة فإذا أنا داخل بيتي. تُرى هل سبقني إلى بيتي؟ وكيف تمكن من اقتحامه؟ رحت أفتش عنه في كل مكان، في كل ركن وزاوية،… لكنني لم أعثر عليه. كانت قواي قد خارت، أصبت بإعياء نتيجة التفكير والمسير، سقطت مكاني كجثة هامدة، ورحت في سبات عميق. استيقظت في الصباح كعادتي كل يوم، ولكنني في هذا اليوم بالذات، كنت حريصًا على أن أخرج مسرعًا، سريعًا غسلت وجهي ويديَّ، وفي لمح البصر كنت قد ارتديت ثيابي، خرجت دون أن أنظر في ساعة الحائط، لم يكن يشغلني إلا الخروج، سرت في ذات الطريق الذي أسير فيه كل يوم، حيث ألتقي ذلك الرجل الغريب. تُرى ما الذي يخبئه لي القدر هذا الصباح؟ خرجت، ولم يكن همي إلا أن ألتقي به وجهًا لوجه، ولشدَّ ما كانت فرحتي عندما رأيته في مكانه، يفترش الأرض، يمد رجليه في وجه كل مَن يمر به، لا يأبه لأحد، ولا يكترث لشيء. وفي هذه المرة، ولأول مرة اقتربت منه أكثر فأكثر، حتى ارتطمت به، ورحت أتفرس في ملامح وجهه، إن وجهه قمحي وطويل بعض الشيء كوجهي، وعيناه العسليتان لا تحكيان شيئًا، ولا تفشيان سرًّا، لم أرَ فيهما غيري، صعَّدتُ النظر إلى شعره، كان في كثافته ونعومته أشبه بشعري، بل إن وجهه أشبه بوجهي، إنه وجهي أنا، كنت كمن ينظر في المرآة؛ فهذه التجاعيد أسفل عينيه، نفس التي أسفل عينيَّ، حتى أنفه الطويل لا يفترق كثيرًا عن أنفي، ولأنه أنا، اخترقته فاخترقني، فقرأت كل ما في نفسي/نفسه، ورأيت كل ما بداخلي/داخله، شاهدت ماضييَّ/ماضيه، لمست حاضري/حاضره، … ثم مضيت إلى عملي، مطبق الفم، لا أنبس بكلمة، أراقب العابر حتى يختفي، ثم أعاود الكَرَّة مع غيره، وإذا تعبت أفترش الأرض، أمد قدميَّ في وجه كل من يمر أمامي.

د. سعيد محمد المنزلاوي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *