ها هو وقد عاد من عمله في المساء، تراه متعبًا، فعمله يستغرق سحابة النهار، وردحًا من الليل. بعد أن استبدل بملابس العمل ملابس البيت، راح يهيئ لنفسه وجبة العشاء.
- لكنه لا يمتلك سوى صنف واحد من الأطعمة، يداوم عليه، حتى سئمت منه معدته.
- ولكنه يتفنن في طهيه كطباخ ماهر، ألا تراه كيف ينوع فيه ما بين الشواء والسلق والطبخ والقلي؟
- نعم، وكأنه يخاتل معدته، حتى يتمكن من إرغامها على قبول هذا الصنف الوحيد من الطعام، والذي لا يملك أن يستبدل به غيره.
بعد أن انتهى من إعداد وجبته اليتيمة، راح يتناولها في سأم من اعتاد على الشيء حتى صار يأنفه.
- أتسمع ذلك الطرق على الباب؟
- نعم، ترى من يكون؟
لقد بدأ الطرق هادئًا، ثم تحول إلى ما يشبه الطرق على الدف. قام، يكاد قلبه يتراقص، في انتظار فرحة تغير خارطة حياته، كانت جارته “أم أحمد”، قابلته بابتسامة رائقة كماء السماء، فراح يتندر معها:
- ما لك مبتهجة يا جدتي؟ هل زُفَّ “أبو أحمد” إلى عروسه الجديدة؟
رمقته بنظرة غاضبة، مرت كلمح البرق، ثم دست في كفه خطابًا، وقالت له في سعادة:
- خطاب من حبيبتك… خطاب غرامي يا ساهٍ.
- ما لك قد سال لعابك؟ هل تظن فعلًا أنه خطاب غرامي.
- لا أظن، وإلا لبدا ذلك على وجهه.
تناول منها الخطاب في بلاهة، وما إن طالع المكتوب من الخارج، حتى انمحت بسمته، واستحالت إلى خيمة ألقت بظلال من الحزن على محياه، فقطب جبينه، وقال لجارته:
- حقًا، إنه خطاب غرامي، (اصطبغ صوته بالمرارة والتي انبعثت من حلقه) ولكنه من محكمة الأسرة.
لم تكن “أم أحمد” تعلم فحوى الخطاب؛ كانت امرأة أمية، جاء ساعي البريد ليسلم الخطاب إلى جارها، لمَّا لم يجده، تطوعت بأن تستلمه إلى أن يعود في المساء، فتسلمه إليه. ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي تتسلم فيها خطابات نيابة عن جيرانها، بحكم جلستها الدائمة أمام عتبة بيتها، فلا تكاد تغادر موضعها إلا للصلاة وتناول الطعام والنوم. ولولا أن تلام، لافترشت العتبة أمام البيت ونامت.
إنها إحدى معالم تلك القرية الصغيرة، يعرفها الكبير والصغير، وينادونها جميعًا على اختلاف أعمارهم بالجدة “أم أحمد”.
- ترى ماذا كان من وقع الخبر عليها؟
- أتقصد فحوى الخطاب؟
ملأت الدموع عينيها، وربتت في حنو على كتف السيد مراد، ثم رجعت إلى بيتها، وهي تغمغم بالدعاء له، أن يعينه الله ويخلف عليه خيرًا، إلى أن استقرت داخل بيتها.
كذلك لم يكن الأمر هينًا على السيد “مراد”، فقدْ فقدَ شهيته للطعام، وقنع بما حوته معدته من لقيمات، ولعلها استراحت من طعام، من كثرة ما تناولته، تعافته.
وراح يفكر في السبب الذي دفع بزوجه أن تجره إلى ساحات المحاكم جرًّا. إنه لم يقصر في نفقاتها ونفقات ابنهما. صحيح أنه غادر البيت، حين استحالت الحياة في بيتٍ كلُّ مَن فيه يبغضه، إلا أنه لا يزال يواليهم بالنفقة والرعاية، وإن عانى هو وحده من قلة ذات اليد فيما يتعلق بنفقاته الضرورية.
في ظهيرة اليوم التالي طمأنه المحامي؛ أخبره أن المحكمة ستحكم بجزء من راتبه، ويبقى له ما يعيش منه. ثم همس إليه في دهاء:
- وهناك طرق أخرى نتحايل بها على القانون؛ لنخفض من النفقة.
- (في إصرار) لا، ما ذنب طفلي الصغير، بل ما ذنبها؟
- (في دهشة) ما ذنبها؟
- نعم، حسبها أنها تقوم على رعاية ابني وحدها.
مصمص المحامي شفتيه، وكأنه لم يقتنع، ثم قال:
- الأمر إليك.
- تُرى، هل كان السيد “مراد” محقًا فيما قاله؟
- انتظر، فالحوار بينه وبين المحامي لمَّا ينته بعد.
نظر إليه المحامي، وغير نبرته إلى الناصح الأمين:
- من الآن، وإلى أن يتم تنفيذ الحكم بدفع النفقة، لا تنفق عليهما جنيهًا واحدًا.
- (معترضًا) ولكن، من أين ينفقون؟
- هذه مشكلتهم، (ثم نفض كفيه) لا شأن لك بها. ولأكون صريحًا معك، فإن ما تدفعه لهم قبل الحكم، ستدفعه ثانية بعد الحكم. (في لهجة المنتصر) فهل تتحمل؟
- بالطبع هو لا يتحمل، فدخله محدود، وليس له مصدر آخر للكسب.
- ترى، هل سيقبل بنصيحة محاميه؟
إن السيد “مراد” كما نعهده أب، والأب لا يتحمل أن يرى أولاده يتضورون جوعًا، أو يمدون أيديهم ويتسولون. ولم يكن لديه خيار؛ فولده لا ذنب له فيما وقع بينه وبين أمه. كل ما في الأمر، أنه رجاها أن تتنازل عن القضايا، لكنها أبت.
مرت الأشهر القليلة التالية، قضية النفقة في سيرها الطبعي في جلسات المحكمة، والنفقة الشهرية تصل لزوجه وابنه كالمعتاد، والمحامي لم يجد مندوحة من تلبية طلب موكله ألا يفسد على زوجه قضية النفقة.
- دعها تربحها، فلعلها تربح شيئًا واحدًا في حياتها.
- الأمر إليك. (ثم بسط كفيه علامة الاستسلام).
- دعنا من موضوع النفقة. ماذا عن علاقته بولده؟
- إنه لم يكن يرى ابنه “عمر”، إلا يومًا واحدًا في الشهر، هو ذلك اليوم الذي يأتي فيه لتحصيل راتبه ـ أعني نفقاتهم ـ ولم يكن يجلس مع والده إلا بضع دقائق، ثم يفر منه، فراره من ذئب متربص به.
كانت صورة الأب تتهدم يومًا بعد يوم، حتى أمسى الأب لدى ولده عدوًا اغتصب منهم سعادتهم وأمنهم، وعليهم أن يستنزفوه ماديًّا، دون أن يغترفوا من بئر حنانه جرعة ماء واحدة.
ثم جاء تنفيذ الحكم، وعليه أن يدفع المتجمد من النفقة. لقد دفعها من قبل، ولكن زوجه كانت من اللؤم ما جعلها لا تقر بها، أنكرتها، وأبت أن تتنازل عنها. بل هددته عن طريق محاميها أنها ستسجنه إن عجز عن سداد تلك الأموال المتجمدة.
كان محاميه ينقل له ذلك الكلام، ولسان حاله يقول:
- ألم أقل لك لا تدفع.
- (نظر إليه في صمت، ثم طأطأ رأسه).
ولم يكن بمقدوره سداد تلك النفقة المتجمدة جملة واحدة، فقام بدفعها على أقساط، كانت هي والنفقة التي حكمت بها المحكمة ما يعادل راتبه بالكامل؛ ليعيش طاوي الجيب والبطن طيلة الأشهر التالية، ولتنعم زوجه بدخله كاملًا.
- إذن ليتها ترضى؟
- ترضى؟ إنها ما إن صارت تتسلم النفقة من المحكمة، حتى منعت “عمر” من زيارة والده. وكأن الدافع للزيارة كان الحصول على المال، ولا شيء سواه.
ولم تكن قضية النفقة هي القضية الأولى، بل كانت بداية الطريق إلى ساحات المحاكم، وتوالت على الزوج المسكين العديد من القضايا. وكان يتقبل الحكم النازل عليه بصدر رحب. كان يلتمس لها العذر في كل ما تصنعه ضده، فهي وحيدة، تعول بمفردها ابنهما، وحسبها ما تلقى. ولكنه لم يستطع أن يغفر ذلك الجحود الذي أورثته لابنهما، إلا أن ذلك لم يدفعه إلى الثأر منها، أو معاملتها بالمثل.
تجاوزت القضايا المرفوعة ضده أصابع اليدين، كان آخرها قضية الطلاق؛ وذلك عندما علمت بزواجه، وتم لها ما أرادت؛ لينقطع ذلك الخيط الناحل الذي كان يربط بينهما.
كانت تظن أن بحصولها على حريتها، سيقصد الخطاب دارها، هكذا أوهموها، لكن أحدًا لم يطرق بابها، وظلت حبيسة جدران منزلها، تقتات بما يدفعه مطلقها لها في المحكمة.
- تُرى كيف حاله الآن؟
- هو الآن يعيش مع زوجة وفية أتحفته بالبنين وبالبنات، ذاق معها السعادة لأول مرة في حياته.
- وماذا عن ولده؟
- انتهت مدة الحضانة لابنه، خيره بين العيش معه أو العيش مع أمه، فاختار أمه، لم يلمه، وأجرى عليهما النفقة كاملة، واكتفى بأن يرى ولده يومًا واحدًا في الشهر.
- إنه طيب القلب وكريم.
- ولكن، هل استشعرت مطلقته نبل أخلاقه معها؟
- فلنستمع لهذا الحوار بينها وبين ابنها “عمر”.
هتفت الأم بابنها، فمثل بين يديها. فقالت له في رجاء:
- لماذا لا تزور أباك من حين لآخر.
- (لحظة صمت يفكر بما يرد) لأنك كنت تبعدينني عنه.
- (في أسف) ولكنه لم يكن بتلك الصورة المشوهة التي رسختها في ذهنك عنه.
- (برقت عيناه، كأنما تذكر شيئًا كان قد نسيه) أتذَكَّرُ يوم غادر البيت، قوله لي: “أنت رجل البيت مكاني، لا تترك أمك أبدًا”. ساعتها كنت حانقًا عليه، كيف لأب أن يترك بيته وولده، ويتخلى عن مسئوليته تجاههما.
- (ذرفت عيناها بالدموع) أحقًّا ما تقول؟ هل أوصاك بي، بالرغم مما صنعته يومها؛ ليغادر حياتنا.
- نعم.
- يا لي من غبية، لم أقدِّر حبه وطيبة قلبه.
راحت تنتحب بشدة، فضمها “عمر” في حنان، وقال لها مواسيًا:
- لا تراعي يا أمي، سأبقى معك ولن أتخلى عنك.
- وهو؟
- (في أسف) لقد كان معك.
- وليته ظل معي.
د. سعيد محمد المنزلاوي