كان يئن من كثرة ما يحمل وتصدر عنه أنات عميقة، لكن أحدًا لم يشعر به، لم يكن عمره قصيرًا، لقد قضى بينهم زمنًا طويلًا، يتحمل في صبر، ويتحامل دون ملل أو كلل، حتى ناء به الحِمل، ولم يعد قادرًا؛ فأصدر أنات مكتومة تنبئ عن تمزقه، وبدلًا من تخفيف الأحمال عنه، زادوا فوق ظهره دون هوادة أو رحمة.
ود لو ينفجر فيهم ولكن عَزَّت عليه العشرة الطويلة، وأبصر ما يحمله، فوجده ذا قيمة، فلم يرد أن يفدحهم في مالهم. ولكنه كان يئن ويصرخ، دون أن يغيثه أحد، أو يتفقد أحواله. مرت بضعة أيام جعل يلتقط فيها أنفاسه الأخيرة، تحامل على نفسه حتى حل به المساء، لم يرد أن يودعهم نهارًا، كان لطول العِشرة نصيب عنده. في هدأة الليل، وبينما هم يغطون في النوم، خرَّ محدثًا دويًّا عاليًّا شق سكون الليل، ثم ذاب في ظلمته.
أيقظ نور الصباح أهل البيت، طاويًا صفحة يوم، وباسطًا صفحة أخرى، نفضوا النوم عن أعينهم الناعسة، وانخرطت النسوة في إعداد الطعام؛ خرجت الابنة الكبرى لفناء البيت، لتحضر الجبن والخبز، صدمت بما رأته، أطلقت صرخة، فاجتمعوا حولها يتساءلون. عقلت المفاجأة لسانها، فأشارت نحوه، أذهلهم المشهد، وشعروا بأنهم عرايا، فاستتروا داخل البيت، ولفهم الوجوم، فلم ينبسوا ببنت شفة.
كان فناء البيت يشتمل على حجرتين صغيرتين غير مكتملتي البناء، إحداهما للفرن، والأخرى مأوى للطيور المنزلية. كان يحيط بالحجرتين من الخارج جدار قديم، عبثت به يد الزمان؛ فسقط عنه الملاط، وتشقق، ولم يجد من يُعْنى به، حتى تآكل ولم يعد يقوى على حمل الجرار والحطب، فخر جارًّا وراءه كل ما كان يحمله، تكسر الخبز، واختلط الجبن بالتراب، وتناثر الحطب في فوضى انتهزتها الطيور، ففرت من البيت الضيق إلى الفضاء الواسع.
لم يكن سقوط الجدار بالأمر الهين، لقد أصبحوا نهبًا للأعين المتلصصة. كان الأب يصفق كفيه في حزن وأسى، لم يكن تدارك الأمر يسيرًا، كان هو الآخر ينوء بما يحمله، كان لا يملك سوى ثوب واحد لا يغيره صيفًا ولا شتاءً، حتى خلق، ولا يزال يرتديه. كثيرًا ما بات خاوي البطن ليوفر لقيمات يسد بها جوع أولاده الصغار، ود لو يعثر على خاتم سليمان، لكنه أدرك أن أصابعه الخشنة المتشققة، لا يمكن أن يطوقها خاتم السعادة، فأيس من الأحلام، وعاش برزق يومه، لم يتبرم بقلة ذات يده، ما دام يبيت مستورًا، ولذا ضاقت نفسه عندما سقط الجدار، وشعر أن ستر بيته قد هتك، فانزوى في ركن الغرفة وقد أخفى وجهه بكلتا يديه. دار الخبر في القرية، كنار التهمت في الهشيم، وقد ساءهم الخبر؛ لعلمهم بعجز جارهم عن إقامة الجدار وحده؛ قسم أهل القرية أنفسهم مجموعات صغيرة، ووزعوا العمل فيما بينهم، مرت أيام ثلاثة، ارتفع فيها الجدار، فانتصب رب الأسرة في جلسته، وراح يطالع الجدار الجديد بعينين ملؤهما الرضا والسعادة.
د. سعيد محمد المنزلاوي