قصة بعنوان لا تثر الغبار ل د. سعيد محمد المنزلاوي

        كانت الأنوار خافتة، وكانت سحائب الدخان التي ينفثها صدره المكلوم في انفعال شديد، تخفي الكثير من معالم الغرفة. عيناه كانتا مصوبتين على هذا الجسد النائم بجانبه كان يخرج منهما سيل هادر من التساؤلات المحمومة. بينما يتحرك أمام ناظريه شريط كامل من الذكريات والأحداث، والتي تمتد لسبع سنوات، منذ تعرف عليها إلى تلك اللحظة التي حلت عليه ككابوس لم يستطع أن يفيق منه.

        كانت تتصارع بداخله رغبتان: رغبة أن يوقظها ويواجهها. والرغبة الأخرى أن ينسحب من حياتها، مسدلًا سترًا من النسيان على قصة الحب الجميلة والسنوات الهانئة التي عاشها معها.

        لكن الرغبة الثانية كانت تتراجع في خذلان، بما أثمرته علاقتهما من ابنتيه، هما زهرتا حياته وبهجتها. غير أن الدخان الذي ينفثه من صدره المكلوم، كان يرسم أمام ناظريه صورًا باهتة لعلاقة غير سوية، كان ثمرتها ابنتاه.

        كانت الطفلة الصغرى نائمة بينه وبين زوجه، وكانت ترتسم على محياها الوضيء البراءةُ والصفاء، لم تكن تستطيع النوم إلى في حضنه فيطوقها بذراعيه. كان يتشوف لليوم الذي يطول فيه ذراعها، حتى تستطيع تطويقه من عنقه. لكن الأشباح الدخانية لم تتركه يسترسل في هذه الأحلام الوردية والأماني العِذاب، فشكلت سياجًا معتمًا بينه وبين ابنته.

        مرت عليه ساعات الليل كزائر ثقيل لا يريد أن يبرح مكانه، كانت أشبه بمرض عضال يأبى أن يفارقه.

        وما أن بدأ الصباح يرتق بخيوطه ثقوب الظلام، ناشرًا الضياء تمهيدًا لاستقبال الشمس؛ حتى أخذته سنة من النوم، وراح في سبات عميق، لم يوقظه منه إلا أنامل ابنته “فاطمة” تربت على خده في رفق وحنان، وهي تدفع بقدميها الصغيرتين الغطاء عنهما، ضمها إلى صدره في حرارة، لكنه سرعان ما تركها في جحود ونكران، ولم يرق لبكائها وهي تحاول التشبث به. استنكرت زوجه منه هذا السلوك، لاسيما وهي تعرف عنه طيبة القلب، لكنها فوجئت بثورة لا مبرر لها؛ فلاذت بالصمت، وانهمكت في إعداد وجبة الإفطار.

        اجتمعت الأسرة على المائدة كعادتهم كل يوم، إلا أن البهجة قد زايلتهم، وخيم عليهم وجوم وصمت كئيب.

        أثناء تناول الشاي، حاولت “هدى” أن تستفهم عن سر التغير الفجائي لزوجها، لكنه لم يرد عليها، فلاذت بالصمت مرة أخرى.

        كانت “هدى” زوجة عاقلة، تعرف كيف تتحكم في أعصابها؛ حتى لا تتصاعد المشاكل. لكنَّ الذي حدث أثار تساؤلاتها، وجعلها تسترجع تصرفاتها الأخيرة، فربما أثارت حفيظته، وهي لا تشعر. لكنها لم تجد شيئًا، مما زاد من قلقها وحيرتها.

        أمضت سحابة اليوم ما بين الأعمال المنزلية، ومتابعة بعض القنوات التليفزيونية، إلى أن حان موعد وصول زوجها؛ فاستقبلته بالترحاب كعادتها كل يوم. إلا أنها لقيت منه جفاءً غير معهود، وسار مبتعدًا عنها، استوقفته، وتعلقت بثيابه، سألته عن سبب تغيره. كان متوقعًا للسؤال، ومستعدًا للمواجهة. تلك المواجهة التي ربما تهدم هذا العش الهانئ، وتقوض بنيانه. راح يتفرس في وجهها برهة، ثم سألها عن علاقتها بصديقه “أمين”، واجهها بقصة حبهما أيام الجامعة.

        لم يكن يدرك أن الذي فتح له بيته، كان في يوم من الأيام يحب زوجته. ألجمتها المفاجأة، ولكنها سرعان ما ازدردت ريقها، وراحت تفند اتهامه لها:

  • كان هذا أيام الجامعة، قبل أن أعرفك. وما أن ارتبطت بك، حتى قطعت علاقتي به.

أخرج من جيبه بعض الصور، وبسطها بين يديها، ثم قال في حدة، مفندًا زعمها:

  • وهذه الصور، والتي تجمع بينكما؟
  • إنها صور قديمة. ولكني قطعت علاقتي بالماضي، وأخلصت لك وحدك.

حدثها عن خطاباته لها والتي لا تزال تحتفظ بها. أخبرته أنها نسيت الماضي برمته، وراحت تدافع عن نفسها:

  • لقد أخلصت لك، تفانيت في خدمتك، أدمنت أنفاسك وصوتك. أنا لا أشعر بنفسي إلا بين ذراعيك. لو شققت عن قلبي، فلن تجد فيه غيرك.

ولاها ظهره، ولكنك استرسلت:

  • أنا لا أنكر أنه كانت لي تجارب، ربما أخجل منها. ولكنها ماض تولى بكل ما فيه.
  • (باستنكار) تولى؟ كيف وأنت لا تزالين تحتفظين بخطاباته؟
  • نسيتها، أقسم لك أنني نسيتها كما نسيت كل شيء كان، قبل دخولي بيتك.

كانت دموعها تسيل على خديها حارَّة حارقة، وهي ترجوه وتتوسل بدموعها، أن يصدقها. دنت ابنته الكبرى منهما، وعلى وجهها علامة استفهام، فانتهرها، فاعتنقت أمها باكية.

وراح يتمتم:

  • لست أدري هل هذه البنت مني؟
  • (بصرخة) نعم، ابنتك، ماذا جرى لك، ما كل هذا الجحود. ستهدم بيتك بشكوك لا أصل لها.
  • لقد كنت أعتبره صديقي المخلص. كم كنت مغفلًا ومخدوعًا.
  • لا تثر الغبار بماض مات ولم يبق منه شيء.

زفر دخان سيجارته مزيحًا معه نيرانًا تشتعل في صدره. فتابعت قولها:

  • تذكر تفانيَّ في خدمتك وأولادك. لم ألُ جهدًا قط في إسعادكم. لقد أخلصت في حبك.
  • حبي؟
  • نعم، ارحم رجاء زوجة لا ترى لها رجلًا سواك.

        تكور في مقعده، وبدا كشيخ هرم، صار أكثر انحناءً وضعفًا.

بينما استرسلت زوجته، وهي تطالع في سحائب الدخان التي تفصلها عن زوجها:

  • لماذا تنكرون أن يكون للمرأة ماض، وتسمحون به لأنفسكم؟ إذا كانت لكم قلوب، فلنا قلوب، وإذا كانت لنا أخطاء، فلكم أخطاء. فلماذا تطلبون منا أن نغفر لكم خطاياكم، ولا تغفرون لنا خطايانا؟!

        انتصف الليل، نام كلا الزوجين، مستدبرًا الآخر، وبينهما نامت الابنة الصغرى، وقد ارتسمت على شفتيها ـ في براءة ـ ابتسامة عذبة.

د. سعيد محمد المنزلاوي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *