خرجت فزعة من حجرة أبيها، صرخت في أمها:
- أمي، دخلت حجرة أبي، فلم أجده. ثم في ضراعة: أين أبي؟
كانت الأم قد انتهت لتوها من إعداد وجبة الإفطار لها ولابنتيها، وحين دخلت لإيقاظ ابنتها الكبرى “نور” سبقتهما “فرح” إلى الجلوس على المائدة. خيم الصمت على ثلاثتهن، كنَّ يعالجن المضغ في صعوبة مَن يأكل رغمًا عنه.
انتهت مراسم الصباح من ارتداء الزي المدرسي وإعداد الحقائب، وحملت الأم “فرح” كعادتها كل يوم عندما كانت توصلها إلى الحافلة والتي كانت تقلها من باب المسكن إلى روضتها، لكنها اضطرت إلى الاستغناء عن تلك الوسيلة المريحة لكليهما. تسمرت “نور” في مكانها؛ فاستجابت الأم لرغبة محمومة داخلها، وبينما كانت تغلق الباب تقاسمت الفتاتان كتفي الأم. هبطت بهما الدرج إلى الشارع، لم تكن المسافة إلى روضة الأطفال قصيرة، مررن خلالها بمدرسة “نور”، أنزلتها لتلحق بصويحباتها في الصف الثاني الابتدائي، عانقتها، فانحنت لها طبعت على جبينها قبلة من آلاف القُبل التي منحتها لوالدها، حين كان يحملها على عاتقه، وهو في طريقه إلى العمل. أذهبت تلك القبلة أوجاع كتفها، في نشوة واصلت المسير، بينما “فرح” تتناوب التنقل بين كتفيها.
كانت الساعة قد جاوزت الثامنة عندما ودعت “نور” أمها بقبلتين على وجنتيها. انتصبت واقفة تتابع طفلتها وهي تعدو إلى فصلها. رفعت رأسها إلى السماء وتمتمت بكلمات، ثم استدارت لتبدأ رحلتها بين المحلات والمكاتب؛ كي تجد عملًا يعينها على أعباء الحياة. لم يكن معها ما يؤهلها لسوق العمل. لقد حصلت قبل سبع سنوات على شهادة الدبلوم الفني، وفي نفس الليلة كان زفافها على زوجها، والذي أثمر ابنتيهما.
انتهى شطر من يومها دون أن تجد عملًا، وكان المطر قد بدأ ينزل، فخفَّت الخُطا إلى روضة ابنتها واصطحبتا معهما “نور” كان المطر شديدًا، فصنعت من كفيها مظلتين كي تقي ابنتيها اللتين ارتحلاها.
انهمكت في المساء في استخراج الملابس الثقيلة وجدت ما يكفي ابنتيها، بحثت لنفسها، فلم تجد غير معطف زوجها كان رماديًّا مبطنًا من الداخل بالصوف مع طبقة عازلة. ارتدته فشعرت بالدفء، رنت بعينيها إلى النافذة الزجاجية، ارتسمت على شفتيها ابتسامة ظفر، فلم تعد تبالي بالمطر ولا برودة الجو.
بينما كانت الأم منكفئة على المائدة ترص الأطباق، فوجئت بابنتها “فرح” تعانقها بحرارة من الخلف. - أبي، ودثرت رأسها بالمعطف الرمادي.
استدارت الأم، واحتضنت ابنتها، التقت عيناهما، نزعت “فرح” نفسها من بين ذراعي أمها واجمة. بينما أسرعت الأم تكفكف دمعة انحدرت من عينيها قبل أن تنتبه لها “نور”، والتي كانت تفرك عينيها بقبضتي يدها.
بعد أن أوصلت الأم ابنتيها إلى مدرستيهما، استأنفت كالأيام السابقة بحثها عن العمل، كانت من الحماسة بحيث يمكن أن تقبل أي عمل وبأي أجر. فقد أنفقت آخر ما تبقى لديها من نقود. وكادت رأسها أن تنفجر وهي تحسب إيجار المسكن وفواتير الكهرباء والماء والغاز، ازدادت دقات قلبها وقد تذكرت أن ما في البيت من طعام لن يسد رمقهم أكثر من يومين.
ولكن عبثًا كان سعيها، فرجعت آخر اليوم صفر اليدين. في المساء بدا عليها الضيق وهي تعالج بطارية هاتفها المحمول، كانت تتواصل مع معلمي ابنتيها، وانقطع الاتصال أكثر من مرة. أشارت إليها ابنتها “نور” أن تستبدل ببطارية المحمول أخرى جديدة، أو تقتني جوالًا أنيقًا وجديدًا. زمت الأم شفتيها، وهي تغلق باب الثلاجة الخاوية على عروشها قبل أن تفصل عنها الكهرباء.
طلبت منها نور مساعدتها في فهم أحد دروس الرياضيات، تناولت الكتاب، جعلت تصعد النظر وتنزله وتقلب الصفحات، كانت هذه المادة هي السبب في حرمانها من التعليم الثانوي، وإلا لكانت كزوجها لا تستعصي عليه مسألة، بالرغم من أنه لم يتم تعليمه. تعللت بأنها مجهدة وأن على ابنتها أن تخلد للنوم، فقد تأخر الوقت. ولما أحكمت الغطاء على ابنتيها جيدًا، عادت إلى أريكتها الأثيرة أمام النافذة الزجاجية المطلة على الشارع، كان الشارع فارغًا من المارة، وكذلك كان الكرسي الخيزران مقابلها خاويًا، قد خيم عليه السكون وأطبق عليه الصمت. سرحت في خواطرها، أخذتها سنة من النوم، قبل أن تقوم فزعة على صوت الرعد، أضاء لها البرق الطريق إلى حجرتها، دلفت تحت الغطاء الوثير، وراحت في سبات عميق.
في صباح اليوم التالي تذمرت ابنتاها بسبب اختفاء بعض الأصناف التي اعتادتا عليها في وجبة الإفطار. عبثًا حاولت ترضيتهما، كانت عين فرح مسلطة على حجرة أبيها، كأنما تنتظر خروجه إليهم. بينما دست نور بعض اللقيمات في جوفها. عوضت الفتاتين ببعض النقود زيادة على مصروفهما، لما رأت الرضا في عينيهما، احتملتهما على كتفيها ومضت بهما إلى مدرستيهما. ثم تابعت البحث عن العمل، كان العمل بمثابة طوق النجاة لأسرة أشرفت على الضياع.
ضاقت بها السبل، وفكرت أن تعاود طلب المساعدة من أخويها، لكنها تراجعت بعد أن خذلاها من قبل، وطردت كذلك فكرة اللجوء إلى أعمام ابنتيها، والذين لم يكلفوا أنفسهم ولو اتصالًا واحدًا.
أخرجت هاتفها المحمول فوجئت بالوقت قد تجاوز الثانية ظهرًا، كيف لم تشعر بزحف الوقت، أسرعت إلى روضة ابنتها نور، لم تجدها، أخبروها أنها عندما تأخرت اصطحبتها إحدى جاراتها برفقة ابنتها، راحت تبحث عنها هنا وهناك، حاولت الاتصال بجيرانها، لكن بطارية الهاتف خذلتها، كادت أن تحطمه على صخرة اصطدمت بها قبل أن تعبر الطريق إلى مدرسة ابنتها نور.
في فناء المدرسة عثرت عليهما كانتا هناك تلعبان سويًّا، وقد تعالت أصواتهما الصاخبة وهما تطاردان معًا فراشة ملونة كانت تحط على غصن شجرة عجوز انحنت من طول ما عمَّرت، حتى كادت تفترش أفرعُها الأرض. ما إن رأتهما حتى استردت روحها التي كادت تفارقها، احتوتهما وغمرت وجنتيهما بالقبلات والدموع. ثم احتملتهما إلى البيت.
احتوت وجبة العشاء على شريحة من اللحم، عثرت عليها في الركن الداخلي لثلاجتها ظهرت على استحياء كآخر ما تبقى من أيام الرغد. اقتسمتها بين ابنتيها ودعمتها بشطائر من الخبز وأصابع البطاطس المقلية والتي يحبانها. لم تشاركهما الطعام، تعللت بأنها أكلت منذ قليل. لكنها كانت تعوض قلة الأكل بالإكثار من مشروبها المفضل، وهو القهوة التي تعلمت صناعتها من زوجها، تذكرت أول فنجان قهوة قدمته لزوجها، بعد أن تناول أول رشفة منه، أخذها من يدها إلى المطبخ، وعلمها كيف تصنع القهوة، وكيف تفرغها في الفنجان. بعد أن احتست مع زوجها قهوته، أخذت رشفة من القهوة التي قدمتها له، أحست بالفارق، فلفظتها كي لا تفسد المذاق الأول. ومن يومها أدمنت شرب القهوة.
طافت بها ابتسامة ذابلة، وهي تتذكر قول إحدى صديقاتها، “إنك من كثرة ما تشربين القهوة، صارت تفوح منك رائحة البن”. وقول الأخرى: “لو علم بك صاحب محل البن، لأوقفك أمام محله وجعلك دعاية لمنتجه من البن”.
كانت قد أتت على آخر رشفة من فنجانها، قبل أن تسرع إلى جوالها؛ لتتصل بعيادة الدكتور “قاسم شكري” والذي أثنى منذ ثلاثة أشهر على مذاق قهوتها، عندما جاء في صحبة زوجها. ذكَّرته بنفسها، ودار بينهما حديث، تحددت على إثره مقابلة لها في الثانية ظهر الغد.
كان العمل في عيادة الدكتور “قاسم” مجهِدًا، يستغرق الظهيرة حتى منتصف الليل. سريعًا استوعبت العمل، فكانت تنظم له المواعيد ودخول المرضى، وكانت بين الحين والآخر تتحفه بفنجان من القهوة، يوقف من أجله فحص مرضاه.
بالرغم من قلة الراتب الذي قدره لها، إلا أنها كانت مضطرة، لاسيما وقد سمح لها باصطحاب ابنتيها معها إلى العيادة. والتي مثَّلت لهما محطة انتظار بين المدرسة صباحًا والبيت مساءً. فكانتا تنهيان واجباتهما سريعًا قبل الاحتكاك بالمرضى، والذين وجدوا فيهما روحًا مرحة كانت تهون عليهم مدة الانتظار.
التهمت الديون والفواتير أول راتب قبضته من عملها، مما اضطرها إلى أن تقترض؛ لتوفر لقيمات لأود ابنتيها، واللتين ضمرتا من قلة الطعام. مرت ثلاثة أشهر من بداية عملها في العيادة، تراكمت عليها الديون، ونالها الهزال، وبدأت تشعر بالتقصير تجاه ابنتيها، فلم تعد تتابع دروسهما كما كانت تفعل.
عدن إلى البيت، تفاجأت بورقة قد دست بحذر في تجويف أعلى باب شقتها. كانت إنذارًا رسميًّا من مالك العقار بطردها وابنتيها. كتمت الأمر عن الطفلتين، والتين كانتا ترمقانها وهي تجلس بينهما واجمة قد تيبست اللقمة بين إصبعيها، نادت “نور” عليها فلم تسمعها. بعد قليل عادت من شرودها، فوجئت بأن “فرح” ليست معهما على المائدة. أخبرتها “نور” أنها دخلت حجرة أبيها.
كانت الساعة قد جاوزت العاشرة صباحًا، عندما صرخت “نور” في أمها:
- لقد تأخرنا عن المدرسة. لماذا نمت كل هذا الوقت؟
قفزت من سريرها كأنما لدغها عقرب، وجعلت تحملق بعينيها في ساعة الحائط، والتي كانت خلفيتها مرآة، أتاحت لها انفراجة عقربي الساعة أن تتأمل التجاعيد أسفل عينيها، انحنت قليلًا، تخللت بأناملها شعرها والذي غزاه الشيب. شعرت بأنها هرمت. نظرت إلى ابنتها الثائرة بعينين غائرتين، أفزعها شحوب ابنتها، شعرت بانكسارها. نادت على “فرح”، خرجت فزعة من حجرة أبيها، سألتها عنه. قالت بحرقة “مات، تركنا ورحل”، خنقتها العبرة فزاد نحيبها، “موت أبيكما قصم ظهري”. ارتعشت قدماها، حاولت أن تتحامل على ابنتيها، قبل أن تدركاها انهارت وسقطت على الأرض كبيت تقوض في موضعه.
د. سعيد محمد المنزلاوي