قصة “حضن فائت”ل د. سعيد محمد المنزلاوي

زينة وأضواء، جمعٌ من القيادات التعليمية، صحافة وتليفزيون، ومنصة يتوسطها نائب عن المحافظ، ووكيل وزارة التربية والتعليم، ضمتهم قاعة الاحتفالات الكبرى بالمحافظة. افتتحت الاحتفالية بآي الذكر الحكيم، تلاه السلام الجمهوري، ظهر على شاشة العرض في مواجهة الجمهور اسم الاحتفالية “تكريم المعلم المثالي”، وفيديو يعرض إنجازات المعلمين المكرمين، تصفيق حاد بعد انتهاء العرض، يتنقل الميكروفون بين الجالسين فوق المنصة.
جاءت لحظة التكريم، تقدم نحو المنصة، في خطوات ثابتة، كان ربعة، يميل إلى البدانة قليلًا، له ذوق في اختيار ملابسه، يجعله يبدو أقل من سنه، رغم بلوغه الأربعين، إلا أنه يحتفظ بشعر فاحم إلا من شعيرات بيضاء متناثرة. زفته التصفيقات الحارة وهو يتقدم لتسلم درع التكريم، لم تكن المنافسة يسيرة، لقد خاض مقابلات وزيارات واحتكمت لجنة التقييم للموجهين والطلاب وأولياء الأمور. كان الإجماع على شخص الأستاذ “شكري” معلمًا مثاليًّا على مستوى إدارته التعليمية، كان جديرًا بهذا اللقب، وكفئًا لهذا التكريم.
أثناء التقاط الصور التذكارية، كانت عينه تتفحص الحضور، كان يتوق لرؤيته، لاحتضانه، أكثر من شهرين لم يملأ مقلتيه بمحياه البهي. عدم حضوره أفقده نشوة التكريم، لم يكن يعنيه أحد من الحاضرين، هو وحده الذي سيفتخر به، سيحصد معه ثمرات هذا التكريم، سيقف بين أقرانه، ويشير إليه، ويقول بملء فيه: هذا أبي. ولكنه لم يأتِ، ولم يقلها.
انتهي الحفل، دون أن يتذكر منه شيئًا، لقد وقف الزمن عند لحظة تسلمه الدرع، بعدها كان لبه وجنانه شاردًا هناك مع فلذة كبده الذي لم يأتِ. تذكر آخر مرة رآه فيها، استوقفه، عانقه، قبَّل رأسه ووجنتيه، أخرج من جيبه بعض النقود وقدمها إليه، لكنه قبض كلتا يديه، كانت عطاياه قبل اليوم تبهجه، كان يرمق أباه وهو يخرجها من جيبه بعينيه العسليتين والابتسامة مثل النبع الصافي تملأ فمه. فما باله اليوم يتنكر له ويرفض عطيته له!
أدرك أن الحضن الذي فات منذ لحظات، كان باردًا، ولم تحرك أوتارَ أذنيه كلمة “بابا”. لأول مرة يضن بها عليه، كان منكسًا رأسه؛ كي لا يواجهه بعينيه، وأكمل سيره. حين تولى، تولت فئام الناس تقديره. أمسى قرير العين، غير أنَّ في الرُّوح ندبة سوداء، وفي القلب جرح غائر لمَّا يندمل بعد.
في اليوم التالي، قوبل الأستاذ “شكري” بحفاوة كبيرة من زملائه، كرمه مدير المدرسة في طابور الصباح بعد الإشادة به وبإنجازاته أمام التلاميذ، والذين أمطروه بوابل من التصفيق، نزل عليه بردًا وسلامًا. لحظتها أدرك أن التكريم الحقيقي للمعلم لا يشعر به إلا في مدرسته، بيته الثاني بين تلاميذه وزملائه، حيث نقاء القلوب وصفاء الأسِرَّة.
لم تكن علاقته بتلاميذه علاقة معلم حازم وفقط، بل كان لهم “أبًا” يستمع إليهم، ويتفقد أحوالهم، كان يرفق بهم، ويبذل كل ما في وسعه لرفع مستوى تحصيلهم.
أثناء شرحه، وقف أحد التلاميذ، وسأله:

  • أستاذ “شكري”، هو أنا ممكن أناديك يا “بابا”؟
    مست الكلمة شغاف قلبه، واخترقته كشعاع الشمس، أضاء جنبات روحه المظلمة، انحدرت على خده دمعة تلتها أخرى، اختلطت دموعه الحارة بدموعه الباردة، كم تاقت نفسه لسماع تلك الكلمة من ابنه “سمير”! هزَّ رأسه علامة الإيجاب، فوجئ بالتلاميذ يهتفون معًا:
  • “بابا شكري”.
    ثم تصفيق حاد غطى على صوت الجرس معلنًا انتهاء الحصة؛ ليخلو الأستاذ “شكري” بعدها بدموعه وأحزانه.
    أثناء رجوعه إلى منزله، تحاشى السير في طريقه المختصر، واستبدل به طريقًا آخر أطول منه؛ كان يخشى أن يلتقي عينيه؛ فيقرأ فيهما نفورًا، ويلمس في جمود كفيه تجاهلًا يذيب بقايا الحنين له في قلبه. كان يشعر كأنما يد من حديد اعتصرت قلبه عصرًا، فأمسى شبحًا باهتًا يمشي بغير ظلال.
    لم يكن بمقدوره أن يستمر في تلك العلاقة المتوترة مع زوجه “رجاء”، والتي تصغره ببضع سنوات، لم تحبه يومًا، خلال زواجهما الذي استمر عشر سنوات، كانت تشعره دومًا أنها مرغمة في الزواج منه. أوهموها أنه الزوج المناسب لها؛ ولكنها لم تسمح له بالولوج إلى قلبها، أو بالتعايش داخل عالمها، أو الامتزاج بمشاعرها. فقد جعلت بينه وبين قلبها سدًّا منيعًا، زادت من سماكته تلك الكراهية التي امتزجت بدمائها، وأطبق عليها فؤادها.
    لم يكن سيء العشرة معها، ولكن روحها أبت أن تأتلف مع روحه، كانت تحلق في فلك غير فلكه، هو يريدها زوجة، وهي لا تراه زوجًا، يمد لها يده، ليعبرا معًا إلى بر الأمان، إن لم يكن من أجله، فمن أجل ابنهما “سمير”. ولكنها تحكم قبضتها على “سمير”؛ كي تسقيه من ذات الكأس التي روت فؤادها ناشرة الكراهية في كل بضعة من جسدها.
    لم تكن “رجاء” تلك المرأة الثلاثينية السمراء، تجيد شيئًا في حياتها أكثر من الرسم، والذي تعلمته في كلية الفنون الجميلة، كانت تتعامل مع الألوان بحرفية تحسد عليها، وكانت تصف علاقتها بزوجها بأنها “رمادية”، فهي تمثل لها الملل، وتتسبب لها في حالة من الاكتئاب تنفثها عبر فرشاتها في لوحات تصف تلك العلاقة المتوترة بالعزلة حينًا، وبالبرودة حينًا آخر، وكان “شكري” يقرأ دلالات تلك اللوحات، فيشعر بغصة في حلقه، ولكنه يكتم أوجاعه بين ضلوعه، قانعًا بما يتحفه به “سمير” من قبلات صافية وأحضان دافئة، لا سيما في تلك الأوقات التي يخلو فيه البيت لهما فيلعبان ويتسامران، أو يخرجان للنزهة معًا، فإذا ما عادا إلى البيت سارا على أطراف أناملهما كي لا يقطع دبيب أقدامهما ذلك الإلهام الذي يسيل من فرشاة “رجاء”، ليتشكل في تلك اللوحات والتي ازدحمت بها شقتهم ذات الغرف الثلاثة.
    جعلت رجاء الشقة كلها مرسمًا ومعرضًا في آن واحد، بل إن المطبخ لم ينج من علب الألوان وحامل اللوحات الخشبي، والذي يجعل تواجد شخصين داخل المطبخ، ضربًا من المحال.
    وبالرغم من تلك الملكة المبدعة، وتلك الروح الشفافة إلا أنها لم تتماس مع روح زوجها، ولم تشعر بطيبة قلبه، والذي لا تعرف الكراهية إليه سبيلًا، بل يقتات من الحب ويعيش عليه.
    مر أسبوعان بعد آخر مرة التقى فيها بابنه، ثم رآه برفقة زميل له، لما لمح أباه، لوح له ببطن يده، من خلف ظهره، فرد له التحية بكلتا يديه. كانت القيود عليه كأسوار السجن عالية؛ كي تحجب الفرع عن أصله.
    كانت تلك الإشارة البريئة من ابنه تكفيرًا منه عن تجهمه قبل أسبوعين. أدرك ما يعانيه ولده من ضغوط؛ كي يبتعد عن أبيه. لكنه اطمأن إلى أن قلب ولده النابض معه، وأنه لا يزال له ذلك الأب، الذي يتعلق به ويحبه.
    وتذكر يوم أوقع الطلاق، وكيف أنه كان مترددًا في التوقيع على تلك الورقة والتي ستحرمه من ابنه، حيث تؤول حضانته إلى أمه، ولكن المرأة المبغضة اختطفت منه الوثيقة ومهرتها باسمها، لتنفث في وجهه أنفاسها الحارقة، والتي أتت على بقايا الحب في قلبه وأحالتها إلى رماد.
    لم يكن قرار انفصالهما أمرًا مفاجئًا، كان كل من يعرفهما عن كثب، يدرك أن الفراق بينهما بين عشية وضحاها. غير أن تسامح الأستاذ “شكري” في حق نفسه، أطال من عمر تلك العلاقة الأشبه بخيوط العنكبوت الواهية، والتي لم تصمد أمام الرياح العاتية.
    لم يكن “سمير” ذو الأعوام التسعة طفلًا عاديًّا، كان في وعيه يتجاوز عمره بأعوام، كان يدرك تفاصيل ذلك الشقاق بين والديه، وإن لم يستوعب ذلك التغير الذي طرأ على علاقتهما، ولم يكن يملك صنع أي شيء. كان يريدهما معًا بجانبه، ولكن الأشهر الأخيرة كانت حبلى بالأحداث، والتي قادت إلى الطلاق؛ لتمارس الأم تسلطًا على الابن؛ لينحاز إليها ضد أبيه، لكنه لم يستجب لها، مما جعلها تنكل به؛ لكنه كأبيه، قلبه الصغير لا يعرف سببًا للكره الذي تصبه عليه صبًّا. لكنها أفلحت بتهديداتها والتي لاحقته بها، أن تعزله شيئًا فشيئا عن والده.
    أصرت أن تنقله من المدرسة التي يعمل بها والده، كما منعته أن يجلس لأبيه، كي يستذكر معه دروسه. وهكذا نجحت في إقامة عزلة بين الأب المكلوم، وبين فلذة كبده، سبقتها سنوات عزلة بين الزوجين، وجاء الطلاق؛ ليمنح تلك العزلة شرعيتها.
    عام مضى لم ير فيه ولده إلا مرتين اثنتين، وبالرغم من أنه يتقاسم راتبه بين نفقة مطلقته وابنهما، وبينه، إلا أن ما يتبقى له لا تستقيم به حياته من مسكن ونفقات ضرورية، ومع ذلك لم يشك، غير أن بعده عن ابنه الوحيد كان يزيد من معاناته وألمه. كان كلما شاهد أبًا مع ابنه، يحس بغصة في حلقه وحرقة في قلبه تزيد من حنينه لولده وتلهفه عليه. كانت نداءات التلاميذ له “بابا شكري”، وبالرغم من براءتها وصدقها، ليست في طلاوتها إذا خرجت من فم ابنه “سمير”.
    سعى لكي تسمح له مطلقته برؤية ولده، لكنَّ مساعيه باءت كلها بالفشل، نصحه البعض أن يلجأ للقضاء ليمكنه من رؤية ولده، لكنه رفض وبشدة. كان يريد أن يأتي إليه “سمير” طوعًا واختيارًا. كان يدرك تلك السدود التي أقامتها “رجاء”؛ كي تحول بينه وبين فلذة كبده. ولكن شوقه إلى أن يضمه إلى صدره كان يعتصر قلبه ويدميه.
    بعد انقضاء ثلثي شهر نوفمبر، احتفلت مدرسته بأعياد الطفولة، كان حفلًا بهيجًا؛ الأطفال بصحبة آبائهم وأمهاتهم، فتش بينهم عن ابنه “سمير”، لم يكن بين الحاضرين. كان يستمع لقهقهات الصبية ومرحهم في صحبة والديهم، وكأنها سياط تجلد ظهره، ود لو عانق ابنه كهذا الأب، ود لو لف ذراعه حول خصر صغيره في حنان؛ لينال بهذا الحضن قبلة على وجنتيه. كانت السعادة تغمر القلوب من حوله، غير أن قلبه كان القلب الوحيد الذي يدمى، وزاد من وجعه تلك المشاهدات التي تصفعه دون رحمة، وتجثم فوق صدره فلا يستطيع إخراج النفَّس.
    حثَّ خطاه إلى حجرة المعلمين يجر قدميه جرًّا في إعياء شديد؛ ليلوذ بين جنباتها من مشاهد الحفل التي أثارت شجونه، وليسمح لتلك الدموع المحتبسة أن تسيل قبل أن تحرق بسخونتها عينيه، كان يريد الفرار من أعين الرقباء، والذين شغلهم الحفل البهيج، فراحوا يشاطرون الأطفال فرحتهم، لكنَّ قدميه خانتاه، فهوى في الفناء، كجبل لمَّا تصدع من داخله خر في مكانه. فتح عينيه، وجد نفسه في غرفة بيضاء، كانت الأسِرَّة والستائر بيضاء، فرك عينيه بقبضة يده، اقتربت منه إحدى الممرضات كملاك في ثوب أبيض، من بين بسمتها الناصعة قالت:
  • حمدًا لله على سلامتك “بابا شكرى”.
  • غمغم، لا يدري بم رد عليها، كان يحس بوجع في مؤخرة رأسه، ربما من أثر سقوطه.
  • هل تذكرني؟
  • هز رأسه علامة “لا”. كان الوجع يتزايد برأسه.
  • (أردفت) كنت تلميذة عندك، منذ ثلاث عشرة سنة.
    رجع بالذاكرة للوراء طويلًا، تذكرها، فمنحها ابتسامة ودودة، كانت تلميذته النجيبة. أرجع بكفه شعره للوراء؛ كي يزيح الزمن، وسرح في خواطره، ما أعجب يد الزمن وهي تحيل البراعم الصغيرة وتكسوها مع الشباب حيوية وجمالًا!
    استأذنته في زيارة بعض محبيه، فأذن لهم، اكتظت الغرفة بالزوار، مكثوا قليلًا ريثما اطمأنوا على صحته، ثم تركوه في وحدته يتمتم باسم ولده “سمير” إلى أن راح في إغفاءة، لا يدري مقدار الزمن الذي انقطع فيه عن العالم من حوله.
    كان الصباح الوليد، قد انفلق وضاحًا بعد صراع طويل مع الظلام، انتصر فيه النور، وأغرق حجرته بشعاع ذهبي من نور الشمس. لا يزال الألم في رأسه، عاوده الحنين لولده، سرح في ذكرياته معه وقهقهاته ومرحه، غلبه النوم فنام، لكنَّ يدًا حانية أيقظته، فتح عينيه فإذا بابنه “سمير”، تراقصت الفرحة في عينيه، فنهض متجاهلًا أوجاعه، اعتصر ابنه في عناق طويل، عادت إليه روحه التائهة، طبع قبلاته على خديه ورأسه وكتفيه، لم يعد يشعر بألم رأسه، زالت أوجاعه وآلامه، ود لو كان بإمكانه أن يفتح له غرفة في قلبه ويسكنه فيها.
    كانت “رجاء” تقف خارج الغرفة، نظر إليها “سمير”؛ فأشارت إليه بالبقاء مع والده، ثم انصرفت دون أن تنظر خلفها.
    تنفس الأستاذ “شكري” الصعداء، وضم ولده إلى صدره مرة أخرى؛ كي يروي جفاف أيامه السالفة، ويطمئن قلبه الموجوع.
    ربما غفر لـ”رجاء” بهذا الموقف كل ما اقترفته يداها، وكل إساءة نالته منها، غير أنَّ في الروح جرحًا غائرًا، وفي النفس انكسارًا لا تستقيم معه الحياة مرة أخرى

د. سعيد محمد المنزلاوي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *