شاطت يدها في مدخل الباب وهي تمسك بالميدالية الممتلئة بالمفاتيح، وانحرفت أصابعها عن ثقب الباب وهي تسمع صوت ضحكات تأتيها من الداخل.
وقفت برهة خلف الباب تستطلع الأمر، تستجمع شجاعتها لتعاود فتحه من جديد.
كان محل الملابس النسائية الذي تعمل فيه مغلقًا منذ الأمس، لحظة أن أوصدت الأقفال على أوتار قلبها، وأغلقت كل المزالج على شقوق الوجع في روحها.
كثيرًا ما سمعت همسًا يدور بين الدمى، خاصة حين تقترب منهن إحدى السيدات القادمات لشراء مستلزماتهن، فتجدها تضحك فيما بينها بأنها تبيع السعادة لغيرها التي حرمت منها، ولا تستطيع شراءها لنفسها.
بالأمس قبل موعد الإغلاق، وقفت أمام إحدى قمصان النوم الحمراء الملتهبة، تتأمله كأنها لم تره قبل اليوم وهي تتساءل بداخلها، ترى ما الذي أعجبها فيه؟
كانت إحدي السيدات قد قدمت بصحبة زوجها لاختيار بعض الملابس، وراحا يتفحصان جميع المعروضات، قبل أن يقفا هنا لدقائق ويتمازحا قليلا ثم يطلبان منها واحدًا مشابهًا.
حسدتها في سرها لأنها تملك كل ما تتمناه، زوجًا وسيمًا، بطنًا منتفخة، ثوبًا شفافًا يبرز مفاتنها الأنثوية، يعصف بكيان أي رجل فيمنحها لحظات من السعادة لا توصف.
لتأخذه بغته في نهاية اليوم، وتتدثره في حنايا ملابسها بصعوبة حتى لا تلتقطها الكاميرات، وفي المساء وقفت تتهادي به أمام مرآتها المكسورة في المنزل.
طرقت عليها الباب والدتها تطلب مساعدتها في أعمال المنزل، أخبرتها أنها قادمة بعد قليل، وهي ما زالت تتمايل به أمام المرآة.
وهناك على عتبات منزلها المُتخيل، وجدت أمامها ذات الشخص الذي رأته بالأمس مع زوجته، يحملها بفستانها الأبيض قبل أن يلج بها للداخل.
وتدور بها الدنيا في أحضانه، وهو يمطرها حبًا وحنانًا اشتهته منذ سنوات صباها الأولى ويمنحها صكَّ أنوثتها الأبدية.
- لماذا لا يتقدم إليك العرسان؟
قذفت إليها أمها بالسؤال الملتف حول عنقها، جذبت طرف الحبل، وتركتها تضيع في براثنه وهي تنظر إليها حائرة لا تجد الجواب المناسب. - ربما يريدون أن أذهب أنا إليهم.
قالتها بتهكم بيد أنها لم تتوقع رد والدتها الذي جاء عنيفا:
-ولم لا تفعلين؟
علا حاجباها من الدهشة وهي تسرح في زبائن المحل وتسأل نفسها هل ذهبت كل تلك النساء إلى هؤلاء الرجال أولًا كي يتزوجوا بهن؟
تذكرت حوارات النساء في الأفراح التي سأمت حضورها، عن كيفية اصطياد العروس لزوجها، والحيل التي قامت بها هي أو والدتها كي يصلوا لهذا اليوم في النهاية، وسماعها لتلك الأمنية التي باتت مستحيلة وهي تلقي مرارًا على مسامعها بعد خبر خطبة إحداهن أو زواجها، وهي مقولة “عقبال فرحك”.
هل تشعر تلك التي تقولها بمدى الألم والمرارة التي تصب في قلبها حين تسمعها؟ أوتدرك الحسرة الذي تحملها بين ضلوعها لليالٍ عدة حتى تفيق ثانية وتعود لحياتها من جديد.
لم تكن بالقبيحة، وأيضا ليست فائقة الجمال، ملامحها الهادئة وبشرتها المتوسطة في منطقة وسط بين الأمرين، يستطيع من يحبها أن يراها جميلة، أما من يكرهها فهي دميمة بالنسبة إليه.
لم تكن تدري أن الجمال أمر نسبي، وأن جميع البشر يحملون جمالًا خُلق خصيصًا لهم قد وضعه الله فيهم، لكنهم قد لا يرونه طيلة حياتهم لقصور نظرهم، وتشتت انتباههم بكلام من حولهم.
وحدهم من يملكون ثقة في النفس، من يشعرون أنهم أسوياء لا ينقصهم شيء، من يرون جمالهم ويملكونه، دون أن تحركهم أهواء الناس وكلامهم.
خطر في بالها حارس العقار المقابل لها ذو الشارب الأسود، والبشرة الخمرية، والأنف المعقوف، صاحب الوجنتين الغائرتين، الذي كان يأتيها في وقت متأخر يسألها عن أي شيء، ثم يغادر بعد نظرات طويلة ممطوطة تاركًا وميض نظراته، ورائحة عرقه النفاذة، أو ربما بائع العصير الذي يمر أمامها ويمنحها كوبا بالمجان في كل مرة مع بعض الكلمات المعسولة، التي تفوق حلاوة عصيره، وأمنيات عديدة بأن يرزقها الله بابن الحلال، لكنها تريد ذاك الوسيم الذي أتاها في الحلم، ببدلته، بضحكته، بأحضانه وقبلاته.
لكنها تعلم أن أحلامها ستبقي حبيسة نفسها، وستمر كما مرت سنوات عمرها، لأنه لا أحد منهم تستطيع مصارحته والتقدم لطلب يده.
لتمر ليالها كئيبة طويلة وهي تتقلب على شراشف الحيرة، وفُرُشٍ من الظمأ.
كانت لا تزال تقف خلف الباب، تنصت جيدًا، تسمع صوت الضحكات تأتيها من جديد.
فتحته أخيرًا، ووقف أمام ذات الدمية التي تسمع صوتًا يأتي من ناحيتها، تأملت ملامحها الصفراء للمرة المليون، وهي تتساءل في نفسها لماذا ترى فيها روحًا شريرة تتربص بها في كل مرة؟ وتستشعر حقدها الدفين المسلط عليها؟
جمعت الدمى ومعها كل الأقمصة أمامها وقد أخذت قرارها الذي سينهي مأساتها..
سكبت عليهم الكيروسين وبعود من الثقاب المشتعل ألقته فوقهم لتتراقص أمامها ألسنة اللهب الحمراء، وتعلو رويدًا رويدًا، فيهدأ بداخلها الحريق.
الكاتبة سوسن محفوظ