“هل سمعت ماذا قال لي يا أخي؟ قال انزع وزرة العمل وتفصل وهو يشير بسبابته نحو الخارج المشؤوم. منذ عشر سنوات وأنا أعمل معه في هذا المقهى اللعين. عندما كان الزبائن قليلين، كان يناديني بصديقي وعزيزي، ولكن عندما أصبح الزبائن كثيرين بدأ يفتعل المشاكل لكي يتخلص مني ويعوضني بغيري كأننا أقمصة رياضية. هذا هو حال الإنسان الذي بات ماديا متعفنا.”
هذا ما قاله النادل لأحد الزبائن الذي ناوله ثمن مشروبه. لقد بدا هذا الزبون للنادل شخصا غير مألوف فاشتكلى إليه على هذا النحو. أخذ النادل يدير عينين في أرجاء المقهى، فبدا له كأن كل ما في المقهى بدأ ينظر إليه في تلك اللحظة العصيبة: منهم من بدا له يضحك عليه، ومنهم من ظهر له يتغامز عليه، ومنهم من بدا له يسخر منه. ولكنه من حين إلى آخر كان يختلس النظر إلى صاحب المقهى الذي كان هو الآخر يراقبه بشكل مكثف من مكتبه الأنيق.
كان النادل يتوق شوقا للتحدث مع ذاته، ولكنه وجد نفسه هذا اليوم منهمكا في تلبية طلبات الزبائن الذين كثرت نداءاتهم وصيحاتهم بشكل غير عادي. وبينما هو يحمل قهوة سوداء لأحد الزبائن الذي كان يجلس في الجانب الخارجي للمقهى المطل على الشارع العام، سمع صوت التلفاز يرتفع قليلا قليلا إلى أن أصبح يصم الآذان. إنها عادة اعتاد عليها الزبائن في كل مرة تبدأ فيها مبارة كرة القدم. بقي النادل واقفا أمام سارية إسمنتية ينظر إلى الشارع الذي أضحى في هذه الساعة مكتظا بخلائط البشر والسلع والسيارات. فراح يحدث نفسه قائلا:
“لقد بدأت مباراة كرة القدم الآن؛ طلباتهم سوف تتوقف قليلا. إنهم إما أن يتكلموا جماعة أو يصمتون جماعة. يا لها من عقلية قطيعية! لم تعد لي رغبة في متابعة هذه المباراة ما دام رزق أولادي أصبح على المحك. الملهاة الحقيقية هي التي ستبدأ بعد حين في تخوم ذاتي. كنت سأشبعه ضربا وركلا لو لا طلبات الزبائن المتزايدة التي كانت تهدئ غضبي. في كل الأحوال كان علي أن أبدأ الشجار، وأنهم لا محالة كانوا سيتدخلون فيما بيننا حتى لا يحدث هذا؛ من هذه الناحية فكلهم مثاليون، خصوصا في المقاهي. المتعفن اللعين قال لي ضع الوزرة وتفضل، كأنه هو الذي يوزع الأرزاق على العباد. غدا سأبدأ البحث وسأجد عملا أحسن من هذا بكثير. لماذا لا؟ لقد أصبحت ماهرا في خدمة جميع انواع البشر. خروجي من هذا السجن الرمزي فيه خير. إنني دائما أجد نفسي مسجونا بين هذه الجدران من الصباح إلى منتصف الليل. إنني أريد أن أستنشق الهواء النقي، وروائح السجائر والعرق من هذا النوع لا محالة ستمرض رأتي إذا أنا بقيت هنا مدة أخرى. إنها فرصة مناسبة للخروج من هذه العفونة. أقسم بالله! لن يجد مثلي من حيث التفاني في العمل والجدية والمعقولية.”
ارتفع هرج الزبائن وصراخهم وتصفيرهم مرة اخرى. نظر النادل إلى التلفاز فاكتشف أن أحد أفراد الفريق ضيّع فرصة التسجيل في المرمى. سمع بعد ذلك صوت ارتطام الكؤوس والقنينات الزجاجة مع الأرض، فهرع يبحث عن المكنسة لتنظيف المكان. بينما هو ينظف الأرضية من حطام الزجاج، التفت جهة صاحب المقهى فوجده غارقا في الضحك والقهقهة. فقال بينه وبين نفسه:
” إن الحقير يتمنى لي العذاب الأليم رغم ملتزمات وتجهيزات مقهته يراها تتحطم أمام عينيه. والحقير الآخر الذي ضرب الطاولة بقبضة يده لينفض الطاولة وما عليها لا يعرف حتى اسمي الفريقين اللذين يلعبان. على الإنسان أن يسلك منهج التغير في حياته حتى يتفادي وجوه النحس التي هي على هذه الشاكلة، ثم يفلت على الأقل من الملل والركاكة والدناءة. كم تمنيت أن يمر هذا اليوم بأكبر سرعة ممكنة. لقد بدأت أشعر بالتقزز والمرارة. لم ينادوني أحد هنا حتى باسم، كأنني قنينة مشروبات. إذن، من اليوم فصاعدا فكرامتي فوق كل اعتبار.”
مر عليه ذاك اليوم بطيئا ثقيلا. وعندما دفع لصاحب المقهى حسابه اليومي بالتمام والكمال، ركب دراجته النارية وانطلق شطر بيته. كان الجو ربيعيا دافئا، فشعر بسعادة لم يسبق له أن شعر مثلها من قبل، كأن حرية الطفولة التي فقدها في زمن بعيد عادت إليه مجددا. وحينما راح يقترب من البيت، قال لنفسه:
“إذا لم يحالفني الحظ وتأزم الوضع، سأضطر لبيع دراجتي هاته وأنفقها على مصاريف الحياة ريثما أجد عملا جديدا. لن أعود إلى باب ذاك الوغد مهما كلف الأمر. على الإنسان أن يعيش بطلا ولو مرة واحدة في حياته.”
ترجل دراجته النارية وفتح باب العمارة التي يقطن بها، فوضع الدراجة في ركن يوجد في تجويف الدرج السفلي. فراح يصعد الدرج بتباطؤ، كأن حياته انقلبت رأسا على عقب. إنه يستأجر شقة في الطابق الثالث أكثر من أربع سنوات. إنه اعتاد أن يؤدي واجب الإيجار في الوقت المحدد. فتعاهد مع نفسه أن يحافظ على هذه العادة ما أمكن. فاستغرب بعد ذلك لماذا اتت هذه الفكرة إلى ذهنه؟ أدار المفتاح في قفل الباب ودخل، ولكنه تفاجأ لما وجد ضيفا جالسا إلى جانب زوجته في الغرفة الصغيرة المخصصة للجلوس. لم يسمع أصوات أولاده الثلاثة في أرجاء البيت، فتأكد بأنهم ناموا.
فخاطبته زوجته قائلة:
-لقد تأخرت كثيرا هذا اليوم يا سعيد!
فقال بعد أن تبادل التحية مع زوجته وحماته:
-كانت مبارة كرة القدم هذا اليوم. لقد بدأت في وقت متأخر.
نظرت زوجته لأمها بحنان وأضافت:
-لقد حاولت أن أتصل بك أكثر من ثلاث مرات دون أن تجيب. كان هاتفك يرن في كل مرة. كنت أود فقط أن أخبرك بقدوم أمي.
نظر تارة إلى زوجته وتارة أخرى إلى أمها وهو يردد في قرارة نفسه:” سبحان الله! الأقارب والأحبة لا يظهرون إلا في الأوقات العصيبة. تبا لهذه الحياة التي صارت باعثة على الغثيان.”
صمت قليلا تاركا استفسارها معلقا، لأنه يعرف بأنها عارفة بظروف عمله، وأنها تكلمت على هذا النحو فقط لتظهر لأمها بأنها تستعمل الهاتف في التواصل مع زوجها. لكنها أضافت بعد لحظة:
-بالمناسبة، لقد كانت هنا خديجة قبل قليل، وقالت بأنها ستسافر في بداية الشهر القادم. لقد طلبت منك بالحاح أن تُقَدِّم لها واجب الإيجار الخاص بالشهر الخامس.
نفخ سعيد نفخة طويلة دالة على السخط. فكانت زفرة غير متوقعة بالنسبة لزوجته، فالتزمت الصمت. كان قد عزم أمره قبل أن يصعد درج العمارة أن لا يظهر أي علامة من علاقات القلق والانزعاجه والضيق، ولكن الظروف الخائنة لا تقود إلا إلى ما يخشاه الإنسان الذي أمسى تحت القصف الكثيف. تظاهر بالعياء والتعب فتسلل إلى غرفة نومه بعدما اعتذر عن عدم تناوله وجبة العشاء معهما. فتش عن حقيبة جلدية فوجدها هناك تحت السرير في وضعية إهمال طويل الأمد. كلما أصيب باليأس والاحباط يعود مهرولا إليها. ولكن هذه المرة وجدها في حالة سيئة. لقد كساها الغبار وتقشر جلدها بالكامل. نظر إليها بحزن فأخرج منها شواهده الجامعية ودبلوماته المهنية. فقال بينه وبين نفسه: “لقد تألمت كثرا في هذه الحياة! أظن هذه المرة سأعثر على عمل مناسب، لأن الشواهد والدبلومات من هذا النوع قد أصبحت علامات نادرة في هذا الزمن.” فوضعها في ملف أنيق ونام قرير العين.
في الصباح استيقظ باكرا؛ كما يستيقظ أي إنسان ويجد نفسه في جحيم رهيب بسبب شبح البطالة والفاقة والندرة. اتكأ على قلبه رغما عنه، وركب دراجته التي ازدادت قيمتها أضعافا مضاعفة من أول أمس إلى صباح هذا اليوم. قرر أن يغير الطريق الذي اعتاد أن يعبره كل صباح. انطلق بين الدروب والزقاق والشوارع الواسعة والضيقة وهو يفكر في كيفية عثوره عن عمل مريح. فجأة تذكر صاحب المقهى اللعين، فقال:” لا أحد سيعمل معه هذا اليوم. لا شك أنه يشعر الآن بالندم على فعلته الدنيئة. كان عليه أن لا ينزل ضغوطات حياته علي ما دام كل واحد منا لديه ضغوطاته الخاصة. إنني متأكد أن الزبائن يشكرونني في غيابي على تعاملي معهم وخدمتي لهم. إنهم غالبا ما يكونون قد رجوه لكي يحسن إلي باحتفاظه بي في مقهاه. إن السيرة الحسنة للإنسان هي التي تلمّع صورة وجهه في غيابه. هذا بالإضافة إلى العادة التي هي الأخرى ستلعب دورها في المحافظة على حركات ودوام الأشياء كما كانت عليها.
أخذ يهذي على هذا النحو وهو يتقدم حتى وجد نفسه يُوْقِف دراجته أمام باب مقهى صديقه اللعين. فتجاهل كل ما دار بينه وبين صاحب المقهى من سوء تفاهم. بينما هو يهم بدخول المقهى، اعترض سبيله صاحب المقهى وهو في حالة من الهيجان والسعار، كأنه رأى شيئا غير متوقع ماثلا أمام عينيه. فقال له وزبدة الغضب على ثغره:
- قف مكانك! لا تحاول! أنت مطرود!
-أستحق! لقد فعلتها العادة وأنا في غفلة!
الكاتب هشام الحجي السعيدي