قصة قصيرة ماء حياء معلب للكاتب سيدة بن جازية


تقطعت أنفاسي منفردا في زنزانتي ، مصفدا بالأغلال، نعيب بوم يواسيني في منفاي والطقس المتجمد يكاد يهشم ثلوجي. انتظر في استبلاه مصيري المحتوم غير عابئ بغير انتشار الحلم الموؤود في أمتي . صوت من الداخل يناصرني بينما الصمت المطبق يكاد يفتت أوصالي، احتاج فقط إلى بعض الصدى كي أشعر بوجودي ، ماذا لو نطقت هذه الجدران الخرساء ، ماذا لو بادلني السجان حوارا بلغة أفقهها ، ضاعت الحنجرة ، ابتلعها الجفاف و النبع في الباطن يجري دون نهاية . ذاك السر يتردد مئات المرات في اليوم على مسامعي،
يؤرقني ، يكاد يزهق روحي العذبة ، يخشى الإبادة .

حين داهموني ذاك المساء كنت أرتشف آخر قطرة من روائي، أفنيت العمر أنقب عنه تحت سواد الأرض المعطشة في كامل السرية ، أكملت كل القصة ” لصحراء” ارتجيتها أن تنشر الحقيقة لكل حبة رمل، لكل هباءة في الفضاء، لكل شعلة نار ، لكل من لازال حرا لا تخيفه الحقائق الأربع.


_ لا أحد سيصدق الفكرة، سيعتبرونني أهذي ! لكنني وعدت السيد” فرات “بالنضال. ربما تكون بين الآذان أذن صاغية و بين الألسنة لسان صادق و بين العقول عقل مدبّر،
رجفة قلب انعكست على يدي وأنا أمسك الجهاز اللاقط، و الحاسوب و كل آلاتي، أبحث فلا أجد إشارة … أحاول من جديد… انقطع البث… أظن وجود من يتجسس عليّ فيمنعني التواصل عمدا .

أهيّئ نفسي من جديد للبوح رغم كمّ المخاوف ، يتطلّب ذلك مني عزيمة معدنية لا تكسر.
خلعت معطفهم الأنيق ،ٱخر هديّة تحصّلت عليها كهبة .

ظهرت إشارة… نعم نجحت!!!

بكل وعي و مسؤولية سمعته يكشف أسرارا أزلية حاول الكل طمسها ،وهو يخفي كل الأدلة والبراهين المادية أبا عن جدّ كقميص يوسف النقيّ وقد حمّلني عهدة نشرها :

_ألو،ألو… هل يصلكم الصوت ؟ هل سمعتموني؟


يقول فرج الله كربه :

« كيف سأقنعكم ؟
ليس من السهل تخطّي الحدود …
الكاهن لن يقبل بذلك و ربما يقتصّ مني.
هل يجرؤ؟ هل تسمحون له بذلك؟

لقد امتلكوا كل السيادة وانتهى الأمر، لكنني سأحاول . صه!
في ذاك اليوم ؛ منذ أمد مديد ؛
مرّت بالخاطر فكرة ؛ أرهقتني، لأنني مقتنع بنسبي الشريف، لست لقيطا، لي أبوان شرعيان و عائلة شريفة قبل تشتيتنا وقطع حبلنا السرّي …

بلغتني إحدى الروايات تقول على ألسنة مدسوسة أن النيل فكّر مرة أن يبحث عن أبنائه الشرعيين رغما عنهم، ، وأنه اشتاق لجمعهم اللطيف شوق أب رؤوم في أرذل العمر ،تحسّبا لأي طارئ .

هدّده كبار المرابين أن لا يذكر قصة زواجه من” دجلة” أبدا وإلا قطعوا أوصاله بين الدروب وهتكوا عرض أبنائه و أحفاده حيثما كانوا ، أرعبته خديعتهم ” أنه تزوّج أمّه وأنجب ابنا غير شرعيّ أسماه ” فرات ” ،وأنه نذير شؤم متى اقترن اسمه به ” إذا أنا ذاك المدّعى عليه ، أنا بذرة الشرّ و سليل الإثم حسب زعمهم ،كيف أصمت لهذا العار ؟ مكر مندسّ بين اللئام ملثّم بالهمز واللمز والدسائس المسمومة .

واصلوا التخطيط و الترهيب ، باحوا بالتميمة ؛ متى اجتمعوا كعائلة متّحدة وقعت الواقعة وصار ماؤه أجاجا فيجفّ الزرع و يهتك الضرع ويفنى النسل.

اهتزّت للخبر كل الأودية و الأنهار وخشيته كل المنابع و العيون فأطبق الصمت على الضفاف حفاظا على حياة البشر و كل الكائنات. ضحّى الجميع من أجل الصالح العام. واستمر الحال في شتات حتى ظنّوا أن الوضع تحت السيطرة.

من يجرؤ و الجرأة محكومة بالإبادة ؟
التفوّه بأي كلمة تهديد للأمن العام، كل الجهات تدخّلت للتبكيت و التكميم ، سنّوا نظاما عامّا لحماية السرّ الأعظم. وحاربوا ببسالة كل محاولات الإرباك .
بين الفينة والأخرى تسري همهمات و نمنمات لا تبلغ حدا كبيراً أن النيل أب شرعيّ لكل قطرة ماء عذب و أن ابنه لم يكن قطّ
بذرة حرام , لكنهم يحرصون فكرة الشتات ،مهاجمين تلك العائلة . يا إلاهي إن النبع العظيم كامن في جوف الأرض يوحّدنا يزمزمنا ، فلِمَ الخنوع؟! دجلة لم تكن قطّ أم النيل حتى يدّعون الخطيئة فيصمت الجميع .

يد خفية حركت الأجواء فسرّبت عدّة شائعات، عمّ الانقسام والتشرذم كل التجمّعات المائية والمستنقعات و الأودية و الأنهار و السواقي و الآبار في جهتنا الشرقية فقط .

توسّعت الفكرة و دبّت نخوة في الأرض، رغبة ملحّة في إثبات النسب، تردّد بعض المجاري والسواقي ما بلغها ، كلنا للنيل والنيل عذب رقراق ، خيره وفير ما لم تنهبه أطماع المغرضين و الغاصبين و الدعاة و الحماة و الخانعين…

شك “وادي مجردة” في حقيقة نسبه كذلك، بحث عن أمه و أبيه وجد بقية إخوته يرتضعون من النيل ،يحملون نفس قسماته،، تشغلهم نفس الهموم ، اشتم رائحة سر يتكتّمون عليه من مصر حتى السودان ف….
انتابه ذهول كيف يكون ابن النيل ؟ كيف لم ينتبه للأمر منذ قرون ؟ كيف أعمت الشائعات المغرضة حقيقة الأبوة وشرف النسب؟

أصبح الأمر شغله الشاغل، بحث في سبل التثبت و التحقيق.
طالب المحكمة العليا بتحليل حمضه النووي لإثبات النسب .
ثارت كل الأودية للظاهرة الجديدة، تجمّعوا للبتّ في المسألة،
وادي زرود ، وادي مليان ،وادي الرغاية ، وادي الحراش ،وادي الرمة ، وادي غليلة ، وادي الذهب ،وادي القصب ، نهر العاصي ، ولدي هور ،وادي الأخضر …

أمر أزعج القيادات العليا،أربك المخابرات وزعزع كل القناعات .تسرّبت منهم مخاوفهم عبر التسجيلات : سيتوحّدون من جديد ، ستسري مياه الحياة المليحة فيهم ،سيتكتلون بعد كل جهودنا المبذولة للتفرقة والتشتيت.

تحركت كل الجهات النافذة للتضليل والتعتيم، بعض الماكرين حاولوا التزوير و التشويه لكن النتيجة كانت قاصمة للظهر.

وجدوا حقيقة ثابتة علميا؛ كل المياه تحمل نفس الحمض النوويّ ، بتركيبة نيليّة زكيّة أصلها ثابت و فرعها مزن في السماء، لن يختلف اثنان حول تزاوج صريح حلال بين الاثنين، واحد أوكسيجين مع هيدروجانتين. شرقية و غربية.

ردة فعل هوجاء مفتعلة، هرع الجميع لكسر كل السدود و السواقي، بثوا الفتنة في كل شبر شرقي، غمرت المياه كل الأراضي والصحاري و انهمرت مجاريها دون حواجز. لكن ربّ ضارة نافعة.
انبثقت جنة خضراء، أينعت ثمارا مختلف ألوانه وأشكاله
لم يجد البشر سببا للخصومات فركنوا تحت الظلال الوارفة يتفاكهون و انقشع عنهم الضباب .

انزعج ابليس من الوضع، ألقى مفاتيح مخازن الشر بالوادي.
غرفة واحدة اغترفها الناس سطعت الحقيقة كاملة. نادوا بالوحدة و نفروا من الشتات .
ركب الكهنة المخربون ملح البحر بحثا عن أرض أخرى للصدام. رشقوهم بوابل ناري ، من القنابل و الصواريخ دون استسلام حتى خربوا أرضهم وسماءهم ، ثم باعوهم عمدا ماء معلبا غير تركيبتهم و هدر كرامتهم.
نصيحتي لأبنائي، لا تهدروا منابع الحقيقة حتى وإن قضيت نحبي في السجون ، كونوا واحدا صلبا لا يقهر .»


_ ألو ،ألو ، هل تسمعون ؟
_ حتى الهواء امتلكوه!

ٱقف الآن وحيدة محتارة ، لا أعرف كيف لي أن أنشر حقيقة معلبة، لا تحمل تاريخ صلوحية. و المزن قد نفر أرضا تبتاع كل شيء معلبا ولا تكترث لأي فتيل. حتى ماء الحياء أصبحنا نستورده معلبا بينما وادينا يجري أحمر قانيا ،
انهالت معاول متحدة من الجن والإنس تنهش الأرض نهشا تكسر طوق الجفاف ، لتعيد مجرى المياه الوحيد بعمق أرض محتلة و هواء محجوز بالنار مكبل بخيوط العناكب .


_ قضينا على الجميع و استتب أمننا أخيرا .


طوفان معلب يغمر زنزانتي ، أرتفع نحو السفينة أرجو النجاة،لم تسعني أحاول مرات ومرات ، يخزني نتوء ،أكتشف أنه دلو تتجمع به قطرات تئن …

الكاتبة سيدة بن جازية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *