قصة (هَمَساتٌ دافئة) للقاص عبد الصمد الشويخي

كتبت تقولُ: لماذا تبدي رغبةً دائمةً في الحديث معي وترغب عن الكتابة لي؟!

هل سَئِمَتْ حروفُكَ جوابي أم استعصت حواجز الخوف عندي، وجدرانُ الصَّمت لديَّ على سطورك الدافئة، وكلماتِك المشعَّةِ فلم تستطع اختراقها؛ فأردت أن تكون نبرات صوتك هي المهدئة لمخاوفي، والباعثة لكوامنَ أحلامي والمسيطرة على خيالاتي؟!

أترى أنَّ الهمساتِ الدَّافئةَ واللَّمَسَاتِ الحانيةً تتدفق عبر أثير كلماتك عن حبِّك لي، وتفيض من بينِ جنباتِ قلبك؛ لتلامسَ رُوحي، وتسكن أعماقي.

– إنَّني قد كتبت لكِ كثيرا من الرسائل يضمِّخها الحنين بأريجه، ويستولي عليها بعطره المميَّز الفوَّاح، و سطَّرتُ لكِ قصائد غزلٍ تعجُّ بالشَّوق وتفيض بالدَّمع، و دبَّجْتُ عنكِ قِصَصًا كثيرةً تقطِّرُ بهجةَ الأيَّام ، وتهديها لكِ و أبدعتُ حالات( واتس أب) تعبِّر عمَّا يختلجُ بصدري من وجدٍ وعشقٍ لكِ، وولهٍ بلون عينيكِ الصَّافيتين اللَّوزيتين الدَّاكنتين؛ لكنَّني أريد التَّعافي، وتجاوز تلك الآلام المستقرة بالقلب أريد أن أتخطى مصاعب الكتابة، ومتاعب المراجعة وتصويب الأخطاء اللُّغويَّة والاملائيَّة، وتنقيح ما تم تدوينه؛ فللكتابة جروحٌ وقروحٌ تلازمها وعللٌ تصاحبها، وآفاتٌ وآهاتٌ وزفراتٌ وعبراتٌ فما نكاد ننتهي منها إلا و تترك بقلوبِنا ندوبًا بارزةً كتجاعيدَ عتيقةٍ بوجه عجوزٍ عاند الزَّمان، وعانى ويلاته؛ فالكاتب كأسيرِ حربٍ وقع بقبضة عدُوٍّ غاشمٍ؛ فتعرَّض لنوبات تعذيبٍ؛ لإجباره على الاعتراف بجرائمَ لم يرتكبها، ولانتزاع أقوال واعترافاتٍ، ومعرفة أسرارٍ تخصُّ وطنًا يحبُّهُ؛ فيلاقي صنوفًا من المذلَّة والهوان لا لشيءٍ إلَّا لحبِّه لوطنه… نهرب من أقلامنا خوف تلصُّص متلصصٍ يرغب في السَّطو عليها، ومحاكمتنا على أفكارنا وتصنيفنا حسب رؤيته المنحازة أو المتحيزة يرى أنَّنا إن لم نكن معه فنحن بالطِّبع ضدَّه… أفقٌ ضيقٌ، وفكرٌ جامدٌ وصدرٌ يضيق ذرعًا بكلِّ جديدٍ مغايرٍ مخالفٍ….لا تتعجبي فالمرءُ لا يعودُ للكتابةِ إلا إذا كان متعبًا؛ فمساحةُ الجرحِ تتجاوزُ حجمَ الطَّعنة مرَّاتٍ ومرَّاتٍ، وحينما يعاودُ إمساكَ القلم لا يكون بخيرٍ، وأنت تدركين كم هي قاسيةٌ أيَّامي بدونِكَ رتيبةٌ مملَّةٌ مكرَّرةٌ تتلُّونُ جميعها بلونٍ رماديٍّ باهتٍ؟! أشعرُ بأنَّ رُوحي مهزومةٌ بدونِكِ قد سكنتها أشباحُ الظَّلام وشياطين الشعر المارقة المتمرِّدة الفارَّة من وادي عبقر … وكلَّما تحطَّمت آمالي أحاول اللِّحاقَ بركْبِكِ لكنَّ زادي قليلٌ لن يبلغني فقد وهنت قُوَّتي، وقلَّت حيلتي وضَعُفَتْ عزيمتي وتناثرت أشلاءُ العشق بنوافذ قلبي، وتبعثرت في دمي، وساد الصَّمت، وتاهت كلُّ المعاني الجميلة في مخيِّلتي، وأضحت أحلامي كجثةٍ هامدةٍ بلا حُرَاكٍ؛ فقد تعوَّدتُ أنْ أكون مُسَكِنًا لأوجاعِ الآخرين، فحين يُلْقُون بهمومهم ومشاعرهم في سفينتي الغارقة أسعى بكلِّ قوتي؛ لانتشالِ جثثهم، ومدِّ حبال الصَّبر لهم؛ ليكونوا بخيرٍ… أحاول تبديدَ مخاوفهم، وما يعتريهم من قلقٍ… بداخلي ألفُ بركانٍ وبركانٍ جميعها يستعدُّ للانفجارِ في التوِّ واللَّحظةِ لكنَّني لا أُخْفِيكِ سِرًّا لم يعد لديَّ طاقةٌ لاحتمالِ المزيدِ، وليس لدينا القدرةَ؛ لاستيعاب التَّقلبات والتَّغيرات والبعد والقرب والمدِّ، والجزر؛ لكنِّني أنصحكَ حينما تقرِّرُ الابتعادَ عن سمائي والرَّحيل عن جُزُرِ قلبي الَّتي احتللتها… أخبرني بموعد رحيلك عنها وعني ؛فأنا لا أحبُّ الانتظار ، وحينما ترغبُ بألَّا يكونَ هناك المزيدُ من الأحاديث بيننا أو أنْ تضع حَدًّا فاصلًا للتَّواصل والتَّراسل بيننا …حينما تحاول غلق هاتفك أو أنْ تضع أرقامي قيدَ الحظر… حينما لا تجدُ بداخلك الشَّغفَ للرِّد على رسائلي؛ فتأخذ وقتًا طويلًا لقراءتها أو تتغاضى وتتغافل عند رؤية ما أكتبه لك… عندما تتمتم في صمتٍ، وتهزُّ رأسك بالموافقة على آرائي أو الامتعاض سخريةً منها وبها… رجاءً عليك موافاتي بأنَّك لم تعد تهتم دون أنْ تذكرَ تفاصيل ذلك أو أن تسرد أسبابًا لفعلتك… لا تخف لن يزعجني الأمرُ مطلقًا فكم من صديقٍٍ أو رفيقٍ أو حبيبٍ كنَّا على استعدادٍ لعبور المحيط للقياه، و مقابلته، واحتضانه؛ لكنَّه لم يكن مستعدًّا لعبور الشَّارع المجاور لبيته أو الطريق الموازي له؛ لمقابلتنا… يستنكف أن يمدَّ يده مصافحًا لي أو أن يومئ بالسَّلام إشارةً من بعيدٍ لبعيدٍ؟!

– كنَّا نعتذرُ عن أخطاءٍ لم نفعلها أو أشياء لا تخصُّنا وأمورٍ لا تهمُّنا… كنَّا مفرطي الحساسيَّة ضِدَّ كلِّ ما يزعجكم نريد أن نأتي لكم بنجمةٍ من السَّماء إن طلبتموها أو لبن العصفور إن أردتموه ما استطعنا إلى ذلك سبيلًا تمنينا أن نحظى بأجوبةٍ لأسئلتنا البسيطة لكنَّها الحياة وحدها علَّمتنا أنْ نكون رفقاء بأنفسنا وأن يكونَ لطموحاتِنا وأحلامِنا أجنحةً تطيرُ من فَنَنٍ إلى فَنَنٍ… أن نكونَ نحنُ فقط أصدقاءَ الدَّربِ والطَّرِيقِ… أنْ نَدَعَ ما يُضَايقُنَا، ونَتُرُكُهُ جانِبًا، ونَحْشُرُهُ في زاويةٍ ضيقةٍ نتساءل :ما الخطأ الذي ارتكبْنَاه؟! وما الذَّنبُ الَّذِي جنيناه؟! لماذا يحاكِمُونَنَا على الأحلامِ، ويحجبون الشَّمسَ عنَّا بالأوهامِ؟ لماذا أكونُ سَيِّئًا في روايةِ مَنْ قَدَّمْتُ له كتفي؛ لِتَكُونَ مُتَّكَئًا لرأسهِ، ونمنحه قمحَ أحلامِي، وجعلتُ خبزي الَّذي أنضجتْهُ نيران شقائي واغترابي له زَادًا؟!

لماذا خانني مَنْ كانت عيوني تلمع لسعادته، وتَشِعُّ نورًا، وبهجةً؛ لفوزه ونجاحه؟!

لقد تألمنا بما يكفي لندرك أنَّ الأشياء الجميلة مؤقتةٌ وأنَّ البدايات مهما كانت رائعةً قد تنطفئ جذوتها وأنَّ حقيقة الأشخاص تنبع من نقاء معادنهم وطيب أصلهم؛ فقد يتغير البعض وقد يتبدلون… تعلَّمنا ألَّا نخبر أحدًا عن أوجاعنا؛ فبعضهم خبيرٌ في مضاعفة الأوجاع، وبعضهم سيبالغ في أذيتنا مهما فعلنا معهم … علَّمتنا الحياةُ ألَّا نعطي الثِّقةَ المطلقة لمن لا يستحقُّها؛ فالَّذي انكسر فينا لن يعود مجدَّدًا كما كان ولو اجتمعنا له… كما تعلمنا أنَّ الألم والوجع سيكون بقدر ما نمنح من حبٍّ وودٍّ وأنَّ الأيَّامِ حبلى بالمفاجآت فما زالت تخبئ في جعبتها الكثير وأنَّ الصَّبر حتمًا سيتبعه جبرٌ.

القاص عبد الصمد الشويخي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *