- لقد مات أبوك!
كانت نبرات صوتها باردة كبرودة الجو في شهر يناير. فتح نصف عين كليلة من طول السهر، لم يكن قد نام غير ساعتين لم تكفِ لأن يغامر بالنهوض، وضع إحدى الوسادتين فوق رأسه بطريقة مقوسة؛ ليحجب عنه الأصوات. - لقد مات أبوك!
كان صوت الأم هذه المرة صارخًا؛ ليصدم حالة اللامبالاة التي اعترته، وبالرغم من أنه فتح عينيه كليهما، محدقًا في عين أمه؛ كأنما ليتحقق من صحة الخبر، إلا أنه وضع الوسادة الأخرى فوق رأسه وأخلد إلى النوم بعد أن تمتم بكلمات غير مفهومة. نفضت الأم يدها، وكأنها قد أدت ما هو مطلوب منها، وليس لها حيلة.
على مائدة الغداء ساد الصمت بين الابن وأمه، كلاهما كان يزدرد الطعام في فتور، وقاما ولا يزال الطعام كما هو.
بينما كانت الأم تغسل الأواني في المطبخ، صرخت في ابنها: - أغلق التلفاز.
- أريد أن أشاهد.
- ألا تعلم أن أباك قد مات؟ (هدأت نبرة صوتها حتى أصبح خافتًا) ماذا لو سمع الجيران صوت التلفاز؟
- (أغلق التلفاز في تذمر) ثم خرج لا يلوي على شيء.
في المساء، سألته والدته: - هل عزاك أحد في والدك؟
- (في تثاقل) أومأ برأسه علامة الإيجاب. تحركت بعض الكلمات على شفتيه، لكنه وأدها.
- (في رثاء) نظرت إليه الأم، ولم تنطق.
عصفت الريح بشدة فانفتحت نافذة حجرة الأم، كانت الريح من الشدة بحيث تهشم الزجاج عند ارتطامه بالحائط، حاولت الأم نزع بقايا الزجاج من النافذة، لم تنتبه لإحدى القطع المدببة مما أحدث جرحًا عرضيًّا في معصمها أشبه بالسوار. بعد أن أزالت بقايا الزجاج المكسور ضمدت جرحها، ورقدت على الفراش تستجدي النوم ولكنه لم يأتِ، وكانت الريح تعزف مع النافذة المكسورة المتأرجحة سيمفونية حزينة.
غابت الشمس في صباح اليوم التالي خلف الغيوم، وهطلت السماء بشدة وغزارة جاعلة من السير في هذا الوقت مجازفة غير مأمونة العواقب.
ارتدت الأم معطفها ووقفت في الشرفة تتأمل الشوارع وقد اغتسلت وبدت فيها أخاديد وبرك ومجارٍ بفعل المطر. قطع “مهند” تأملها: - أمي!
- (انتبهت الأم)، فأرسلت له وجهًا متسائلًا.
- هل ظلمنا أبي؟
- (أطرقت الأم برهة، ثم أشاحت بوجهها عن عينيه المتسلطتين عليها تنتظر الجواب).
- أخبريني بالحقيقة يا أمي، هل تخلى عني أبي؟ هل ضحى بي؟
- ما جدوى هذا الكلام الآن، وأبوك قد مات؟
- أريد أن أعرف حقيقة مشاعر أبي نحوي.
- لقد كان كل شيء أمام عينيك.
- كلا، لم أرَ وأسمع غير ما كنت تملينه عليَّ، وما كنت تسردينه من حكايا عنه.
- لا يجدي الكلام الآن. اعتنِ بشئونك كعادتك دومًا.
- أمي ….
- (أوقفت الكلمات على شفتيه بحركة من يدها).
حاول أن يتوسل إليها، لكنها كانت صارمة في إنهاء الحديث. فتركها وخرج غير عابئ بتحذيرها له من الخروج في هذا الطقس السيئ.
أمام قبر والده، أطال الوقوف، سرت في بدنه قشعريرة، لا يدري من برودة الجو أم من رهبة الموقف. زاد شعوره بالبرودة، ود لو رجع أبوه وتدثر في حضنه، ونعِم معه بالأمان الذي سُلب منه.
عندما عاد إلى البيت في المساء، وشت به ملابسه وما أصابها من بلل ووحل بالمكان الذي كان فيه، كان ينتفض بشدة، أخرجت له أمه ثيابًا صوفية وسارعت لإعداد مشروب دافئ له قبل العشاء. كانت به رغبة شديدة في النوم. دثرته الأم جيِّدًا، وذهبت إلى حجرتها وحيدة. لم تكد تغفو حتى انتبهت على أنات محمومة من ولدها، سارعت إلى حجرته، كانت درجة حرارته مرتفعة مع قشعريرة شديدة تسري في بدنه وصلت به إلى الهذيان: - أبي
- ………….
- أبي، أحتاج إليك.
- ………….
- أبي، خذني معك.
- ………….
خففت الكمادات درجة حرارته، وعاد إليه اتزانه شيئًا. كانت نظرة أمه في انكسارها، تحمل رثاءً وأسىً واعتذارًا. قرأ كل ذلك في عين أمه، ثم هتف: - لا أستطيع أن أسامحك.
- (وقعت الكلمة على الأم كالصاعقة) قطبت حبينها وهتفت: ولِمَ؟
- لأنك حرمتني من أبي، وفوق ذلك لم تألي جهدًا في تشويه صورته أمام عيني.
- لقد كنت لك الأم والأب، ولم أقصر في حقك.
- لا، لقد كنت مقصرة إلى أكبر حد. ومن قال إن أحد الوالدين يغْني بمفرده عن الآخر؟
- هل نسيت ما صنعه أبوك معي؟
- صنعه معك، ولم يصنعه معي. إنها مشكلتكما وحدكما، لماذا أقحمتماني بينكما، حتى صرت أنا الضحية.
- لا تكن جاحدًا كأبيك.
- جاحدًا .. كأبي.. لماذا تصرين حتى الآن في تحطيم صورة أبي وتشويهها؟ أن تباعدي بيني وبينه، حتى بعد أن مات.
- أنا ….
- (مقاطعًا، كأنه لم يسمعها) لقد حُرمتُ من الشعور بالأمان في ظل أبي. لقد يتمت مرتين: يوم أن خرج أبي من هذا البيت، ويوم أن مات.
دارت رحى الحوار بينهما في غير هوادة، إلى أن أعلنت الأم: - اسمع يا ولدي، إن أباك الآن في دار الحق، وإني موشكة أن ألحق به، ولذا أقر أنني مَن أسأت إليه، حتى اضطُر إلى أن يهجر بيته.
- وهل هجرني أبي كما ادعيتِ؟
- لا، حاول كثيرًا أن تمتد بينكما جسور التواصل، لكنني (ازدردت ريقها) لكنني كنت أوصد في وجهه كل الأبواب.
- ولم تكتفي بذلك، وإنما شوهتِ صورته وأوهمتني أن أبي باعني وتنازل عني.
- لقد كنت…
- (مقاطعًا) كنت ماذا؟ لا تدافعي عن نفسك. إنك لا تدرين شعور اليتم الذي كنت أشعر به وأبي على قيد الحياة! إنه أضعاف أضعاف شعوري اليوم باليتم بعد أن مات أبي.
كانت وطأة الكلمات من القسوة والمرارة بحيث انهارت الأم ولم تستطع قدماها أن تحملانها، فهوت على الأرض؛ احتملها ولدها بجسده الواهن، ومشي بها إلى فراشها بقدمين أثقلهما الإعياء، ثم افترش الأرض بجانبها.
د. سعيد محمد المنزلاوي