مكة تلك البلدة التي تربض في وادي غير ذي زرع, بين جبلين شاهقين يعرفهما الناس بأسم الاخشبين, نامت ليلتها واهلها لا حديث لهم إلا عن زواج محمد الامين بخديجة بنت خويلد, البعض كان يتحدث عن هذا الزواج على انه اجتماع الامانة والشرف والعفة والطهارة, والبعض الاخر كان يتحدث عن الترف والمال الذي سيحضى به محمد الامين, بعد سنين قضاها يتيما يرعى الغنم في بطحاء مكة, و أخرون كان الحقد والحسد يحرك ألسنتهم فهاهي جوهرة قريش قد فاز بها ابن عبد المطلب هذا اليتيم الفقير, بعد أن عمل لها في تجارتها, وغيرها من الاحاديث التي تدور حول هذا الزواج.
وما أن اسفر الصبح حتى قام أهل مكة ليذهب كل في شانه, وكان لزاما أن يمروا بالبيت العتيق, فيطوفون حوله, فهي عادة يمارسونها قبل الخروج من مكة, يربطها بعضهم بالدين, فيبتهلون الى هبل ومناة وغيرها من الاصنام التي أمتلاء بها صحن الكعبة وجوفها, اعتقادا منهم بأنها وسيلة للتقرب الى الله, وآخرون يرونها عادة يمارسها بعضهم خوفا والأخرون طمعا..
وكان العبيد يهيئون المجلس للسادة من قريش بمكان يختارونه بالقرب من دار الندوة, وفي هذا المجلس كانت تتخذ القرارات المهمة, فالقوافل كانت تتجه شمالا وجنوبا في رحلتي الشتاء والصيف, وكان الاستعداد والمساهمة في هذه القوافل يتم في هذا المجلس, وأيضا يتم اختيار قائدا مسئولا عن هذه القوافل, فهي عماد حياتهم, لهذا كانت قيادة القافلة تعد شرفا كبيرا علاوة على أنها وسيلة للربح الوفير..
كان العبيد يجمعون الابل التي هي وسيلة المواصلات, ويضعون عليها الاحمال من منتجات مكة من صوف و وبر وغيرها, ويطعمونها ويسقونها استعدادا للإنطلاق الى الشام حيث مقصد القافلة في هذه الاثناء, وكان السادة يصدرون الأوامر, فكنت لا تسمع إلا صيحة إنزعاج أوآهة مكتومة من عبد تلقى ضربة بسوط نتيجة تقاعسه حسب رأي سيده, وقد تجمعت الابل أمام دار سيد القافلة, فكان السادة من قريش, في عجلة من أمرهم ليصدروا الاوامر والوصايا والتنبيه على من يرسلونهم لتجارتهم, وقد استعد بعض الفرسان على خيولهم لمرافقة القافلة للحماية.
هذا ماكان من أمر أهل مكة في ذلك الصباح, أما في بيت محمد الأمين, فقد كانت تجري إستعدادات أخرى لرحلة, لكنها تختلف اختلافا كليا عن استعدادات قريش, فقد طلب محمد من زوجته أن تعد له بعض الزاد ليذهب الى غار حراء ليقضي فيه بعض الوقت للتأمل والخلوة بنفسه, كانت خديجة قد أهدته غلام لها في يوم زفافهما, ولكنها استغربت هذا الطلب من زوجها, هي تعرف أنه يعزف عن كثير من الافعال التي يقوم بها أهل مكة, وتعرف أيضا أنه لا يخالط إلا القليل من الناس من أهل مكة, ليس تكبرا منه, ولكن ابتعادا ونأيا بنفسه عن تصرفاتهم..
نهضت لتأمر زيد غلامها الذي أهدته لزوجها بالذهاب الى سوق مكة لجلب بعض المتطلبات التي رأت أنها ضرورية لرحلة زوجها الحبيب, وفي نفس الوقت كانت ترغب في خلوة معه وكسب الوقت لتفصح له عما يدور بخلدها, فهذه أول مرة يطلب منها زوجها هذا الطلب, هي تثق في رجاحة عقله, وسمو أخلاقه, ولكن الذهاب الى الغار والمكث فيه, أيام وليالي أمر اشغل بالها, لهذا أعدت لزوجها طعام إفطار, وأحضرته له بمجلسه المعتاد من البيت وجلست بقربه, وأخذت ترقبه بعين حانية, وقالت: يا أبن العم, هل أزعجك شيء بالبيت, فألتفت إليها وعلى وجهه ابتسامة مشرقة وقال: لا, إنني من أسعد الرجال وأهنأهم بالا. صمتت برهة وهي تتأمل إبتسامته المشرقة, وأطرقت بوجهها الى الارض وهي تقول: مادمت كذلك, فلماذا تغادرنا وتستبدل حياة الدعة والسرور بغار في جبل, إنني أخاف عليك من غدر غادر, أو من لدغة من هوام الارض, فأنت تعرف أننا نعيش في مجتمع لايرعوي أغلب أفراده عن فعل أي شيء, وإن كنت تريد عزلة فأختر مكانا في البيت أعتزل فيه, وأعدك بأن لايزعجك أحد الى أن تعود إلينا. إزدادت بسمته إشراقا وقال متوددا: يسعدني هذا الحب الذي يتدفق من بين كلماتك, وأنا أيضا أحبك, فأنت ياخديجة تحتلين مكانة كبيرة في قلبي, ولكن لابد من الذهاب, وسوف اعود إليك, فلاتخشي شيئا..
كانت هذه أول مرة يغادر فيها محمد الى غار حراء بعد الزواج, وقد كان يلتمس لها العذر في كل ما تقوله, فهو يعرف أن العرب كانت قبائل متناحرة, يقتلون بعضهم بعضا لأتفه الاسباب, ويطمعون في غنم أي شيء, ورغم تمسكهم الظاهر بعدم الاعتداء في الاشهر الحُرُم إلا أن ذلك لايمنعهم عن الاعتداء لو وجدوا فرصة, قال مطمئنا لها: دعك من هذه الوساوس, فأنا لم أظلم أحد, وليس معي ما يُطمعُ فيه.
ومد يده ليمسك بيدها, فشعرت بطمأنينة, وسكنت روحها, ولم تتمالك نفسها فأنحدرت دمعة على خدها, فمسحها بيده الحانية, وأقترب منها وطبع قبلة على جبينها وهو يقول: أريد أن أغادر البيت على إشراقت بسمة ثغرك الوضاء, ثم أن زيد سيكون سفيرك إلي, ساعة تشائين. تركت رأسها ليرتاح على كتفه قليلا, همست: ليتني أبقى في هذا الوضع إلى أن أموت, فقال وهو يضمها إليه بحنان ورقة: لاتذكري الموت فمازلت أريدك, وأمامنا متسع من الوقت لنرتوي بالسعادة, وأضاف: هل أعددت لي ماطلبته منك. فأنتبهت من غفوتها التي تشبه الحلم وقالت: طلباتك يا أبن العم أوامر بالنسبة لي, فأنا لا يشغلني في هذه الحياة إلا أنت, وماتطلبه مني يكون أمر نافذ, سوأء بالتلميح أو بالتصريح, وثق بأن البيت في غيابك سيكون بخير, ولن أخلفك فيه إلا بما تحب وترضى, ولكن غيابك عنه سيكون مؤثر, فلا تلمني على ذلك, فأنت السراج الذي ينيره. قال وهو يستعد للنهوض: أعرف ذلك, وأنت يا خديجة الزيت الذي يمد هذا السراج بالنور..
نهضت قبله وهي تنادي: زيد, يازيد أين أنت, دخل الفتى وهو يبتسم في سعادة غامرة, فهو قد شعر بالغبطة والسعادة منذ أن وطأت قدميه عتبة هذا البيت وازدادت غبطته بعد زواج سيدته من محمد بن عبدالله, كان الزوجان يعاملانه برفق ولين لم يعهدهما من أمه وأبيه, وقد وصل بر محمد به, أن أخذه ذات يوم من يده, وطاف به على الكعبة وهو يُشهد الناس أن زيد ابنه, ومنذ ذلك اليوم أصبح زيد يشعر بالفخر, فهاهو الصادق الامين يتبناه, وكانت سعادته تبلغ قمتها حينما يناديه أحدهم قائلا: يا أبن محمد, أو يا أبن الصادق الامين.
وقف الفتى أمامهما, فقالت أين ما طلبت منك إعداده لأبيك. فقال: هو جاهز حيث أمرتِ قرب الباب, فأتجهت الى حيث أشار لتطمئن على أن كل شيء على مايرام, وأقترب محمد من زيد, وربت على كتفه بحنان وود, وقال: أنت رجل البيت في غيابي يازيد, فأخلفني فيه بخير. وضمه إليه وطبع على جبينه قبلة, سرت في جسد الفتى فأمدته بالنشاط والحيوية, شعر بسعادة بالغة فبادل أباه الحبيب بقبلة, وقال: سأكون كما تُحب وترضى, وأضاف: أبي لا تطل غيبتك عنا, فنحن نتنفس حبك, ونعيش به. فأبتسم الصادق الامين, وضم الفتى إليه وقال: زيد كن رجلا ولا يلهينك اللعب عن. وأشار الى حيث خديجة, فرد الفتى: كن مطمئنا يا أبي فأنا أحبها كما احبك أنت, فهي عاملتني منذ أن قدمت إليها برفق وحنان لم أعهدهما من أمي, فلا ينشغل بالك بهذا الامر, وأنا لا أحتاج لمن يوصيني بهذا, فروحي فداها لو أحتاجت لذلك, اقدمها لها وأنا أسعد البشر. لم يتمالك الصادق الامين,دمعة ترقرقت في مقلتيه لما وجده من وفاء وعرفان بالجميل من هذا الفتى الذي أختار الحياة معه على العيش مع أبيه وأمه.
دخلت خديجة بعد أن أطمأنت على ما جهزه زيد, ووقفت تتأمل زوجها وهو يحضن زيد, وهمست تخاطب نفسها: ولهذا أحبك أيها الرجل, فأنت سيد الرجال بصدقك وأمانتك وعفتك ورقتك وحنانك, أين ما أرى من معاملة سادة مكة للعبيد.
أرسل محمد زيد, وقال له: هيا يازيد إذهب لتلعب ولا تبتعد وكما أوصيتك,فمد الفتى يديه الى عنق أبيه, وطوقه بهما وطبع قبلة طويلة على خده وهو يقول: أحبك يا أبي, وسيكون ما أوصيتني به نصب عيني ليل نهار, وأرجوك أن لاتطيل الغياب. بادله أبوه بقبلة أخرى, فتقدمت خديجة وهي تبتسم وتقول مداعبة للفتى: بماذا أوصاك أبوك يازيد, فألتفت إليها وهو يغادر وقال: أوصاني ..ونظر الى حيث يقف أبيه ونظر إليها ولم يكمل حديثه, وضحك ضحكته البرئية المحببة وغادر, فتقدمت نحو زوجها, وقالت: سر حيث شئت, فأنا على يقين بأنك لا تسير إلا في طريق الخير, وأعلم يا أبن العم أنني أحبك حبا لو وُزِع على الناس لكفاهم, وأرتمت في حضنه ودست رأسها في صدره, وهي تتمتم: أرجو أن لايطول غيابك, وسوف أنتظرك على أحر من الجمر, وسأعد الساعات بالليل والنهار حتى تُشرق الشمس من جديد بهذا البيت. ضمها إليه بقوة ومرر يده على رأسها وظهرها, وهو يقول: سأعود إليك, فأنت المأوى في هذه الدنيا. وطبع على جبينها قبلة, وغادر.
وقفت خديجة على الباب تراقب زوجها وهو يتجه صوب الجبل, وكانت رغم إقتناعها برجاحة عقل زوجها, وصدقه تُحدث نفسها, وتقول: الى أين تذهب أيها الزوج الحبيب, وما الذي يوجد بذلك الغار ولا يوجد هنا, وكانت تستعرض في ذهنها حياتهما لعلها تهتدي لشيء, فهي تعرف أن زوجها يلقبونه بالصادق الامين, وأنه لايميل الى اللهو والمجون مثل ما يفعل سادة مكة وكبراءها, فهو لا يعاقر الخمر, ولا يذهب الى الملاهي حيث الغواني ينتشرن في بيوتات حول مكة, وكان يعزف عن مشاركة قومه ملاهيهم وملذاتهم, إلا فيما ندر, وإذا تصادف وحضر معهم مأدبة أو ماشابه ذلك, فإنه كان لا يطيل البقاء, وكانت تعرف أنه لايحب الكذب والظلم والتكبر, فهو يعامل الجميع نفس المعاملة, لا فرق عنده بين عبد وسيد, ولا أسود ولا أبيض, وهي بفطنتها قد لاحظت إشمئزازه وكرهه الشديد لما يراه من عبادة قومه لأصنام, يصنعونها بأيديهم من حجارة
او تمر, ثم يضعونها داخل الكعبة أو حولها ويظلوا عليها عاكفين, وهو أيضا لا يوافق قومه فيما يفعلونه أيام الحج حيث يميزون أنفسهم عن غيرهم من الحجاج, ولشد ما كان يكره رؤية بعض الحجاج يطوفون عُراة حول البيت.
انتبهت من وقفتها على صوت ابن عمها ورقة بن نوفل وهو يحييها, ويسأل عن زوجها, فردت تحيته وقالت: لقد غادر الى الغار ليقضي فيه بعض الوقت. قال: إني لأعجب من محمد وتحنثه في هذا الغار. قالت في محاولة منها لإستدراج ابن عمها في الحديث, فهي تعلم أنه قد ترك دين قومه وتنصر, وتعلم بعض العلم عن ديانته التي أتخذها بدلا عن دين قومه: وما العجب في ذلك, رجل يحب أن يعتزل لبعض الوقت للتأمل, فالحياة تحتاج لمثل هذا. قال: إني أرجو أن يكون هو, فهو رجل تكاملت فيه كل الصفات, إنه صادق أمين, يحب مكارم الاخلاق, ليس بصخاب في الاسواق, ولا يأكل إلا من عمل يده, إيه يا أبنت العم ما أسعدك به لو صدق ظني. فأزدادت لهفة لمعرفة ما يرمي إليه أبن عمها وقالت: افصح يا أبن العم, فإنك قد أثرت في نفسي الفضول, جلس ورقة قريبا من باب البيت وقال: لقد أظلنا زمان يخرج فيه نبيء يعيد الناس الى عبادة الله الواحد الاحد, ويهدم عبادة الأصنام, ويقيم الملة ويصحح الأعوجاج الذي أصابها, بأنحراف الناس عن ملة إبراهيم. قالت: لقد سمعت بعض اليهوديات اللاتي يطرقن مكة بين الحين والأخر يتحدثن بما يشبه حديثك هذا, لكنهن يقلن بأن هذا النبي سيكون من يهود. قال: ذلك قولهم, لكن النبي المنعوت في الكتب لم تحدد هويته, فهو من عباد الله, ولكن اليهود يقولون ما يتمنونه, وليس بأمانيهم, فالله يضع رسالاته حيث يشاء. قالت وهي تحاول كتمان دفق السعادة الذي غمر قلبها بإشارة ابن عمها وحديثه عن زوجها الحبيب: وهل يحمل محمد بعض صفات هذا النبي. قال : إن كثير من صفات زوجك الصادق الامين تنطبق على صفات هذا النبي.
أنتبهت خديجة بأنها لم تقدم لأبن عمها شيء, فنادت على زيد وكان يلعب مع بعض اقرانه قريبا من البيت, فجاء على عجل, والقى تحية على الشيخ الجالس قرب باب البيت ودخل وراء خديجة وهو يقول: لبيك يا أماه, فقالت تداعبه: ألم تقل أنك رجل البيت في غياب أبيك. قال: نعم. قالت: إذن وجب عليك إستقبال ضيوفه في غياب أبوك, هاهو أبن عمي يجلس لوحده أمام البيت, فهل يليق بي أن اجلس معه؟. أعتلت أمارات الجد وجه الفتى وقال: صدقت, وأنا أسف, فلا تحسبينها علي هذه المرة وأعدك بأنها لن تتكرر. فتبسمت لهذه الشهامة والمرؤة التي عليها هذا الفتى, وقالت: لا عليك, خذ هذه الصينية وأجلس مع أبن عمي وشاركه الطعام, فإنك لم تتناول طعام الافطار.
مرت الأيام سريعة لكن خديجة كانت تشعر بها تمر ببطء شديد, فالشوق الى زوجها وتلهفها الى لقياه, خاصة بعد الحديث الذي أفضى به إليها أبن عمها ورقة, فقد أثار في نفسها مشاعر متعددة, زادت من لهفتها, وخوفها, فقد راودتها أفكار حول ماقاله ابن عمها عن تمني يهود وإصرارهم على أن هذا النبي المنتظر سيكون منهم, فلو وصل إليهم بأن محمد يحمل الكثير من صفات هذا النبي, وهو العربي النقي العرق, فهم لن يتورعوا عن أذيته, وهذا جعلها تطلب من زيد بأن يذهب الى سفح الجبل كل يوم ليرقب أي تحرك وألحت عليه بأن يأتيها بكل خبر بأسرع ما يمكن, ولم تتورع على أن تشارك ابن عمها ورقة تلك المخاوف, فكان يطمئنها, بأن الله هو المدبر وهو الذي بيده الأمر, ولن يترك نبيه عرضة لأذى يهود أو غيرهم, ففي حالة أن محمد هو النبي المنتظر, وأما إن كان غير ذلك. فتمتمت خديجة في ما يشبه الهمس: بل سيكون كذلك, فإن محمد تراوده رؤى في الأونة الاخيرة, تأتي كأنها فلق الصبح. واصل ورقة حديثه, كأنه لم يسمعها, رغم أن كلام خديجة عن الرؤيا قد أثار فضوله, فهي صفة من صفات الانبياء, فرؤياهم حق وقال: أما إن كان غير ذلك فمحمد الصادق الامين, لا أعداء له, بل هو يتمتع بحب الجميع, فلا تخشي عليه.
جاء زيد ذات يوم وهو يركض ويصيح عاد الى بيتنا النور, خرجت خديجة مسرعة لسماع صياحه, فألفته قد وصل وهو يلهث ويقول: بشراك لقد عاد أبي. فلم تتمالك نفسها من الفرح, ولولا أنها تمسكت بعارضة الباب لوقعت من الفرح, وقالت لزيد: بشرى تستحق عليها الجائزة. وماهي إلا لحظات حتى عادت الحياة الى بيت محمد, ورفرفت السعادة بجناحيها من جديد, كانت خديجة قد هيأت لزوجها الحمام ليغتسل ويستريح من وعثاء السفر والإقامة في غار لعدة أيام, وخلال فترة تواجده بالحمام أعدت له الطعام فهي تعرف أنه بحاجة الى الغذاء, لأن زاده كان ماء وتمر وسويق.
خرج من الحمام , فوجدها تجلس بجانب سفرة الطعام, فقال وعلى وجهه إبتسامة عريضة: ماكل هذا ياخديجة, يكفيء المرء لقيمات يقمن صلبه, فقالت: يا أبن العم إنك بحاجة الى الغذاء لتواجه متاعب الحياة, ثم أن رجوعك سالما يستحق أن نؤلم له, فهي كُل فأنا قد كنت أدخر لك كل لقمة أعدها وأراها شهية, فذق هذه, ومدت له يدها بقطعة من اللحم ممزوجة بالمرق, وما أن أخذها حتى مدت يدها إليه بأخرى, وهي
تقول: وهذه. فضحك وقال: على رسلك ياخديجة, فمازالت الأولى بيدي. قالت: يا أبن العم لقد أشتقت إليك, فالبيت كان من دونك مظلما, رغم أنني قد ضاعفت عدد أسرجة الإنارة, فمرحبا بك وأهلا وسهلا بك ياسيدي وسيد الناس جميعا. نظر إليها مليا وقال: ما أجملك ياخديجة, فأطرقت من الخجل, فأضاف: نعم الزوجة أنت فقد تكاملت فيك صفات الزوجة التي إذا نظر إليها زوجها أسرته, وإذا غاب عنها حفظته.
كانت خديجة قد قررت أمرا خلال غياب زوجها, وقد حان وقت تنفيذه, نادت على زيد, وسرعان ما كان واقفا بين يديها, فقالت: إذهب الى ميسرة, وقل له إنني أريده في الحال. خرج زيد مسرعا وهو يكاد يطير من الفرح, فقد عاد سيد البيت وعادت معه بشائر السرور والإنشراح.
كان محمد قد فرغ من تناول الطعام, فصبت عليه خديجة الماء ليغسل يديه, ومدت له بقطعة قماش لينشف يديه, وقالت وهي تبتسم: أبشر يا أبن العم قريبا ستصبح أب. تهلل وجه محمد ليزداد بهاء وجمال وقال: بشرى خير من وجه خير.
أخذ الزوجان يتحدثان عن الحمل وغيره من المواضيع, وتناهى إليهما صوت زيد وهو ينادي من خارج البيت: هاقد وصل ميسرة. عدلت خديجة من جلستها وغطت رأسها وأستأذنت زوجها, فأذِن لها, فقالت: أدخل ياميسرة. فدخل ودخل معه زيد, حياهما وقال: لبيكِ سيدتي. ردت عليه: أسمع ياميسرة أنت وكيل تجارتي وأموالي تديرها لي وقد لمست فيك الأمانة والصدق. علق قائلا: وهل وصلك عني غير ذلك, قالت: لا, لكنني أستدعيتك لأخبرك بأنه ومنذ هذه اللحظة, كل أعمالي وأموالي وتجارتي قد أصبحت ملكا لسيدك محمد , أريدك أن تستشيره بدلا عني. حاول محمد أن يقول شيئا, لكنها توجهت إليه بالحديث قائلة: يا أبن العم أنت الأن زوجي, وقد ملكتني فطبيعي أن تملك كل ما أملك, وقد تعبت من. إستشارات ميسرة بشأن التجارة والقوافل, وهذا عمل يليق بالرجال, ثم أنني أريد أن أتفرغ لما هو أهم عندي. وغمزت لزوجها تشير الى بطنها فتبسم محمد لها, وكان ميسرة واقفا وقد علت ملامح وجهه أمارات الرضى, فقال: نعم الرأي يا سيدتي فقد صحِبت سيدي في رحلة الشام, ورائت من مكارم أخلاقه وحسن تدبيره, وكيفية إدارته لتجارتك ما أعجز عن وصفه, فهو التاجر الامين الحاذق الماهر, وتعلمين الربح الوفير الذي عدنا به من تلك الرحلة. قالت تشجعه: لا تبخل على سيدك بالمشورة يا ميسرة, فكما علمت إنك حاذق أيضا ولديك خبرة. فقال بسرور بالغ: سيجدني سيدي خير مُعين له. وأستأذن وخرج.
مرت سنوات وأمتلأ بيت محمد بن عبد الله بالبنين والبنات, فقد كانت خديجة الزوجة الودود الولود, ولدت له أبوالقاسم والطيب, وزينب ورقية وأم كلثوم, وفاطمة, ورفرفت السعادة بجناحيها على الجميع, وكانت خديجة تزداد مع الأيام حبا وأقتناعا بزوجها, فقد رأت صبره الذي يحير عقول الصابرين عندما فقد أولاده أبوالقاسم والطيب, ورأت بره وحنانه وعطفه على بناته وفرحته بهن, في حين كان الآخرون يدسون بناتهم في التراب.
وهاهو شهر رمضان قد أهل هلاله, وهاهي كالعادة تجهز لزوجها بعض الزاد والمتاع للذهاب الى حِراء, ولم تعد تسأله أن يبقى معهم, أو أن يعود سريعا كعادتها في بداية حياتهما الزوجية, بل كانت له خير معين للخروج من موقف توسل بناته خاصة الصغيرات منهن لبقائه معهن, فهن لا يطقن فراقه, كانت أمهن تقول لهن دعوا أباكن يذهب للعمل, فأنتن في حاجة الى الطعام والملبس, وهذا لا يتوفر إلا بالعمل, ثم أنها كانت تقول لهن: وأنا أمكن آلا تحبانني. وتتظاهر بالزعل منهن, فكن يسترضينها, وكان محمد يرى ذلك فيزداد حبه لهذه الزوجة الفريدة النادرة الوجود.
وفي الليلة المباركة, كان محمد في الغار كعادته, إذا به يحس بأن أحد قد طوقه بيديه ويضغط على صدره, وسمع صوت يقول له: إقرأ. شعر بألم الضغطة والتي كادت أن تكتم أنفاسه, لكنه صمد وقال: ما أنا بقاريء. تكررت معه الحالة حتى ظن أنه سيموت, وفي الثالثة قال: وما أقرا. فأرسله الملك وقال:(إقرأ بسم ربك الذي خلق, خلق الانسان من علق, إقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم, علم الإنسان مالم يعلم), وتركه ومضى.
جلس محمد هنيهة في الغار, وهو يردد ماقاله الملك, ثم خرج فإذا الليل قد حزم أمتعته ليرحل, ليترك المكان لضوء النهار, وما أن خرج حتى شاهد الملك واقفا يغطي المسافة ما بين الارض والسماء, فوقف ينظر إليه, وسمعه يقول: يامحمد أنت رسول الله, وأنا جبريل. ثم اختفى
بقي محمد في مكانه يتأمل ماجرى, وما أعظمه من موقف, تهتز من هوله الجبال الراسيات, وتنفطر لوقعه قلوب أشجع الشجعان, لكن محمد رغم تأثره بما جرى, واجهه بشجاعة نادرة, ولم ترتعد فرائصه فرقا حينما تطوق صدره وأحس بضيق أنفاسه, ولم يختل عقله حينما سمع منه كلمة إقرأ, بل كان حاضر الذهن وأجاب بكل صدق وعفوية, وأقر بأنه ليس بقاريء, وعندما تكرر معه الموقف قال: وما أقرأ.
لم يتلعثم أو يسقط مغشيا عليه بل نجده يخرج من الغار في ظلمة الليل وينظر الى الملك الذي كان منظره وحجمه كفيلان بأن يزلزلا أقوى القلوب وأصبرها.
أختفى جبريل عليه السلام, وظل محمد عليه الصلاة والسلام واقفا ثابت الجنان لم ترتعد فرائصه, ولم تصتك ركبتاه, وكان تأثره بالموقف الجلل يدل على شجاعة نادرة, ونراه يسير عائدا الى بيته لم يضيع الدرب, ولم يفقد الوعي, ومن ذلك أنه أخبر خديجة بتفاصيل ماحدث بكل ثقة وثبات عقل, وما ترديده دثروني, دثروني دليل خوف أو جزع, بل قد يكون نتيجة للبرد, فقد نزل الوحي في الليل (إنا أنزلناه في ليلة مباركة), وقد يكون الوقت قُبيل الفجر, وطبيعي أن يكون الجو بارد في ذلك الوقت
ودليل أخر على ثبات محمد عليه الصلاة والسلام, هو قول خديجة له, هيا بنا لنزور بيت إبن عمي ورقة ليسمع منك, وذهابه معها وإعادته لرواية ماحدث دون زيادة أو نقصان, لله ما أشجعك يا سيدي يارسول الله, عليك افضل صلاة وأتم تسليم.
تذييــــــــل:
محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام قبل نزول الوحي, كان إنسان طبيعي مثله مثل بقية الناس, صحيح أن الله كان يرعاه, ويهيئه لحمل رسالة عجزت عن حملها الجبال وأشفقت من حملها السموات والأرض, ولكن هذه الرعاية والتهيئة كانت قبل يوم حِراء في علم الغيب, لهذا شدتنا شجاعة هذا الرجل في التفاعل مع هذا الموقف الذي يزلزل أقوى القلوب وأشدها عزما.
نعم, ففي ذلك الوقت كانت المجتمعات القائمة عبارة عن قبائل متناحرة, وكان الناس ينقسمون الى عبيد وسادة, وكان القتل لأجل السلب والنهب بطولة, وكانت الثارات لأتفه الأسباب واجب, ولا يوجد رادع سوى السيف لردع الإنسان عن فعل ينوي فعله.
قد يقول قائل, كانت هناك أخلاق وقيم, ويضرب المثل بأسماء أشتهرت في هذه الجوانب, وبدورنا نقول نعم كانت, ولكنها كانت كالشواذ في مجتمعات الجاهلية, فالعصبية الجاهلية كانت هي السائدة, وكان القانون السائد هو ماعبر عنه الشاعر بقوله: ما أنا إلا من غزية, إن غوت, غويت,,, وإن ترشد غزية أرشد.
إن ذهاب محمد الى غار حِراء في ذلك الوقت والمُكث فيه فترة من الزمن دليل شجاعة وقوة إرادة وعزيمة لا مثيل لها, فقد كانت الأخطار محدقة بهذا الموقف من جميع الجوانب, من هوام الأرض الى همز الشياطين ولمزهم, مرورا بمردة الإنس والجن.
هذا قبل نزول الوحي, وماكان محمد الإنسان يدري أن في هذا الغار سيأتيه الملك بالوحي,فلو كان يدري لبطل العجب, ولكنه كان يذهب الى هناك طلبا لصفاء النفس وهربا من أباطيل قومه التي كانت سائدة ومتنوعة.
المواقف عبر تاريخ الإنسانية تتباين في قوتها وشدتها, وكذلك في تاريخ الأنبياء والرسل عليهم صلوات ربي وسلامه, وقد تم نعت بعضهم بأنهم أولي عزم, وبعضهم الأخر لم نجد له عزما, ومن أولي العزم من الرسل, نجد نوح عليه السلام, الذي أمره الله بأن يصنع سفينة في الصحراء, وهو أمر لو نظرنا إليه بمنظار دنيوي بحت لكان موقف غير طبيعي, ولاعجب في أن يستغربه الناس, وإبراهيم عليه السلام تعددت منه مواقف, بعضها كان أمر الله له بتنفيذها واضح بين, كقصة رؤيته في المنام بانه يذبح إبنه إسماعيل عليه السلام, وماكان قبلها من وضعه هو وأمه بواد غير ذي زرع والتي يتضح فيها أن أمر الله قد أتاه بالذهاب بهما الى ذلك المكان من خلال دعوته عليه السلام وقوله (عند بيتك المحرم), وهي مواقف حتى وإن لاقت إستغراب الناس إلا أنها مواقف طبيعية عنده, لأن حيثياتها التي لم تكن ظاهرة للناس كانت ظاهرة له عن طريق الوحي, وبعضها الأخر كقصة قذفه عليه السلام في النار, لم تكن حيثياتها ظاهرة للناس أو له, وقد تقبلها بشجاعة وصبر, ونجد أن الأمر الإلهي قد صدر للنار بأن تكون بردا وسلاما عليه.
وعلى نفس المنوال نجد مواقف الرسولين, عيسى بن مريم, وموسى عليهما السلام, عيسى عليه السلام, في موقفه من عملية الصلب, وموسى عليه السلام في مواقف كثيرة تم ذكرها في القرآن الكريم, تباينت فيها ردود أفعاله, لكن عزمه لم يلين, خاصة حينما قال له قومه على شاطيء البحر (إننا مدركون), كانت إجابته قاطعة (كلا, إن معي ربي سيهدين).)
ونعود الى ليلة القدر, وموقف محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام, فقد كان معتكفا في غار حِراء كما أسلفنا ولم يكن يدري ما الكتاب, ولا يعلم أنه رسول الله, عندما دخل جبريل عليه السلام وضمه وهو يقول: إقرأ, ويرد عليه محمد بكل عفوية وصدق, فهو الصادق الأمين: ما أنا بقاريء, ويتكرر الأمر, وتتكرر الإجابة, ويكون الضم في كل مرة أشد من سابقته, حتى ظن محمد الإنسان الطبيعي إنه الموت, وحينها نجده يجيب: وما أقرأ.
تلا عليه جبريل عليه السلام أول أيات القرآن, وتركه وخرج, ويا لعظمة وشجاعة محمد بن عبد الله, فهو لم يغمى عليه, أو يختل توازنه, ولم تصبه لوثة في عقله, رغم هول الموقف, بل نراه يلملم حاجياته ويخرج من الغار, فيرى جبريل عليه السلام على صورته التي خلقه الله بها, يملأ الفضاء مابين السماء والأرض, فوقف ينظر إليه بكل ثبات وشجاعة, وسمعه يقول: يامحمد أنت رسول الله وأنا جبريل.
ونحن نرى أن هذا الموقف الذي وقفه محمد بن عبدالله, يعتبر نموذج للشجاعة وقوة العزيمة, فهو موقف قد لا تتحمل شدته الجبال الراسيات, وأما الحديث الذي قد يفسره البعض بأنه تأثر سلبي من محمد بن عبدالله, وهو قوله حين عودته الى بيته: دثروني..دثروني, نراه نحن من جانبنا موقف طبيعي, فالذي يعرف مكة ومناخها لا يستغرب أن يقول رسول الله عليه الصلاة والسلام: دثروني..دثروني نتيجة للبرد, خاصة وأنه قادم من الجبل, ونعتقد أن قدومه كان قريبا من الفجر, حيث يكون الجو بارد.
وفي الختام نقول أن عجبنا وإعجابنا بشجاعة محمد الإنسان الطبيعي, الذي واجه هذا الموقف الرهيب بكل ما تعنيه الكلمة من معنى يتخطى كل إعجاب, وهذه الشجاعة تستحق أن تكون مثلا ونموذجا عبر تاريخ الإنسان منذ أن نزل أدم عليه السلام الى الأرض, لهذا ركزنا في هذه القصة على شخصية محمد بن عبدالله الإنسان الطبيعي قبل أن يعرف أنه رسول الله الى الناس كافة, عليه أفضل وأتم واكمل وأكثر الصلوات من الله والسلام.
الكاتب الهادي خليفة الصويعي