قليلٌ من الحبّ… كثيرٌ من السّراب تجلّيات الماء في حضرة القصيدة ل د. يوسف حطيني


(1)
هل جرّبتَ أن تغرق في القصيدة؟
لا أقصد ها هنا الغرق الرومانسي الذي قد يتبادر إلى ذهنك، بل الغرق المادي، أعني تماماً أن تغرق بالماء، أن يدهمك الماء والسحاب والمطر في كل صفحة، وفي كل قصيدة، وفي كل بيت، فتكون من المغرَقين.


هلّم بنا نقرأ إذن مجموعة الشاعرة الدمشقية سمر أحمد تغلبي المعنونة “قليل من الحبّ… كثير من السراب” التي صدرت عن الهيئة السورية العامة للكتاب مؤخراً، باحثين فيها عن حلم الماء ودلالاته ورموزه في مواجهة جفاف الروح، متجاوزين لأسباب منهجية بحتة، عن مجموعتين شعريتين سابقتين للشاعرة تغلبي، عنوانهما على التوالي: “مخاض إثم“، و”قميص الشغف“.
نتجاوز المجموعتين السابقتين؛ لأنّ المجموعة الأخيرة مائيّة بامتياز، بينما تترجّح سابقتاها بين الهوائي والترابي.. وإذا أردنا أن نفيد من تقسيم الأبراج الفلكية يمكننا أن نتوقع، أو أن تنساءل عن مجموعة “نارية” في المستقبل؛ تكمل بها الشاعرة دورة الشعر، وتجرّب حالات نوسانه في أقطاب التجاذب الكوني.


من العنوان نبتدئ القراءة، “قليل من الحبّ… كثير من السراب”: ثمة شاعرة تبحث عن ارتوائها بالحبّ، فلا تجد إلا الآخر الذي يسفح الكلام، على الرغم من بروق الحب الخلبيّة الكثيرة التي يظهر الماء في أمديتها البعيدة؛ وإذ تقترب منها لا تجني إلا وعداً كذاباً، “كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا”.


تنطلق الذات الشاعرة من البحث عن حلم الماء، تلوب في هيامها وضياعها باحثة عن القطب الآخر الذي تفرغ في محطته حمولتها العاطفية، باحثة عن جدارته بأن يستقبل حلمها، ويستوعب دفقها المنتظر، غير أنّها حين لا تجد تلك الجدارة تنكفئ على ذاتها، في عتبة أولى تحمل خلاصة التجربة، وكثافة الدلالة المصفّاة في إهداء يتكوّن من أربع كلمات: “إليّ… قبل عمرٍ.. وقهر”/ ص5.
إنّ من يقرأ الإهداء بوصفه عتبة أولية دالة، وهو يعرف أنّها آخر ما يكتب في المجموعة الشعرية، يدرك أنّ هذه المقدّمة نتيجةٌ نهائية تفيد أن الإهداء للذات هو، في أبرز تجلياته، يأس من الآخر؛ فهي تغسل يديها منذ الإهداء من هوى الآخر غير الجدير، باحثة في ماضيها عما يروي عطش الحاضر؛ فكأنها تريد للماء أن يمتد إليها، أو إلى عمرِ ما قبل الحب الذي عاشته، ليبعد عنها الزمن الرديء؛ حيث يطيب النوى الذي يتيح الارتداد نحو الماضي، تقول الشاعرة في قصيدة “تبتّل”:


حُزْني وبُؤْسي
والمدى قدْ ضاقا
لا تَقْتَربْ
إنَّ النَّوى قدْ راقا/ ص7.

الذات الشاعرة ها هنا، وعلى مدى صفحات المجموعة الشعرية، تبحث عن خلاصها في الارتداد إلى الماضي هرباً من الحاضر الجارح، أو تواجه حاضرها بحلم الماء بعد أن تعرّي الخائن، وتدفع عن نفسها سبة الخيانة؛ فالخائن هو الآخر، لا سواه، تقول سمر في قصيدة “إذا الليل أضواني”:
وما كُنتُ إذ أشقى بِحُبٍّ أَخونُه
ولكنَّ صوتَ الطُّهرِ
دوماً بِمَسْمَعي/ ص10.

فالآخر متهم بتشويه الحب، تماماً مثلما هو متّهم بتشويه الزمن، وتشويه العمر الذي مرّ رخياً، من قبلُ، وهو مطالب في نظرها أن يعيد الزمن إلى بدايته، وأن يعيد براءة العمر سيرتها الأولى، تقول الشاعرة في قصيدة “فصول العمر”.


أعدني إليَّ
وخذْ ما تشاءُ من الذِّكرياتْ/ ص13
وتكرر الطلب في القصيدة ذاتها، فتقول:
أعدني إليَّ
فإني بَعُدتُ
بَعُدتُ
بَعُدتُ

غير أن الآخر، فيما يبدو للقارئ، يمعن في تنزيف الجرح، وفي تجاهله، ومنشأ هذا الافتراض لدينا أن النصوص لا تعطي هذا الآخر مساحة للتموضع في غير سجن الاتهام، فهو ناكئ للجرح، ناكرٌ للحب، وليست لديه أية فرصة على مساحة شعرها أن يجد فرصة لقول ما لديه، ففي قصيدة “اعتراف” تخاطبه الشاعرة، قائلة:


ترنو إليكَ تراتيلي معاتبةً
يا ناكئَ الجرحِ أَقبِلْ واتلُ ما فيهِ، ص27

هنا يبدو الآخر قليل الحيلة، لأن القلم الذي يكتب هو قلم الشاعرة، وضمن هذا القدر تعرّي الشاعرة هذا الآخر، وتخرجه من ملكوتها الطاهر، حتى إنها تسلخه عن عالمها في قصيدة “ألفتُ توهّمي”، فهو ليس منها، وهي ليست منه:


ألا يا أيُّها المَسكونُ عِشقاً
تمهَّلْ، لستُ منكَ ولستَ منّي
يُباعِدُنا الزَّمانُ فلا عِتابٌ
ويَجْمَعُنا التَّوَهُّمُ والتَّمَنّي

فليذهب إذن هذا العاشق المُرهِق بحاضره الثقيل عن كاهلها، وليتح لها تلك العودة إلى العمر الماضي الذي راحت تتفيّأ بظلاله منذ صفحة الإهداء. فليذهب، وهي كفيلة بمواجهة جفاف الحاضر وظمئه عبر مطر وسحائب ستترى على صفحات مجموعتها، وأيام عمرها، لتغسل جسدها وروحها من الأدران العالقة.
لم تكن العودة إلى الماضي خياراً موضوعياً فحسب، بل كانت خياراً فنياً تجلى من خلال الإحالات المتعددة التي تمحورت في معظمها حول قصة يوسف عليه السلام، غير أن استثمار هذه القصة انبنى على تغيير وظائفها الأساسية لصالح الذات الشاعرة، إذ تنزّه هواها عن النقصان، وها هي ذي تقول في قصيدة “بغير قميص”:


هوىً يوسفيُّ الكمالِ اعتراني
فمن سيقطّعُ أيدي النساءْ؟/ ص41.

وهي في قصيدة “كواليس” تظهر يوسف في ثوب جديد غير مألوف، متلبساً بثوب الغادر، تاركاً وظيفته التاريخية القارة في الأذهان، ليغادر إلى موقع جديد:
فلا يوسفُ الجبِّ
أبقى بياضَ النوايا
بثلجِ اللهفْ
ولا عادَ إخوتُهُ بالقميصِ…/ ص53.

في قصيدة “اعتراف” تجمع الشاعرة أسئلتها/ مستعينة بالماضي، لتضعها في مواجهة القارئ، دفاعاً عن عشق لم يكن لها فيه سوى الصدق:
هل يوجعُ الدفءُ قلباً باتَ منطفئاً؟
أم يومضُ الوجدُ برقاً في تلاشيهِ؟
أم قطّعَ الحسنُ تفاحَ الهوى شغفاً
لما تجلّيتَ للأمداءِ في تيهِ
ما خانني الصوتُ إذ ناديتُهنَّ صدىً
هل “ذلكنّ الذي لمتُنّني فيه”؟/ ص28


(2)
ثمة سؤال لا تحتاج الإجابة عنه إلى عناء كبير، هو: لماذا اختارت الشاعرة، عن وعي أو عن غير وعي، الماء لمواجهة الآخر الذي أسرفَتْ وأسرفنا في الحديث عن عدم جدارته؟
والجواب أنّ الآخر بكل بساطة أورث روحها الجفاف، وأورث قلبها الحسرة، وأورث الحاضر سواداً يدفعها نحو الماضي. كان لا بدّ إذن من الماء الذي يستطيع أن يحيي الزمن والمكان والبشر، “وجعلنا من الماء كلّ شيء حيّ”، ومَنْ أجدرُ من الماء بسقيا الأزمنة الهاربة، وهو الذي تستسقى به قبور الذاهبين؟ أولم يدعُ لسان الدين بن الخطيب لزمان الوصل قائلاً (جادك الغيث)؟ أو لم يدعُ دعبل الخزاعي لقبر النبي عليه الصلاة والسلام بالسقيا حين قال:
سقى الله قبراً بالمدينة غيثُهُ/ فقد حلَّ فيه الأمنُ بالبركاتِ
فهل للشعراء المحدثين، وسمر تغلبي منهم، أن يغضوا الطرف عن الماء والمطر والسحاب والنهر والبحر والبئر والثلج والبرد؟ وهل لهم أن يسدّوا هذا الباب المجازي للخلاص من الجفاف والعطش، والسير في درب التطهّر، وهل يمكن للحب ألا يسعى للتعمّد بماء الطهر، وألا يسعى للاستفادة من تراث يعمّد المواليد بالماء، ويتوضأ بالماء، ويتطهّر به مادياً ومعنوياً؟
في قصيدة “صراط” تتحايل سمر تغلبي على مفردة الماء، وترقى بالريّ إلى مصاف الطهر، متحدّثة عن العشق بقولها:
إذا لم يروَّهِ طُهْرٌ
هوانا سَيَلْقاهُ حَتْفَهْ/ ص38

تريد الشاعرة إذن أن تنجو بالحب، أن تعود به إلى عمرها الذي انقضى، عبر استعادة الماء في تجليات الغيم والمطر، وكأنها تفيد منه، وهي تدرك، أو لا تدرك، أنه يشكّل دورة الحياة التي تستطيع من خلالها تحقيق مبتغاها في العودة إلى ذلك الزمن المشتهى. ومن يستطيع أن يعيد دورة الحياة غير الماء الذي أحاط الجنين بالرعاية في الرحم، ثمّ تشكّل من جديدٍ ماء في جسدَيْ الرجل والمرأة لخلق حياة جديدة، تنتهي بماء الغسل الأخير. ربمّا كان هذا الإدراك المتشكّل في لا وعينا هو الذي يدفعنا إلى الإيمان بقدرة الماء على تجديد الحياة واستعادتها، تقول سمر تغلبي ساعية إلى استعادة ذاتها، مستثمرة، من صنوف الماء، الدمع والغيم والمطر:
أعِدْني إليَّ فإني بشوقٍ إليَّ
إليّْ
سأنثرُ عطراً
وأمسحُ دمعاً
وأَنْطِقُ شكراً إليكَ إليّْ
وأَلبِسُني كاحتواءِ السَّماءْ
غيومَ ربيعٍ بليلِ خريفٍ
وشمساً وصيفاً
ودفْقَ مطرْ/ ص17.


(3)
إن الغاية السَّنِيّة تتمظهر في هذه المجموعة برمتها في شكل العودة إلى زمن التشكّل الذي يسبق عقابيل الاتصال بالآخر، إلى الزمن الخصب الطازج في الذاكرة، وهو يكاد يحيلنا على زمن الطلل الجاهلي الذي يبكيه الشاعر، بوصفه زمن الاخضرار والنماء. ومثلما بكى الشاعر الجاهلي طلله تبكي الشاعرة أسرارها باحثة عن سرّ الولادة الجديدة. تقول سمر في ْقصيدة “اعتراف”
أبكي على رَحِمِ الأسرارِ كيفَ هوتْ
كيف التكوّرُ في رحْمٍ سيُفشيهِ؟
ما بالُهُ وجعي يحنو على وجعي
كأنَّ حمّى الأسى ترسو بشاطيهِ/ ص29

قفوا نبكِ إذن في حضرة البحث عن “رحم الأسرار”، في “بحر” الوجع، الذي نتوسل “شاطئ” الأسى في الوصول إليه. هنا تمنح الشاعرة الرحم قدسية لا تنفصل عن الزمن المشتهى، ولا عن المكان المائي التي تسعى للاندغام فيه بعيداً عن البرّ؛ إذ لا برّ هنا، سوى شاطئ تراه الشاعرة موطن الرجاء في العبور إلى الماء الدافق، هرباً من جفاف الـ (أنت ـ الآخر) الذي تريد أن تدفعه خارج دائرتها المائية مهما كان الثمن، فتخاطبه في قصيدة “ومضة من مستحيل” بنداء النبذ الذي يتبرّأ منه:
يا…لستَ لي/ ص47
• يا ….. كنتَ لي/ ص47
• لا…لم تكنْ/ ص47
• يا…. كنتَ لي؟/ 48
• يا…لستَ لي/ 49

يأتي النداء النابذ واعياً صارخاً: اخرج أيها المتجبّر خارج حلمي الدافق، اخرج من غيمي ومن مطري، اخرج حتى لو كان الثمن الماء ذاته، يؤكد النداء ذلك في قولها: “أنا غيمٌ تلاهُ مطرْ” ص49، ويأتي حلم الانسلاخ عن عالمها حين تضيف:
“خذْ ماتركتَ منَ النَّدى
وارحلْ” ص ص50ـ 51.

هنا يبدو الأمر لافتاً، لعلّ طلب الرحيل كان موارباً على الرغم من وضوحه، لأنه يفتح باب السؤال: كيف سيرحل حين يأخذ ما ترك من الندى في صباحاتها؟ هل ستمنحه روحَها حين يرحل، هل ستعيش في رحيله بماء ناقص لصالح طهر ترفع شعاره في كلّ حين؟
يظهر لنا أن قلب الشاعرة أضعف من أن يحتمل فكرة الفراق، رغم إصراراها عليها، لأنّ ما يدّعيه الموضوع تفنّده اللغة، و”الندى” الذي تضحّي به في المقطع السابق تبحث عنه في مواطن أخرى، لتقول صراحة إنها لا تستغني عنه، لأنه من عائلة السحاب والودق والعطر، وهي عناصر أثيرة عندها. فليطمئنّ الحبيب إذن أنّه ما زال في الشغاف، وأنّ النبذ الموضوعي هو مجرّد نبذ سلوكي، وليس نبذاً شعورياً. فالشاعرة لا تبدو قادرة على نبذ الندى في قصيدة “بين تشرينين” التي تقول فيها:
تشرينُ يرحلُ والمدى طلْقُ
هلْ مِن ندىً يستافُهُ أفْقُ
لولا سحابُ الشوقِ منْ أزَلٍ
ما كان رَوّى صَديَها الودْقُ
ليجيءَ ثانيهِ على عجلٍ
يهمي بماءٍ كلُّه شوْقُ/ ص ص34ـ 35.

ثمة دلالات أخرى على أن نبذ الآخر كان إجراء سلوكياً، أكثر منه شعورياً، ويمكن أن نشير على سبيل الخصوص إلى قصيدة “حطام حكاية” التي يعلو فيها صوتُ العتب المُحبّ الذي يستعين بالمفردات الندية، ليروي حكاية تسعى الشاعرة سلوكياً إلى تجفيفها، على نحو ما نجد في قولها:
ألقيتُ في فرحٍ
على كتفِ الغوايةِ حسرةً
فتكاثرَتْ
واستمطرَ العُتْبى هواهْ/ ص ص64ـ 65.

ثمّ تطلب الشاعرة في القصيدة نفسها من فؤادها أن ينام، لأن فصل الجنون الذي يشير إلى ازدهار الحب قصير، لا يكاد يساوي الزمن بين إشارة الماء وانبجاسه، والبرق والمطر في المقطع التالي شاهدان:
نمْ يافؤادي
إنَّ شَوْقَ النَّبْضِ للنَّبْضِ انْكَسرْ
والبقايا من حكايا الْحُبِّ
أَدْمى طُهْرَها هَمْسُ الصُّوَرْ
والعُمْرُ
في فَصْلِ الْجُنونِ
مباغتٌ
كالبرقِ يسرقُهُ المطرْ/ ص65.


تربكنا الشاعرة هنا من جديد حين نقف أمام العبارة الأخيرة، وتدفعنا إلى التفكير من جديد، فالبرق في المخيال الشعري العربي رمز للحب والعشق والشوق، وهو المقدمة الطبيعية لانهمار الحب، في حين أنها تضعه في سياق تشبيهي يشير إلى انفصال مباغت، تسعى إلى إنهائه ظاهرياً، وتعمل على وضع سدّ منيع في وجهه، لئلا يعود. وها هي ذي تطلب من “الآخر ـ المنبوذ” في قصيدة “إذن خبّئني” أن يبحث عن “ماء آخر/ خمر/ جِرار” حتى يُكمل حياته خارج مدار طهرها، فتقول له:
عتّقْ خوابي لهفةٍ حرَّى
وأسكِنْها الْجِرارا/ ص68

وهي تطلب منه في صيغة تحذيرية ظاهرية أن ينسى، وأن يقف عند حاجز اللا أمام، دون أن تنسى، أو دون أن ينسى لا وعيها، تسريب الماء من بين الكلمات، لكي يروي حكاية عشق، تتوقع فيها الشاعرة نهاية تراجيدية:
لاتلتفتْ للخلفِ
حاولْ!لا أمامَ لخطوِكَ المنحازِ نحوي
لو أردتَ تهاطُلَ النِّسيانِ
أرداكَ انهمارا/ ص69.

وهي لا تنسى في نهاية النص ذاته أن تعبّر عن رغبتها في احتواء هذا المتمرد، فيا لها من بحر عاشق، لا يقوى على نبذ نهره الصغير، فيسعى إلى ابتلاعه، بعد أن يملّح حياته بطهر غير مستساغ في حياة النهر الغِرّ الذي يحاول الحفاظ على حرية غير محدودة. تقول الشاعرة:
لكنْ أنا البحرُ الذي لا باختياركَ
أيُّها النهرُ الذي
مهما الطّريقُ اعْوَجَّ ماؤُكَ لي
مائي أجاجٌ
إنَّما لن تنتهي
إلا لأحضاني وأمواجي وعاصفتي
رضىً
أوْ فاضطرارا/ ص70


وعلى الرغم من أنّ الشاعرة تسعى إلى إثبات تفردّها، وانعدام أشباهها، وأنها قادرة باتساع محيطها على ضبط انفلات الجدول العاشق، فإنّها تصرح في النهاية أنّ حلم هذا المحيط أن يبقى أسير الحب، فتقول في صيغة شعرية لافتة:
أحلى انعتاقاتِ الهوى
حُلُمٌ
بأنْ نبقى أسارى/ ص73.
(3)

ثمة ماء آخر يتجلى في هذه المجموعة لم نقترب منه حتى الآن، بحر حنان الأم القادر على إغراقنا جميعاً في لجته. فالماء الذي يتداوى به الناس من العقم والعقر والسحر والحسد تتداوى به الشاعرة من الفقد، حين تطلّ ذكرى الأم من بين صفحات العمر، فتصلّي في حضرة تجلّيها صلاة استسقاء تستدعي بها روحها، وتبلغ فيها اللغة مرتبة التصوّف، ولعلّ القارئ يعرف رمزية الماء لدى المتصوفة؛ فهم يجعلونه مرآة قدسية الخالق وعظمته وإبداعه، ودلالة على الحب الإلهي، وتعبيرا عميقاً عن العشق والشوق إلى الغرق في ملكوت الله وأسرار الكون، ولعلنا نستأنس هنا ببيتين لمحي الدين بن عربي يصف فيهما أثر الماء في الوجود، فيقول:
خلقي من الماء والباقي له تبعٌ
من العناصر فاطلبني على الماءِ
والماء ليس له حدّ يحيط بهِ
كذا أنا في وجودي عند أسمائي


فالماء ها هنا هو الأصل، والباقي فرع له، وفي لغة المتصوفة ثمة حلول واتحاد، وثمة تداخل لا تتضح حدوده بين المشكّل والمتشكّل، والماء عندهم حاضر بلا حدود، وفي كل الأوجه والأشكال والأسماء. في قصيدة “حقول ووله” ترقى سمر تغلبي سُلّمَ الأمومة الصوفي، وتسبح في ملكوته، وتعرج بالأم نحو السماوات العُلى، فَتَعُدُّ الأمَّ جنّةَ الرحمن في تجلّ من تجليات قدرة الخالق في التشكيل الكوني، وما الجنة إلا نعماء وظلال، وماء واخضلال. تقول سمر:
هيَ جَنَّةُ الرَّحْمنِ أَرْخَتْ ظِلَّها
لِتَلوحَ نعماءُ الحياةِ المُرْفلَهْ
هيَ ريحُ وَدْقٍ سَحَّ منْ غيماتِهِ
قدْ عانقَ التُّرْبَ النَّديَّ وَخَضَّلَهْ/ ص30


مثل هذه الغنائية التي تنضح بها موسيقى الشعر ليست خاصة بهذه القصيدة، بل هي سمة من سمات الشعر الأصيلة في المجموعة، بيد أننا لا نريد الخروج عن موضوعنا الأساسي، فالجنة/ الأم لا يمكن أن تحضر خارج إطار الخير والعطاء، وهي بهذا أم/ نموذج تشبه أمهاتنا جميعاً، غير أن الفرق في الأم التي تطرحها القصيدة هو احتشاد تلك المفردات الغضة الطرية المبللة بدمع الحزن حيناً، وبمطر السخاء أحياناً. فالأم باب خير وخوابٍ مملوءة بالعطاء، وهي سحائب تترى فتجدل المطر في جدائل الرحمة والتجدد:
هيَ بابُ خيرٍ والخوابي فُتِّحَتْ
هيَ عمرُ منحٍ والعَطايا مُرسَلَهْ
أمّي وهلْ مِنْ بعدِ أمّي مِنْ يَدٍ
يحتاجها مطر السخاء لتجدلَهْ؟/ ص31.


في هذه القصيدة تقبض الشاعرة على رموز الحياة في حضرة الموت، بخلاف محمود درويش الذي قبض على رموز الموت في حضرة الحياة، فإذا كان درويش قد سعى إلى الهرب من ماء عين أمه/ دمعها خجلاً “وأعشق عمري لأنّي إذا متّ أخجل من دمع أمّي”، فإن سمر تغلبي التي سبقتها أمها إلى دار الحق جعلت ماء عين أمّها على كل شاهدة من شواهد القبور، وليس هذا فحسب بل إنها أشارت إلى اتحاد دموع الشاعرة بدموع الأم، في مشهد بصري يروي عين القارئ:
ودُموعُ أمّي للقبورِ شواهِدٌ
والدَّمعُ منّي قبرَها قدْ زَلزَلَهْ/ ص33.


ونتبغي الإشارة هنا إلى أنّ الشاعرة تفيد من حرية الماء وقدرته على التشكّل، وعلى الامتزاج في عوالم مادية أخرى، وهذا أمر أفاد منه الصوفيون كثيراً، وبخاصة في موضوع الخمر الصوفي. ولا نحصر أمر حرية تشكّل الماء هنا في تعاطي الشاعرة مع موضوع الام، ولكننا ننطلق من الملاحظة التي سنتوسع فيها لاحقاً، إلى صياغة التعبيرات المسكوكة من الماء، ويمكن على سبيل المثال النظر في البيت التالي:
نرتاد كلّ عطورها لا نرتوي
نختال ننهلُ من رؤاها المُسْدَلة


في هذا البيت تحتشد المفردات التي تنبجس من الماء، ثمة عطر يأتي في صيغة الجمع، تعبيراً عن قدرة الأم على اشتمال الأمكنة والأزمنة، وثمة أفواه وقلوب وأرواح عطشى لاستنشاق ذلك العطر، تأخذ منه ولا ترتوي، فتتعلق بأهداب الرؤيا طالبة منها السقيا؛ فالعطر وعدم الارتواء والنهل والرؤى المخضلّة هي روافد تروي ظمأ القارئ المنكوب بفقدان أمه ايضاً.
ندلف من الماء وقدرته على التشكل إلى تجلياته في مجموعة “قليل من الحب.. كثير من السراب”؛ فإذا كان الدمع تجلياً من تجلياته، فإن العطر يعدّ تجلياً آخر، والحبر تجلياً ثالثاً، وهكذا، ولعلّ من الملاحظات التي لا تخطئها العين في المجموعة إدراج موضوع الكتابة في هيولى المجموعة الشعرية، وفي تكوينها المائي.
وعلى الرغم من أن الكاتبة تعلن في موقف شعري قلق أن “لاشيء يغري بالكتابة”، فإنّها تكتب وتكتب باحثة عن الماء، حتى وهي تحاول تسويغ موقفها من الانكفاء عن الفعل المبدع، فالأرض عطشى، والمزن تحبس دمعها، في إشارة موازية إلى هجران الحبيب:
أرأيتَ مُزْناً إذْ تَكاثَفَ
في السَّحابَه؟
والأرضُ في ظَمَأٍ تُغازِلُهُ
ويُحْبَسُ
لايعيدُ لها جَوابَه/ ص ص80ـ 81.


حتى إن الشاعرة في دَرَج قصيدتها تنكفئ عن انكفائها، وتدعو القلم إلى الكتابة، رغم وجع الحكاية، ورغم الحنين الذي يدمي القلب، فالوجع “حبر البنفسج” وهو يمتلك القدرة على التجدد في شكل شعر جميل:


هيّا امْتَلِئْ حِبراً
ولا تحفلْ بما يجتاحني
ويلوح في الآفاقِ
من وجعِ الحكايةِ إذ يدوّي
كالحنين المستباحْ/ ص81.


تكتب الشاعرة إذن وجعها، بالعطر أو بالحبر أو بهما معاً، وتروي فصول العشق بجميع صحائفها:
إني كتبْتُ بعطرِ حبريَ في
كلِّ الصَّحائفِ فَصْلُنا عِشْقُ/ ص ص34ـ 35.


وهذا يرجّح لدينا الميل إلى أن الابتعاد عن التغني بعشق الآخَر القاهِر هو خيار الشاعرة الموضوعي، وليس خيار لاوعيها الشعري، ويرجّح ذلك أيضاً أن الحبر في مجموعتها ليس أسود، وهو بالتالي ليس حبر الغراب الذي يدلّ العاشق على كيفية دفن الذكرى، بل “حبر البنفسج” الذي لا يفقد تعبيره الرومانسي برغم دلالته على الخيبة. في قصيدة “حبر البنفسج” تقول سمر تغلبي:


سأكتب بالبنفسج آيتين
وأحمي العطر كي ترتاح عيني
وأصغي للنسيم بكل فجر
وأحمل من نداه قبلتينِ/ ص22.

هنا في هذه القصيدة يمتزج العطر بالحبر، ويخضرّ ندى الشفاه، ويُحبس ماء الخيبة أمام سؤال الشاعرة:


أيعقلُ أن يتوهَ العطرُ جوراً
ويُحبَس ماؤه في المقلتينِ؟/ ص23.

وفي قصيدة “فينيق” يعود العطر للظهور، ولكنه يمتزج بمفردات مائية جديدة، تعصر الشاعرة قلبها، لا لينزف دماً، بل ليفنى اشتهاء، ويتقطر في تجليات العطر والخمر، فتمتلئ خابيتُها بما يمتلئ به القلب، ولا يصدّقه العقل:
وأعصرُ قلبي
ليفنى اشتهاءً
ويقطرَ عطراً
وخمراً
تذوبُ به الخابيَهْ/ ص44.


(4)
يمكن ختاماً أن نخلص إلى القول إن مجموعة “قليل من الحب… كثير من السراب للشاعرة سمر تغلبي، تؤسس شعريتها على الغنائية والرومانسية التي يمكن أن يلاحظها أي قارئ، غير أن الأهم أن المجموعة تؤسس أسلوبها ومقولاتها على الصدق الفني، وهو شيء نادر في بضاعة الشعر، حتى إنّ الموضوع الذي تحاول الشاعرة أن تتخفى وراءه تكشفه لغة الماء التي تعبّر عن ولعها وولهها، رغم سعيها الدائب إلى إبعاد الآخر المتحكّم عن مدارها. ولكن أنى للشاعرة أن تتخفى وراء بوح روحها الصادقة العطشى، وأنّى لهذه الروح المقفرة أن ترتوي بغير الماء. تقول سمر في قصيدة “أنا ما كذبت”:


أنا ما كذبتُ
خمسونَ دهراً أقفرَتْ في الرّوحِ
لا عشبٌ
ولا مطرٌ
ولا برقٌ يشقُّ عبابَها
أو أنني عطراً سكبْتُ
كمْ جاءني نيسانُ لكنْ
ما روى مزنٌ ترابَ العمرِ يوماً
لم يعطِّرْ أرضَهُ ماءٌ زلالٌ
كي يجنَّ ربيعُهُ
هذا الجفافُ تشابهَتْ ألوانُهُ
والجمْرُ كَبْتُ/ ص74.


من هنا تنطلق الشاعرة لتشق عباب القصيدة إلى عاشق مفترض مجهول، ربما يقرأ النصوص في عالم الغيب، فيعيد تشكيل سيرة الماء، ناظراً إلى صورته فيه، فتعجبه القصيدة، فيأتي طائعاً مختاراً، أو تعجبه ذاته في القصيدة، فيعيش بقية عمره على شاطئها.

د. يوسف حطيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *