كيف يواجه المجتمع العراقي ثقافة العنف وتنمر غرائز القتل.


يا لبؤس مايجري في الوسط الاجتماعي و عمق الاحساس بالحزن والأسى لموجة التفكك، و مظاهر الضياع الهادفة إلى هدم أسس التماسك الاجتماعي
و دك قواعده الاخلاقية عيانا وعلى مرأى من الجميع، ناهيك عما تخلفه من فجائع و نوائب متكررة ومتلاحقة وكثافة عالية من الحزن والانكسارات، وانعكاساتها القاهرة على الاستقرار الأسري، وتهديدات تفتك في بنية العائلة العراقية .


فثقافة الموت تحصد هدوء الامهات وتغتال أحلامهن وتدوس على صبر الأباء و تسحق ورع قلوبهم..
الشفرة (السكين) الحادة التي تستأصل خيوط الحياة، وتوأد الفرح وتنشر الحزن واليأس في محيا الحياة الجميل، هي شفرة تتناسل بخبث بيننا وتكبر تحت عيوننا، نغذيها بصمتنا وبتجاهلنا وعدم تمثيلنا للمسؤولية اللازمة بشكل صحيح، خاصة في اللحظات التي يحتم فيها علينا أن نقف حازمين بوجه صغار التجاوزات و علائم الانحرافات لما يحملان من بذور سامة وشرور مستطيرة، تكبر رويدا بيننا وتمد جذورها عميقا في بيئتنا وتورق نبتتها الجهنمية في كل زقاق
و بيت وتستوطن الأرواح المهيئة لإنباتها بالثمر المر والسموم القاتلة و تصبح حقول الغام معدة لصيد الأبرياء. ان أدوات القتل من خناجر وسكاكين واسلحة نار ووسائل متنوعة هي أدوات حديدية صماء جامدة من غير شعور أو حس ، وليس لها اخلاق أو وجدان لتعي الوجع والألم و العتاب واللوم أو نحملها مسؤولية الجريمة، لأن المسؤول عن الجريمة هو الإنسان، الذي وقع في شراك العنف وخضع إلى ثقافة العنف وتماهى مع محدداتها. ان ثقافة العنف ملأت النفوس عيانا وأغرقتها بمزايا عنيفة تسير بايقاع سريع متلاحق تحتل به قلاع العقلانية والتمدن و تخترق مواقع القانون الحصين وتشكل مساحة عريضة لانتشارها تكاد ان تغطي واقعنا بمجمله. ان صمت الدوائر والمؤسسات ذات المسؤولية واخفاقها في التغلب على العنف يعد من علامات هيمنة خطاب ثقافة العنف وسيطرتها على مفاصل تلك المؤسسات وفي مستويات متنوعة، تبدأ بمؤسسات الدولة الأمنية و التربوية والثقافية، فلاشك أنها تمثل المستوى الأول المسؤول عن تطويق العنف والحد من انتشاره في المجتمع، و من حق المواطن أن يسأل عما قدمته هذه المؤسسات في مجمل وسائلها الرادعة من خطوات عملية للحد من انفلات السلاح في الوسط الاجتماعي، وانتشاره خارج سيطرة الدولة، ويعم سوال الناس ليشمل جهود تلك المؤسسات وبرامجها في توسيع دوائر الوعي الاجتماعي العلمية والثقافية والتربوية في ترسيخ وتعميم ثقافة المواطنة و ثقافة الديمقراطية التي ترتكز على احترام كرامة الإنسان وحريته وحقوقه المتنوعة في العيش الكريم وحق الحياة و الحريات العامة وحق الرأي الحر وحق الاختلاف وما الذي أنجزته في تعميم ثقافة التسامح عموما وبين المختلفين بالأخص وفي تعميم الطرق السلمية في حل النزاعات، واعلاءها من قيمة الإنسان وحقه المقدس في الوجود .

والمستوى الثاني في المسؤولية هو المؤسسات الدينية و رجالاتها المنتشرين في كل أركان المجتمع ، ويحضون بمنزلة واحترام من الاوساط العامة كافة تمكنهم من التحرك الايجابي في الوسط المجتمعي وبسط ثقافة التعاون والتآزر ونبذ العنف وتقييد حركته وفق أساليب متنوعة فاعلة يدركها رجل الدين الاصلاحي. أما ثالثا فيما تتحمله المؤسسة العشائرية وهو القسط الأوفر من المسؤولية وذلك لاهتمامها بسلامة الفرد العائد لها و تواصلها الدائم مع الجميع مما يلزمها ان تكثف من طرق الإدارة الناجحة و المعاصرة في تسيير شؤون عشائرها واعتماد منهجية حديثة توازن بين قيم الشريعة الإسلامية السمحاء و نصوص الأعراف والسواني و مبادئ القانون المدني ومفاهيم حقوق الإنسان واتباع الخطوات الجذرية الحاسمة ضد الانحراف والتمادي الحاصل في سلوك الأبناء والتابعين للعشائر كافة، وتفعيل أساليب الإصلاح و المعالجة ومتابعة الوقائع ومنع تداعياتها وتأثير اتها في حفر اخاديد عميقة في بنية المجتمع . ان دور المؤسسة العشائرية مهم في تثبيت عرى التآلف والاستقرار و التماسك الاجتماعي وياتي من خلال اعطاء الفرصة للنخب الثقافية والعلمية في العشيرة لان تشترك في تسيير الشؤون العامة العشيرة وزجها في مجلس العشيرة بدلا عن الوجوه غير المعول عليها في عمليات الإصلاح. والعمل على تحديث ميزان السلوك العام ومواجهة جيوب الانحراف وبؤر الفساد في الوسط العشائري وبسط ثقافة التشاور والعقلانية والحكمة ونبذ مظاهر العنف و الافتراء والتبجح وتمتين قواعد العلاقات الإيجابية المرنة ووضع الحلول الكفيلة بعلاج المسيئين بالتنسيق مع آبائهم وذويهم قبل تفاقم الحال وبلوغه إلى مالا يحمد عقباه.

ان وحدة الجهود الوطنية لجميع الأطراف أعلاه في المسؤولية عن تطويق ثقافة العنف أمر يعد من أساسيات البناء الاجتماعي، لان مجتمعنا يتعرض لموجة تأثيرات قصوى (داخلية وخارجية) ماجعله ساحة مفتوحة لتلك الموجة وعواملها المختلفة :
1- ضعف دور الدولة وعدم تماسكها بفعل برامج المحاصصة الطائفية والعرقية و تفاقم الفساد في بنيتها
و اعتماد الاقتصاد الريعي وموت الصناعة والزراعة ومجالات الاقتصاد المتنوعة ما سبب في انتشار البطالة والعوز والفقر.


2- هيمنة الذهنية القبلية والطائفية كبدائل سائدة منافسة لدور الدين القويم و العقلانية والتمدن وأسس المجتمعات الحديثة. وذلك لعدم تناول الموروثات القبلية بالتحليل النقدي والعلمي طوال عمر الدولة العراقية الحديثة (1921-2024).


3- الموجة الخارجية المصاحبة لثورة الاتصالات ووسائل التواصل الاجتماعي والتي استثمرتها جهات خارجية لتصدير مظاهر الانحلال و التفسخ الاخلاقي والقيمي وتوجيهها لتدمير نسيج المجتمع العراقي، وتهديم العائلة كمرتكز اساس للبناء الاجتماعي.
وفي خضم هذا الواقع المأزوم
ناتي بمثال فاجع عن مقتل احد الشبان الأبرياء يدفع حياته على ضوء خلاف عادي وقع في مباراة ترويحية في ملعب خماسي لكرة القدم في مدينة الصدر بغداد ، وهي صورة متكررة ومستمرة الحدوث تعكس جليا مستوى الازمة السلوكية المتفاقمة سوءاً و تبين بوضوح ما وصلت اليه الأمور.
قتل بشراسة لاختلاف بين الفريقين على صحة أو عدم صحة احد الأهداف المسجلة في المباراة الودية الجارية في أجواء الصداقة. هل ان الرياضي الذي يحمل في مباراة ودية سكينا أو أداة جارحة يقتل بها زميله يتمتع بشيء من قيم الرياضة التي ألفها المجتمع العراقي، قيم ( الحب – الطاعة-الاحترام ؟
هو لا يتمتع بشيء من خصائص الإنسانية والتمدن والثقافة ، والاكثر انه لا يتمتع بخصيصة تربوية، وإلا كيف فتك بحياة زميل (صديق له) بعمر (15 عام) بريء، مسالم حرمه جمال الحياة ونعيمها وخيرها القادم، وفجع عائلته وأحرق قلوبهم بلوعة لا تبرد.
وتعدى تأثير حماقته فجعلته يفتك بنفسه حين تحول إلى مجرم، وقاتل، وسجين، مما أضاف إلى اهله عبئاً ثقيلا و هموما مضاعفة. نسأل الله أن يوفق الجهات التي ذكرتها آنفا في ان تقوم بدورها ومسؤوليتها في حماية المجتمع من مظاهر العنف والتخلف و الحماقة.

الكاتب كامل الدلفي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *