مما لا شك فيه أن الجبهة اللبنانية كانت ولا تزال جبهة إسناد وثقل حقيقية. دخلت الحرب، ولو بشكل محدود ومدروس، من يومها الأول، وخففت ضغطًا كبيرًا عن غزة، وأرقت العدو، وجرته لحرب استنزاف بالقطارة، عجز عن توسيعها أو إيقافها لكثير من الوقت، باعترافه. وما خرج من تقارير عن الخسائر الاقتصادية والنزوح الجماعي في الشمال خير دليل.
خاضت المقاومة اللبنانية حرب الاستنزاف على جبهة الإسناد بحنكة استراتيجية عالية في أشهرها الأولى. وبذلك، أسندت غزة. فقئت عيون العدو على طول الحدود، وتجنبت المواجهة المباشرة مع الغول الأمريكي الذي سارع في إرسال بارجاته إلى المنطقة. وهنا تكمن حنكة المقاومة اللبنانية في امتصاص الصدمة وعدم الانجرار إلى ما خطط له نتنياهو.
هذه النجاحات التراكمية زادت من سخط نتنياهو الشخصي على الجبهة اللبنانية، وجعلته يرى فيها خطرًا محدقًا قد يفوق الخطر القادم من الجنوب. ولكن في هذه الفترة، تقريبًا بعد خمس أشهر من الحرب، مع احتدام المعارك في خانيونس، شددت على ضرورة الانتقال لوحدة الساحات بحدة أكبر، كون الأهداف مشتركة، والعدو سينتقم بكل الأحوال. فالمواجهة الشاملة بتوقيت المقاومة وغزة تشاغل ستة فرق عسكرية، والعدو مثخن بجراحه، خير من الإلتحام المنفرد الالزامي بعد التقاط العدو أنفاسه وترتيب أوراقه. وخصيت بالذكر الضفة الغربية وجنوب لبنان من باب الحرص والتنبيه.
لكن ما جرى هو أن المقاومة في لبنان استمرت على نفس النهج، واكتفت بالنجاحات التكتيكية التراكمية التي كانت غاية في الروعة، والتي لا أقلل من أهميتها، بينما كان العدو يعد العدة لهجمة ضخمة شرسة يُراد بها قصم ظهر المقاومة في لبنان، والخروج من حالة اللاحرب الاستنزافية في الشمال، بدعم غربي لا محدود، وتحضير منذ بداية العام 2024 حتى موعد التنفيذ في سبتمبر 2024، بما عُرف بهجمات البيجر واللاسلكي.
أتبع العدو الهجمات بجملة من الاغتيالات على كافة الأصعدة، حتى وصلت لاغتيال الأمين العام لحزب الله بحارة حريك في الضاحية الجنوبية لبيروت. أُريد من الهجمات أن تكون متتالية وقاصمة كي لا يستطيع الحزب الاستفاقة من الصدمة. ومرت لبنان بأسبوع ضبابي مع بداية تنفيذ ما خطط له العدو. تبع هذه الاغتيالات سلسلة من الغارات الانتقامية التي استهدفت الحاضنة الشعبية في الضاحية الجنوبية عمومًا، وحارة حريك خصوصًا، التي تعتبر المعقل الأساسي للمقاومة وتحمل رمزية كبيرة لديها. ولم يسلم الجنوب أيضًا منها.
بعد هذه المرحلة، كان ممكنًا أن يتوقف نتنياهو ويصدر الحالة على أنها انتصار، وعلى أنه حقق في لبنان في غضون أيام ما لم يحققه في غزة. إلا أن العنجهية والمكيافيلية المتشبع بها دفعته للكثير من المجازر الانتقامية التي أفرغت الضاحية، ونتج عنها قرابة المليون نازح.
بعد الأسبوع الضبابي الذي كان كفيلًا بتدمير دولة، بدأت المقاومة بالتكيف ودخلت في حالة الدفاع، وبدأت إعادة الهيكلة. حيث عادت الصواريخ لتضرب الشمال، واستمرت العنجهية. إلا أن خففت صواريخ إيران الفرط صوتية والمفاجئة الضغط عن لبنان ومقاومته، وأعطته الوقت الكافي لترتيب أوراقه تحضيرًا لمرحلة ما بعد الصدمة.
منذ الأيام الأخيرة، رأينا تغييرًا كبيرًا بالنهج والأسلوب، حيث عادت المقاومة لما نبهنا به قبل أشهر ضرورة المواجهة المباشرة، وإيلام العدو لمنعه عن البطش، وتغيير المعادلة التي حاول فرضها بعد هجمات البيجر. ولعل كمين إحباط التسلل الشهير في جنوب لبنان، الذي خلف عشرات الضحايا والإصابات، واستهداف المعسكر، تطور ملحوظ في حدة ونوعية الهجمات، وتوضيح لمعالم الوضع الأقرب للمواجهة المباشرة، والانتقال للهجوم المركز والكمي. وهذا أكدته خطابات نائب الأمين العام نعيم قاسم.
لا شك أن المقاومة في لبنان تعرضت لاختراق بنيوي خطير نجم عنه ما جرى في الأسبوع الضبابي، بدعم غربي مهول وتخطيط منقطع النظير، وخسرت على إثره صفوة القادة السياسيين والعسكريين. ولكن في الجانب الآخر، وحشية الهجوم دليل كبير على أن جبهة لبنان استنزفت العدو حتى النخاع، وجعلته يترنح لأشهر، وأن هذه الوحشية كانت كفيلة لتحطيم دولة عظمى، وليست دولة تمر بأزمات خانقة كلبنان.
والمهم أن الفراغ تم ملؤه، وأن المرحلة القادمة ستكون صعبة على العدو. والدمار سيعني الدمار، والصواريخ ستطال حيفا وما بعد حيفا، فالاغتيالات لطالما زادت من قوة المقاومة، وليس العكس.
الكاتب والباحث محمود النادي