صباح شروق الغروب، أيمكن للمأساة أن تقلب موازين الشروق رأساً على عقب؟! أم أن الحزن يحجب عني أشعة الشمس الذهبية؟!
نور لطالما اعتدت توهجه، ها هو اليوم يتلاشى في دهاليز الغروب باكرًا. أهو غروب حقيقي أم من وحي الخيال؟ حقًا لا أعرف! هنا غزة والساعة العاشرة بتوقيت الخيبة.
أسدلت ستائر نافذة غرفتي، التي أصبحت في الآونة الأخيرة أشبه بنوافذ السجون. صرت أكرهها بحجم حبي لها سابقًا. أكاد أصرخ في وجهها: “أيتها النافذة البغيضة، كفي عن إيصال رسائل المأساة، كفا عن تصوير الواقع الدامي!”
العالم في الخارج بات قاسيًا بشكل مفرط وغير حقيقي. يذكرني بمدن الأشباح في أفلام الرعب أو بالصور الخيالية التي كنا نرسمها لهكذا مدن، كلما روت لنا الجدات إحدى تلك القصص.
آه جدتي، أنتِ حكاية أخرى. لو أنك هنا الآن وترين ما يحدث حولنا. أكاد أسمع كلماتك ذاتها: “وين الملايين.” لا أدري حتى اليوم أين تتلاشى وتختفي الملايين، كلما تعلق الأمر بمأساة شعبنا؟!
خطرت لي فكرة، سأكتب لكِ رسالة عن أخبار حينا. ستكون أم مريم هي الخبر الأساسي في رسالتي. لا أظن أنك قد تنسينها، أم البنات لقد فقدت كل بناتها في لحظة واحدة. الأكثر ألمًا أن سلسلة الفقد لم تتوقف هنا، لقد فقدت عقلها.
يعود لي مشهد من مسلسل التغريبة الفلسطينية، إحدى أعمال العملاق حاتم علي، يذكرني بتلك المرأة، أم سالم، التي كانت ضحية من ضحايا التهجير أثناء حرب الثمانية وأربعون.
عندما خرجت من منزلها خائفة وتظن أنها قد حملت ابنها الرضيع، لتكتشف مأساة تقف العقول عاجزة عن تصديقها، وهي أنها قد اصطحبت مخدة بيضاء متوهمة أن ما حملته معها هو طفلها. وظلت على هذا الحال تعامل الوسادة البيضاء كأنها روح ودماء.
إلى متى ستظل هكذا أم مريم؟! هل ستصحو ذات اليوم كما صحت أم سالم؟! وتدرك أن جميع بناتها قد ذهبن إلى المجهول، تلاشوا من نافذة السماء التي تبدل أثوابها كلما بدلت الحرب غنائمها.
فلو سُرقت الحرب طفلًا من أحضان والدته، لوجدت السماء ترتدي الأسود حدادًا. وكلما غمرت أم طفلها في صباح السلام عادت لتشرق بثوبها الأزرق. هل من كاميرا تستطيع اختراق كل هذه الجدران لترى مأساة الأمهات التي تقبع خلفها؟!
ثمة أبنية بأكملها قد سقطت، وأبنية ظلت على صمودها تحافظ تقف في وجه الوحشية المدمرة بجروح نازفة. أكاد أشتم رائحة ثنائي أكسيد الدمار، أظنها مزيج من رائحة القلوب المتفحمة ورائحة الأشلاء والجثث العالقة تحت الأنقاض. ورائحة الدماء أيضًا تعم المكان، كأن الأرواح تركت توقيعها الأحمر في كل مكان.
آه يا جدتي لو تعرفين صعوبة المزج بين الأسود والأحمر. صباح أسود كحقد الاحتلال وأحمر كتوقيع الأهل والمعارف والأصدقاء على بقايا أحياء.
جارتنا البعيدة قد سمع الكون بأكمله صوت نحيبها تصرخ قائلة: “الولاد ماتوا بدون ما ياكلوا”. كم هي غريبة عاطفة الأمومة، أتظنين أن سيدة تخاف موت أطفالها بأمعاء خاوية هي سيدة صائبة العقل؟!
لا جدتي، هي أم قبل أن تكون سيدة، ولأنها أم، عاطفة الأمومة سلبتها عقلها، جعلتها تندم على طعام لم ترزق به لتطعم أطفالها. لكن أطفالها ماتوا قبل أن يحيوا. كان النحيب المنطقي: “الولاد ماتوا بدون ما يعيشوا”. أيعقل لإنسان أن يموت قبل أن يحيا؟!
كل الأطفال هنا ماتوا قبل أن يحيوا وقبل أن تكبر آمالهم، أحلامهم وطموحاتهم. كأن شريط حياتهم توقف في المشهد الأول، كل ما تمنوا فعله بقي معلقًا في أعناق الضمائر الصامتة.
والآن جدتي، أما زال سؤال “وين الملايين” يكفي؟! إلى اللقاء جدتي، لرسالة جديدة. أتمنى أن تحمل في سطورها الأمل والأخبار السعيدة التي ستقلب موازين الحي كلها. فلابد أن يعود حينا كما كان، عندما غنت فيروز سنرجع يومًا إلى حينا كانت هي البعيدة عن الحي….لكنني اليوم أشعر أن الحي هو البعيد عنا. أكاد لا أعرفه. ما أصعب هجرة الأمان، يترك ملامح أي حي مشوهة. رحت استعجل إغلاق الرسالة ووضعها في ظرف كبير. كنت أعتقد أنني أحتاج مزيدًا من الرسائل، بل مزيدًا من الحروف لتروي ما يحدث خلف نافذتي.
في حوزتي سرب من الأخبار. سمعت صوتًا وكأنه صوت موسيقي بحت، صوت عذب رحيم عطوف معطاء كان صوتًا معطاء إلى حد اللاحدود. أعرفت يومًا صوت يملك أذرعًا يعانق بها؟! أنا أعرف إنه صوت أمي. صوتها يهبني من الدفء ما تعجز عنه كل معاطف العالم. صوتها يحتضنني بقوة تجردني من قوتي، تجعلني طفلًا صغيرًا مهما كبرت.
في مثل هذه اللحظات، يكون صوت والدتي هو طاقم الإنقاذ، ينقذني من تشوه المكان، من يأسي، من حزني. أكف عن التفكير في أي شيء وكل شيء، ولا يسعني إلا أن أركض نحوها.
ها أنا الآن انسلخ عن عالم مخيف لعالم الأمان. أمي دومًا كانت أحضانها تعتذر لي عن قسوة العالم الخارجي، وهذا شعوري المفضل. ابتعدت عنها ببطء، كنت أخشى زوال الأمان، لكنني ابتعدت مرغمًا في كل فراق. ثمة أحد ما يبتعد مرغمًا، هذه عبثية الخيبة!
كنت دائمًا أتوسل للقدر أن يعفني من أي فراق. لا زلت أصغر من الفقد، فلم أكمل عامي الخامس عشر بعد. خرجت من المنزل أحضر لأمي طلباتها من دكان العم فارس. هبطت الدرج وشعرت بوخز في روحي. عدت للمنزل دون أن أدري السبب الحقيقي لعودتي.
ظننت أن الكتاب هو السبب، كتاب صديقتي حنين الذي استعرته لإكمال واجباتي المدرسية. ابتسمت لي أمي، ابتسامة تغلغل بها الحزن. دخلت غرفتي، اصطحبت كتاب حنين، وكإشارة إضافية أخذت ظرف الرسائل. كان حدسي يرسل أصواتًا غريبة، تشبه صوت المنبه صباحًا، لكنني لم أصغ له. تجاهلته خوفًا وأكملت دربي.
هي بضع دقائق فقط، تكاد تكون جمعًا ثلاثمائة ثانية. جعلتني أكبر ثلاثمائة عامًا! حنين كم كان لكِ من اسمك نصيب. كل ما تركته حولي حنين أحرق شغاف قلبي. حنين لوجهك، صاحب الملامح البريئة التي لولا وجودها لنسيت درب مدرستي. حنين كلما غابت يومًا عن المدرسة، غابت معالم الطريق وغابت ابتسامة تندثر من بوتقة الألم. ابتسامة تشرق في صباحي كما الشمس. ها أنا الآن، ابتسامتك تغرب مع عمر أقصر، أقصر من أن يحمل عبء هذا الاسم! عمرك كان أشبه بعمر وعمري بعدك لا يصلح لأن أسميه عمر!
كان خوفي يدفعني لأحضان والدتي بقوة. رميت الأكياس من يدي ورحت أركض باكيا باحثًا عن صدر أمي وحنانه وسط جليد من القسوة. وصلت وليتني لم أصل. كم تمنيت لو كانت المسافة بين منزل حنين ومنزلي أكبر من ذلك لعله يتغير شيء ريثما أصل، لكن قدري جاء مركبًا سريعًا، فلا وقت لتغيير شيء وبطيء عن نهاية غير عادلة. تأخرت عنها بضع دقائق. نهاية حملت أمي وصديقتي في يوم واحد وتركتني أقيم حدادي على ركام مأوى كان يومًا دافئًا بوجود أمي. انحنيت على الحجار بعدما خذلتني أقدامي ولم تعد تقوى على حملي. حطت ركبتي على كومة حجار قاسية كقدري. بقيت مكاني اتعثر بالخوف كلما حاولت النهوض بعدك.
لا أمان يا أمي. يجتاحني صوت من طفولة ليست ببعيدة. صوت تلفاز قديم في غرفة معيشة دافئة وتتملكني كلمات تلك الأغنية (أنتِ الأمان أنتِ الحنان من تحت قدميك لنا الجنان عندما تضحكين تضحك الحياة). قدري ألا تضحك لي الحياة مجددًا.
تسمرت مكاني بخوف وضعف كل أطفال العالم. أقيم حدادًا على أرواح من أحب. أقدم التعازي لنفسي ولا أقوى على تقبلها. أيمكن لطفل تقبل كل هذه الخسارات دفعة واحدة؟!
أنا أصغر من احتمل كل فقد. قد يفوقني حجمًا. حل المساء وأنا احتضن نفسي وأصبرها على علقم الفقد. أحسست بدفء يد والدي تربت على كتفي. عرفته قبل أن التفت نحوه. نظرت لسماء حالكة شاركتني حدادي وارتدت الأسود. قلت لوالدي بصوت مرتجف خائف يبحث عن فتات قوة ليكمل جملة واحدة فقط: سأذهب لها.
ركضت لدكان العم فارس اخذت شمعة وكبريت ورحت أستعجل الوصول لها. وصلت لقطعة رخام باردة حجبت وجهًا أحببته بحجم السماء ووالدي يلحق بي دون فهم ما يحدث. أنرت شمعتي الصغيرة وتركتها على حافة القبر. نظر والدي إلي متعجبًا مما فعلت.
قلت بفخر من أبدع في إنجاز شيء: حنين تخاف الظلام. لأن أتركها لظلام القبور سقطت دموع والدي في خلسة عن الصمود. أطفئ شمعتي قائلاً: لكن يا مجد يا صغيري، ظلام القبور يتلاشى كلما رتلت لها آيات القرآن الكريم. أدعو لها بالرحمة وستنير قبرها بالدعاء.
الكاتبة الإعلامية يارا فريج